عمق في التفكير، ووضوح في الرؤية، وصراحة وشجاعة في طرح الأسئلة الجوهرية التي تغوص في انشغالات الأمة، وتقديم المسالك الاستراتيجية، تصورا وتنفيذا، لتحقيق التقدم المنشود الذي يقوي عضد الكيان المغربي بين الأمم ويحقق الرخاء المشترك لكل أبناء الأمة. تلكم بعض ما ينضح به الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش.
يجب أن يكون هذا الخطاب الملكي، بسماته هذه، مرجعا أساس للنخب السياسية والمجتمعية في مساءلة الذات بشجاعة وصراحة، تقييما وتقويما، وفي إعادة صياغة اسئلتها حول المرحلة، بما يجعلها مؤهلة للانخراط الكلي، كل من موقعه، بدون تحفظ، قلبا وقالبا، في أوراش الإصلاح والتحديث التي فتحها جلالة الملك استجابة لمتطلبات المرحلة وروح العصر، ولتطلعات أبناء الشعب في المغرب الجديد الذي يضمن النماء والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
الزمن المغربي الراهن، مع الأسف، أزمان.. فإذا كان الخطاب السياسي في الشكل، موحد إجمالا، حول الدمقرطة والتحديث والمساواة بين كل المغاربة.. فإن الخطاب السياسي فكرا وسلوكا، وسط النخب خطابات.
والخطاب الملكي، بما يطبعه من انسجام ووضوح في الفكر، وقوة في الإقناع، يعكسان وضوح الرؤية، ونزاهة وصدقية الإرادة السياسية في بناء مغرب التقدم والمساواة، مع ما يستلزم ذلك من شجاعة في البوح بالمكنون، وإن كان بعضه مرا.
ومع ما يزخر به الخطاب الملكي من ثراء في منهجية التفكير، وطرح للأسئلة الجوهرية العميقة بجرأة، وتقديم للمسالك العملية لتقويم المسار وتجويد حياة المستقبل والمصير لكل أبناء الأمة. فإنه يبرز، بتشريح المسار وفرز المكاسب والعوائق، دون تهويل ما لا يقبل التهويل، وباستشراف متحفز لمستقبل مشرق.. يبرز الانشغال الملكي الأساس، ألا وهو، كيف السبيل إلى جعل كل تقدم للبلاد يخدم الرخاء المشترك لكل المغاربة، ويضمن المساواة بين كل أبناء الأمة. إنه الهاجس الأساس الذي يعبر كل مضامين الخطاب الملكي. وبالطبع التوزيع العادل للثروة، يشترط قبل ذلك انتاجها والرفع منه.
وإذا كان المغرب قد عرف طفرة نوعية في عهد جلالة الملك محمد السادس، على مستوى إرساء البنيات التحتية المهيكلة للنشاط والإنتاج الاقتصاديين، بمشاريع عملاقة لم يكن يتخيلها المغاربة، كما عبر عن ذلك جلالة الملك، فإن صورة مغرب الغد القريب المنشود، لن تكتمل إلا باستثمار كل المؤهلات الوطنية في التنمية. وتحديدا، بتجاوز النظرة الاقتصادوية للتنمية، وإعطاء هذه الأخيرة بعدها الاجتماعي الإنساني. وهذا ما يؤسس له الخطاب الملكي ويرسي آلياته، بالدعوة إلى اعتبار الرأسمال الوطني غير المادي في إنجاز النموذج التنموي المغربي.
وهو في ذات الوقت رد اعتبار لهذا الرأسمال الوطني التاريخي والثقافي والبشري، وإدماجه كمعطى أساس في رسم ووضع السياسات العمومية..
وهي المهمة التي لن يقبل الالتفاف حولها من الآن فصاعدا، والملقاة على عاتق النخب، التي لن تستحق هذه الصفة، إلا إذا أهلت ذاتها للإبداع والتنفيذ في إطار هذا التوجه.