عبد اللطيف بوجملة
بانطلاق الإحصاء العام للسكان والسكنى، يحافظ المغرب على إجراء استحقاق استراتيجي متعدد الأوجه سواء على المستوى السياسي و الاقتصادي و العلمي ام على المستوى البشري و الديمغرافي و الاجتماعي و المجالي و البيئي. و ما الرعاية الملكية التي يوليها جلالة الملك لهذا الاستحقاق الوطني، الا تجسيدا لهذه الأهمية الاستراتيجية و الفارقة لانجازه على الوجه العلمي المطلوب، حيث تؤكد الرسالة الملكية التي وجهت لرئيس الحكومة حجم ما ينتظر من هذا الاستحقاق و التي يحددها النص الملكي في تجسيد المشروع المجتمعي وفي تحقيق النموذج التنموي للمملكة الشريفة بالتشديد على الأسس التي يقومان عليها و التي تتمثل في الديمقراطية السياسية، والنجاعة الاقتصادية، والتنمية البشرية والتماسك الاجتماعي والمجالي، بما سيوفره من معطيات تمكن من “فهم التطور الديمغرافي والسوسيو– اقتصادي لبلادنا بشكل دقيق، واستشراف الاحتياجات المتغيرة للمواطنين”، وذلك في أفق “إعداد السياسات الملائمة تبعا لذلك”.
و ان يضع النص الملكي الموجه لهذا الاستحقاق الوطني البعد الديمقراطي على تاج المبادئ المؤطرة للمشروع المجتمعي و النموذج التنموي للبلاد هو تكريس للاختيار الديمقراطي في كل أبعاده، و لاسيما المرتبطة بالمواطنة و تنمية البشر و تأهيله و بعقلانية التخطيط الاقتصادي و شفافية اتخاذ القرار الاقتصادي و تجويد الحكامة، و القطع مع الريع و العبث بالمال العام و مقدرات البلد و تثبيت شروط الاستقرار القائمة على التضامن و الايخاء و التماسك الاجتماعي و المجالي و فك العزلة على البادية المغربية و انتشال الكثير من السكان من أوضاع البؤس و الهشاشة التي تتنامى إما بضرب القدرات الشرائية للمواطنين و إما بتوطين التضخم عبر الإخلال بتوازن الطلب و العرض و بتغييب التنظيم و المراقبة و الزجر و تعميم الفوضى.
و عكس ما تم الترويج له، إما بقصد أو جهل، فإن هذا الاستحقاق الوطني تنظمه قوانين (القانون رقم 001.71 الصادر في السادس عشر من يونيو عام 1971، والمرسوم رقم 2.23.647 الصادر في الحادي والعشرين دجنبر سنة 2023) تضمن سريتها و تلزم جميع المشاركين في إعداد وتنفيذ واستغلال الإحصاء بكتمان السر المهني، و تعاقب كل من يخالف هذا الالتزام ، كما تمنع بشكل قاطع تبليغ أو استخدام المعلومات الشخصية والعائلية التي يتم جمعها خلال عملية الإحصاء لأغراض المتابعات القضائية أو المراقبة الجبائية، و ذلك لتيسير شروط انجازه و أهمها كسب ثقة المواطنين و المواطنات في العملية الإحصائية و أهميتها البالغة في تحديد الاحتياجات الراهنة و الاتية للمواطنين و للمجتمع وفق بيانات دقيقة وموثوقة.
ان توفير بيانات إحصائية شاملة ومفصلة عن السكان في المغرب وخصائصهم الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، وتوزيعهم و انتشارهم على مستوى الجماعات الترابية المختلفة وما يرتبط بها من معدلات ومؤشرات، هو عمل حاسم لكافة القطاعات الحكومية و لاسيما التعليم و الصحة، والإسكان و الفلاحة والعدل و التي لطالما أهملت، و بتوفير “الخدمات” التى يحتاجها المجتمع، فضلا عن رصد التحولات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع لتوفير قاعدة علمية موثوقة للتقديرات المستقبلية للسكان.
