علاقة الديمقراطية بالضريبة وطيدة جدا، حتى أن هناك من قال أن لا ديمقراطية بدون ضرائب. لقد ولدت الديمقراطية من رحم الضريبة، حيث شكل الترخيص البرلماني الذي جاء ليحد من هيمنة الملوك في الجباية والإنفاق، أساس نشأة االنظام الديمقراطي في بريطانيا وفرنسا…
في حين بقي حق الانتخاب، الذي هو أساس الديمقراطية، لمدة طويلة حكرا على من يؤدون الضرائب، ولم يتم تعميمه إلا بعد أن تم تعميم المساهمة في تمويل تكاليف الدولة.
وفي أمريكا تمت التعبئة للثورة والدعوة إلى استقلال البلاد، بناء على مقولة أن لا ضرائب بدون تمثيل. لقد ربح صانعو استقلال أمريكا رهانهم على قاعدة تأليب الأمريكيين ضد الملك جورج الثالث بدعوى أنه فرض عليهم ضرائب بدون موافقتهم.
إبن خلدون هو الآخر انتبه إلى أهمية الضريبة، وربطها بالعدل كشرط أساسي للانتعاش الاقتصادي، وقال أنه على قاعدة هذا الانتعاش تتم الزيادة في الضرائب، للزيادة في موارد الحكومة، بشكل يضمن توسيع بنود الانفاق الحكومي، الذي يعد شرطا للاستقرار السياسي والاقتصادي…
لا أريد أن أخوض عميقا في تأصيل علاقة الديمقراطية بالضريبة، لأن الضريبة اليوم هي كنه العقد الاجتماعي الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الدولة بالمجتمع، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل من الناحيتين السياسية والاجتماعية أساسا.
لقد أصبح جائزا اليوم الحديث عن العقد الضريبي بدل الحديث عن العقد الاجتماعي الذي نظر له الانجليزيان توماس هوبز وجون لوك والفرنسي جان جاك رو سو. ومضمون هذا العقد أن تفرض الدولة الضرائب في حدود طاقة المكلفين مقابل توفير الخدمات الضرورية للمجتمع.
من الناحية الاقتصادية أصبح معروفا أن الكثير من الضرائب يقتل الضرائب، ومع ذلك تستمر الحكومة في بلادنا في ممارسة ضغط ضريبي لا يطاق على الملزمين وخصوصا الأجراء منهم. لقد صدمني أن تلجأ الحكومة، في مشروع ميزانية السنة المقبلة، إلى الزيادة في نسب الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة لمواد أساسية واسعة الاستهلاك لدى الفئات محدودة الدخل.
نظريا يبدو أن الهاجس في هذه الزيادات الضريبية هو ما ستدره من إيرادات للخزينة العامة، مادامت هذه الضريبة عمياء، ولا تراعي الأوضاع الاجتماعية للمكلف. لكن توقعات الحكومة بخصوص النمو الضعيف لعائدات هذه الضريبة في مشروع قانون المالية ذاته يجعلنا نبحث عن سبب آخر لهذه الزيادة.
لو بحثنا على أثر اقتصادي للزيادة في هذه الضريبة في وقت يعيش في اقتصادنا واقتصاديات شركائنا الأساسيين حالة الانكماش، لوجدنا أن هذه الزيادة تسير على عكس ما ينبغي فعله. حيث أن السيولة المتداولة محدودة ولا تتناسب مع كمية السلع والخدمات المنتجة والمعروضة للبيع، مما يتعين على الحكومة أن تسعى لخلق توازن جديد يعيد الأوضاع الاقتصادية إلى الاستقرار والانتعاش، عبر خفض معدلات الضريبة وزيادة حجم الإعفاءات.
إذن لا عائدات مهمة تبرر هذه الزيادة، ولا أثر إيجابي على النمو الاقتصادي. فهل نتوقع أن تساهم هذه الزيادة في تكريس مبدأ العدالة الاجتماعية الذي ناضلت من أجله قوى اليسار، والذي نص عليه الدستور الجديد؟ هل تهدف هذه الزيادة إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وإعادة توزيع الدخل بين فئات المجتمع؟
من الناحية النظرية تعتمد الضرائب غير المباشرة على معدلات ثابتة تطبق على جميع الملزمين بغض النظر عن قدرتهم الشرائية، كما أنها لا تتضمن أسعار تفضيلية، مادامت الحكومة عازمة على تطبيق سعرين فقط، لمراعاة الأوضاع المعيشية للمكلفين.
إن ما سبق يعني أن الحكومة الحالية التي رفضت مبادرة فرض ضريبة على الثروة، وتلكأت في تضريب الفلاحة، وأثقلت كاهل الطبقة الوسطى بضرائب مباشرة، لا تنوي تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية وصيانة مكتسبات فئات الشعب المغربي الهشة من خلال الزيادة في هذه الضريبة. بل هي مصرة على تفقير الفقراء والحفاظ على التوازن المملى للمؤشرات الماكرو اقتصادية بقطع النظر على مخلفاته الاجتماعية والاقتصادية.
ومع أن هاجس الحكومة بالنسبة للضريبة عموما هو ما تدره على الخزينة العامة من موارد، فإن المطلوب اليوم هو أن يصبح للضرائب دور حقيقي في رسم السياسة الاقتصادية في المغرب في اتجاه رسم الخطوط الكبرى للنمو وإعادة توزيع الثروة في المجتمع.
وهي مهمة يكفي اعتمادها لقياس مدى الحس الديمقراطي للحكومة، ذلك أن العلاقة بين الضريبة والديمقراطية لازالت وطيدة، وستبقى كذلك…