حسن عين الحياة
لا يمكن الغوص في تاريخ المسرح المغربي، خاصة في بدايته الأولى، دون التوقف عند قامة فنية وإبداعية كبيرة، ساهمت من موقعها في التأسيس لمسرح بهوية مغربية، وأيضا في اكتشاف عدد من الوجوه التي تلألأت نجومها، وما تزال، في الشاشة وفنون الخشبة.. الحديث هنا يتعلق بالفنان المتعدد الذي استأسد فوق الركح، والممثل الذي أنعش الأعمال الدرامية في التلفزيون، والمبدع الذي اقتحم السينما فجسد أدوارا في عدد من الأفلام المغربية والأجنبية، أبرزها فيلمي “لورانس العرب” و”الرسالة”، قبل أن يتفرغ للعمل النقابي باعتباره أحد مؤسسي النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية (النقابة الوطنية لمحترفي المسرح سابقا)..
إنه الفنان الراحل أحمد الصعري، الذي غادرنا إلى دار البقاء في 22 شتنبر 2019 عن عمر يناهز 80 سنة، فأفجع برحيله المسرح المغربي الذي كان واحدا من أعمدته الأساسية إلى جانب المؤسسين.
في هذا الشهر (شتنبر)، تحل الذكرى الخامسة لوفاة الحاج الصعري، وهي مناسبة للوقوف عند مناقب فنان وصفه كثيرون ممن احتكوا به بـ”الذاكرة الحية للمسرح”.. وهذا الوصف لم يكن اعتباطيا، لأن الصعري، بحسب هؤلاء، كان ملاذا للباحثين والطلبة الذين يتلمَّسون طريقهم في درب أبي الفنون، مادام يختزن ماضيا يمتد من مرحلة التأسيس لمسرح فتي وفطري بالدرجة الأولى، في أربعينيات القرن الماضي ، إلى الزمن المعاصر الذي أصبح فيه المسرح مدارس واتجاهات.
مع انطلاق البوادر الأولى للحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1940، أطلق الصعري صرخته الأولى في مدينة الدارالبيضاء.. فهو ابن درب السلطان الذي يختزن تاريخا حافلا للمقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي. وفي هذا الدرب، وتحديدا بـ”درب اليهودي” رأى الصعري النور أول مرة.. ترعرع فيه، ومارس شغب الطفولة في الأزقة المحاذية لـ”الريجي طابا”، وحفظ القرآن الكريم في كتُابه العتيق، قبل أن يدشن تعليمه الابتدائي بـ”المدرسة العالمية” في الحي نفسه، والتي بالمناسبة درَّس فيها كبار المناضلين والسياسيين بالمغرب، أمثال عبد الله إبراهيم وعبد الهادي بوطالب وعلال الفاسي…
بعد “المدرسة العالمية”، يقول المهتمون بمساره، وجد الطفل الصعري نفسه في أحد أقسام مدرسة “المسلمين” التي أصبحت تحمل فيما بعد اسم مدرسة “مولاي الحسن”، وقد حملت هذا الاسم بعد زيارة الملك الراحل الحسن الثاني لها أيام كان وليا للعهد.. وقتها استقبله التلاميذ، وضمنهم الصعري ببعض اللوحات الفنية و”السكيتشات” التي أثارت انتباهه.. ولأنها أعجبت ولي العهد، طلب من المسؤولين أن يغيروا اسمها من مدرسة “المسلمين” إلى مدرسة “مولاي الحسن”.. هذه المدرسة، وفق من تحدثوا إلينا، درس فيها عدد من الفنانين المغاربة الكبار كالمخرج السينمائي مصطفى الدرقاوي والمسرحي الكبير الطيب الصديقي الذي ستجمعه فيما بعد علاقة قوية بالصعري.
لقد كان الصعري يفتخر دائما في جلساته وأحاديثه الحميمية مع الأصدقاء بأنه ابن درب تخرج منه كبار الفنانين، من أمثال ثريا جبران وعبد العظيم الشناوي والحاجة الحمداوية وسعاد صابر وعبد القادر مطاع والثنائي مصطفى الداسوكين ومصطفى الزعري ومحمد بن إبراهيم والأخوان عبد القادر وعبد الرزاق البدوي والشعيبية العدراوي ونعيمة سميح وغيرهم كثير.. وفي هذا الدرب أخذ الصعري يدشن خطواته الأولى في عالم التمثيل، من خلال عشقه الكبير للسينما.