و ان كانت الأسرة المغربية هي المستهدف الأول من الإحصاء العام للسكان والسكنى، بهدف تحديث و توفير إطار شامل لها، يمكن من رصد التحولات العميقة التي تشهدها و هي تتجه نحو الأسرة النووية بإيقاع سريع، في ظل غياب شروط الرعاية و الحماية، فان معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى يمكن ان تطوق العمل الحكومي لتوفير هذه الشروط و أن تحدد أولوياته في ظل تهديد يتربص بالمغاربة و هو شيخوخة الهرم السكاني و تبعاته.
كما ستمكن معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى من تحديد دقيق للتفاوتات المجالية و لاسيما داخل المجال البدوي المهمل و المجال شبه الحضري، أسوة بتحديد دقيق لاحتياجاتها من “الخدمات ” في أفق تمكين القرار السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي التخلص من الخلط بين القرية و البادية و قصورها، إذ لطالما اختزل العالم البدوي الشاسع و المأهول و المحروم من شروط العيش الكريم و من العمل في العالم القروي علما أن هذا الأخير لا يشكل إلا اقل من عشر واحد من ساكنة البادية المغربية التي تعيش في حالة عزلة. و يمكن لمعطيات الإحصاء أن تدعم هذا الطرح أو تدحضه.
و للإحصاء العام للسكان و السكنى أهمية قصوى في تحديد توجهات سياسة الإسكان، اذ سيمكن من رصد صورة فعلية و دقيقة عن أوضاع المساكن وخصائصها كما سيساهم في وضع خطط الإسكان المطلوبة، ومن توفيرالمعطيات الأساسية للعرض السكني ومرافقه وخصائصه لسن سياسة إسكانية ترقى لمستوى المبادئ التي وضعتها الرسالة الملكية لإجراء الإحصاء العام للسكان و السكنى.
كما سيمكن الإحصاء لا فقط من رصد أحوال المباني و المساكن و وحاجاتها للصيانة والإصلاح و الهدم، تفاديا لمآسي الانهيار و الكوارث الطبيعية، بل أيضا إعادة النظر في سياسة التوسع الأفقي للبناء و آثاره الاقتصادية و الفلاحية و البيئية وأثره على كفاءة المرافق العامة، فضلا عن رصد وضعية و حاجيات الربط بالماء الصالح للشرب و الكهرباء و التطهير السائل.
يمكن أيضا أن يرصد الإحصاء العام للسكان و السكنى الوضع الاقتصادي الوطني من خلال توفير المعطيات الدقيقة و الموثوق فيها حول المنشآت الاقتصادية والاجتماعية العمومية و الخاصة و اوضاعها القانونية و نشاطها الاقتصادي و حجم عمالتها حسب النوع الجنسية.
أخيرا و ليس آخرا تشكل معطيات الإحصاء العام للسكان و السكنى قاعدة صلبة و أساسية للاستثمار و للبحث العلمي سواء الاجتماعي(الديموغرافيا وعلم الاجتماع والجغرافيا البشرية و سواها) أو الاقتصادي، يمد الباحثين بمعطيات أساسية و موثوق فيها لأبحاثهم العلمية و دراساتهم لخصائص السكان المتمثلة في الحجم والتوزيع والكثافة والتركيب والأعراق ومكونات النمو (الإنجاب والوفيات والهجرة) ونسب الأمراض، والحالات الاقتصادية والاجتماعية، ونسب الأعمار والجنس، ومستوى الدخل، فضلا عن رصد الأسباب المؤثرة على زيادة نسب الإنجاب و نسب الوفيات، وأسباب الهجرة والانتشار الجغرافي.
و هي لاشك معرفة ضرورية ل”فهم التطور الديمغرافي والسوسيو– اقتصادي لبلادنا بشكل دقيق، واستشراف الاحتياجات المتغيرة للمواطنين” كما تريد الرسالة الملكية السامية.