– عبد اللطيف الورياغلي
إن مفهوم البناء الديمقراطي قد جرى تعميمه في ثقافة الدول العربيةبالاختصار علىالمؤسسات السياسية، وتم إغفال أهمية باقي المؤسسات العسكرية والأمنية والقانونية والإعلامية والخدماتية والمجتمعية، التي يمثل استقرارها ومهنيتهاوحياديتهاوبعدها التام عن التأثيرات السياسية عنصراأساسيا لقيام دولة القانون والديمقراطية والتعددية السياسية، لمنع ظهور نزعات الحكم الفردي أو حكم الحزب الوحيد، أو انقلابات على أنظمة الحكم المنتخبة وتعطيل الحياة الدستورية، كما على الدولة أن تكون قادرة على التكيف مع التغيرات التي يمكن أن تطرأ على البنية السياسية.
فلا يمكن تصور نجاح أي تغييرديمقراطي أو تداولسلمي للسلطة في أي بلد دون بناء مؤسسات الدولة على مختلف الأصعدة والوظائف والمهام، مع ضرورة امتلاك كل مقومات ضمان الاستقرار والاستمرارية، وإذا كانت المؤسسات هي التي تعطي للبلدان هويتها، فإن عملية مأسسة الدولة تتطلب وجود نظام سياسي ديمقراطي تعددي متجانس ومتماسك، يحظى بدعم وتأييد أغلبية الشعب، مما سيخلق جوا مستقرا يسمح بتنظيم العلاقات الداخلية بين المؤسسات، والمضي قدما في صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية وفق حكامة رشيدة في وضع يسوده الاستقرار والطمأنينة.
لقد أصبح الحديث عن دولة المؤسسات فارضا حضوره كلما تمت مناقشةالأوضاع التي آلت إليهاالبلاد، فإن الحراك الشعبي المعارض أو ما سمي بالربيع العربي قد أماط اللثام عن ضعف البنية المؤسسية للدولة، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
ولسنا مبالغين إذا قلنا على أن الحديث عن الديمقراطية يكون فاقداً لمعناهومضمونه دون وجود دولة المؤسسات، فالديمقراطية تصبح مفهوماً مجرداً وعديم القيمة إذا لم تُشكَّل مؤسسات الدولة المبنية على أسس وطنية خالية من الذاتية والمحاباة واضعة صوب عينيها خدمة المصلحة العامة، لأن حكم الأفراد والأحزاب متداول، أما المؤسسات فهي باقية.
علينا تعزيز وتقوية الدور الرقابي المحايد للمؤسسات في مواجهة احتمال تغول سلطة الحكومة، على أن يسبق ذلك إعادة بناء المؤسسات على أسس حديثة تحقق المعيار الذي يجمع بين حفظ حقوق المواطنة والمساواة الاجتماعية، وتفعيل القانون دون تمييز، وحيادية المؤسسات العسكرية والأمنية، والدور الرقابي للإعلام بضوابط مهنية صارمة.
يجب التخلص في أقرب الآجال من المعوقات التي تقف في طريق التحول الديمقراطي في البلاد، حتى على مستوى الطموح، وأهمها،منع نمو أي شكل من أشكال الحذر من الفعل السياسي المعارض، وإشاعة ثقافة الخوف من ممارسة العمل السياسي لفرض عزوف عن المشاركة السياسية داخل المجتمع، واستعمال المال الحرام من طرف المفسدين للاستحقاقات الانتخابية، والتلاعب بنتائجها.فتزوير نتائج الانتخابات يعتبر جزءا من الوظيفة القمعية للجهات التي تريد إفراز خريطة سياسية معينة، من أجل ضمان السطو على صلاحيات السلطات التنفيذية في الدولة، والضرب على نعرة الجهة أو القبيلة.
لقد لمس الحراك الشعبي أهمية عملية بناء دولة المؤسسات برفع شعارات تطهير مؤسساتالدولة والإدارات من الفساد، لبناء استقلال القضاء، مع العمل على محو الفكر ألظلامي الذي كان يبني مؤسسات الدولة على أساس أنتكون أداة من أدوات بسط السيطرة على المجتمع والاستحواذ على مقدرات الدولة. لكن ما تحقق على هذا الصعيد خلال المرحلة الانتقالية كان مخيباً لآمال، فرغم دستور يوليو 2011، والذي استجاب للعديد من التطلعات، غير أن تنزيله وتفعيله ما زال يشهد تعثرات مما يضع علامات استفهام مريرة على مستقبل التغيير في بلدنا، سواء على مستوى الحفاظ على الطابع السلمي والاستقرار الأمني للبلاد أو من جهة قطع المرحلة الانتقالية بسلاسة ومراكمة انجازات جذرية على طريق بناء دولة المؤسسات.
فالقرارات اللا شعبية لأي حكومة كيفما كان لونها السياسي تعرض استقرار البلاد إلى الخطر، وهي لا تعدو أن تكون مقامرة تتعامى عن أن أسباب الثورات التي قامت في بعض البلدان العربية، خصوصا إذ أصبح الأمر يتعلق بإضعاف القدرة الشرائية للمواطن. إن مهمة إعادة بناء مؤسسات الدولة، بما يتناسب مع البنية المجتمعية مع فتح الآفاق أمام تطورها المستقبلي، هو شرط لا غنى عنه لإرضاء المواطن واطمئنانه، مع العمل على إصلاح مكامن الخلل الاقتصادية والخدماتية، وضمان الحريات والتعددية السياسية، ومكافحة الفساد، واستيعاب عملية التغيير والتقليل من الآثار الجانبية السلبية التي تصاحب برامج الإصلاحات هيكلية كانت أوغيرها.
لا يمكن المضي قدما لإرساء دعائم الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة دون قيام دولة مؤسسات، وفي الوقت ذاته لا يمكن مأسسة الدولة دون وجود نظام ديمقراطي.