في مطلع الخمسينيات، كانت قاعات السينما في درب السلطان والأحياء المجاورة، الملاذ الوحيد للترفيه عن البيضاويين.. فمن سينما “موريتانيا” و”البيضاء” و”الكواكب” و”الملكية” و”أطلس” و”شهرزاد” وقاعات أخرى، أخذ الصعري ينفتح على العالم، أو الأحرى على تجارب هؤلاء الفنانين، خاصة عمالقة الدراما والكوميديا المصرية. ولعل هذا الحب هو ما دفع بأحمد الصعري إلى الدخول في تجربة الثنائيات، فشكل مع الفنان محمد لحريشي ثنائيا، قبل أن يلتقي بعبد الرحمان بلخياط (زوج الفنانة نعيمة المشرقي) في درب السلطان، فأسسا فرقة لإعداد الحفلات.
الذين يعرفون البدايات الأولى للصعري، يقولون إنه ظل خلال هذه المرحلة يبحث عن ذاته، ويسعى إلى تطوير مهاراته في فن التمثيل، لذلك، قاده الحظ إلى المعهد البلدي للموسيقى والمسرح والرقص بالدار البيض الذي كان يديره الفرنسيون في خمسينيات القرن الماضي. وهناك، صقل موهبته بعدما تلقى دروسا في فن التمثيل على يد أساتذة كبار، أبرزهم المبدع الراحل الطيب لعلج الذي أغنى الخزانة المسرحية بـ”ربيرطوار” هائل من الأعمال، سواء كتابة أو تشخيصا. ولأن الصعري كان موهوبا، يضيف المهتمون بسيرته، انطلق سنة 1956 نحو تجربة أخرى لها وقع كبير على تكوين المسرحيين المغاربة وقتذاك، حيث التحق، إلى جانب فنانين كبار، بفرقة المعمورة، وكان ضمنهم الرواد الراحلين عبد الصمد الكنفاوي والطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج ومحمد سعيد عفيفي ومحمد الحبشي.. وخلال هذه المرحلة، كان الطيب الصديقي قد تخلى عن حلمه في التأسيس لمسرح عمالي بالمغرب، فعض بنواجده على الصعري الذي أصبح، مع مرور الوقت، يده اليمنى ومساعده في عدد من أعماله المسرحية، حيث شارك معه في مسرحيات “مقامات بديع الزمان الهمداني” و”الحراز” و”مدينة النحاس” و”سلطان الطلبة” و”سيدي ياسين في الطريق” وأعمال أخرى.
لقد ترك الصعري خلفه تاريخا كبيرا من الأعمال التي عززت الخزانة المسرحية والتلفزيونية والسينمائية. إذ شارك في عشرات الأعمال، وكان حظه أن شارك في أول مسلسل مغربي (التضحية)، في أواسط ستينيات القرن الماضي، ولعل المغاربة من جيله أو الجيل الثاني، يتذكرون شخصية ذاك النادل المسمى”فنيدة” الذي اشتهر به لعقود، وظل ملازما له إلى أن وافته المنية.
إلى جانب المسرح، اقتحم الصعري مجال السينما أيضا، فشخص عدة أدوار في أفلام مغربية وأجنبية. وتحتفظ الخزانة السينمائية بمشاركته في الفيلم الأجنبي الشهير “لورانس العرب” عام 1962 ثم الفيلم ذو الإنتاج الضخم “الرسالة” عام 1976 للراحل مصطفى العقاد، إضافة إلى أفلام مغربية كـ”ابن السبيل” عام 1981 و”الورطة” عام 1982، و”غراميات” سنة 1986 و”المطرقة والسندان” في 1990 و”عرس الآخرين” عام 1990 أيضا، و”الطفولة المغتصبة” عام 1993 و”خفايا” عام 1995 و”المقاوم المجهول” عام 1995 إضافة إلى أعمال سينمائية أخرى…
أما في التلفزيون فقد شارك الصعري في عدد من المسلسلات، أبرزها “أبواب النافذة” و”جنب البير” و”خمسة وخميس” و”ستة من ستين” و”أمي تاجة” و”مقطوع من شجرة” و”لا تبحثوا عني” و”من دار لدار”، إضافة إلى أفلام تلفزيونية أبرزها “ثمن الرحيل” و”القسم 8″ و”الباب الأوتوماتيكي و”الدية” و”سمك القرش”.
وإلى جانب التمثيل، تفرغ الصعري في سنواته الأخيرة نسبيا للعمل النقابي، حيث كان بمثابة “دينامو” النقابة الوطنية لمحترفي المسرح سابقا، بالرغم من كونه كان رئيسا لفرعها في الدارالبيضاء.. قبل أن تغير اسمها إلى “النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية. كان خدوما وديناميكيا ورجل إدارة بامتياز.. وفوق ذلك، كان فنانا سجل اسمه من ذهب في سجل الفنانين الكبار الذين أعطوا الشيء الكثير للفن في مغرب.
رحم الله الحاج أحمد الصعري ومتعه بفسيح الجنان.