بقلم: الأستاذ عبد الحكيم قرمان
1 – جدلية السياسة والأخلاق عند ابن رشد وبدايات التنوير
أ- انبثاق العقل والأجتهاد والترجمة من الأندلس
إن المتأمل لبدايات التنوير الفكري من الأندلس كنقطة ارتكاز لما ستعرفه باقي أمصار المتوسط بشمالها الأوربي وجنوبها العربي-الامازيغي والإفريقي، وخصوصا بالرجوع إلى بعض المقولات والمفاهيم التي جاءت بها النظريات التي تبناها “الرشدانيون” الفلاسفة، لاسيما تلك الاجتهادات الفكرية حول مواضيع لم تلق من قبلهم العناية اللائقة في التحليل والتدقيق، تتصل بقيمة العقل والمادة والخلق، أفضت في مجملها إلى بزوغ فجر متجدد بالاكتشافات ومحمل بالآمال في مجالات العلوم الحقة والطب والهندسة والآداب والفنون والفلسفة وفقه الرسالات السماوية، بالإضافة إلى وضع أصول وتطبيقات فنون الحرب والسياسة. ومع تنامي موجات التفكير المنطقي والتأويل العقلي للنصوص الدينية حينذاك، وما لقيه روادها المتنورون من قمع وتنكيل من الكنيسة بأروبا (دار الحرب)، ومن لدن بعض الجماعات الدينية المتطرفة بالأندلس وبعض الأمصار الإسلامية (دار السلم)، وقد وتوزع القمع والبطش والعدوان على أعلام الفلسفة “الرشدانية” ما بين القتل والنفي والاعتقال والتهميش والتكفير والاتهام بالزندقة.
ويمكن القول بأن ابن رشد ومن تبعه من مناصرين لفكره العقلاني ساهموا بقوة في إحداث نقلة نوعية مست مختلف جوانب حياة المجتمع، وأحدثت رجة عميقة في الجانب السياسي، فقد كانوا “ثوارا بلا جيوش” يقودون التغيير من فوق، وقد أعطت ثورتهم الفكرية ثمارها في ما بعد القرون الوسطى بأفول الهيمنة الكنسية وتسلط رجال الدين والمتعصبين من ساحة العمل السياسي. وذلك راجع لكون الحياة السياسية القروسطية بأوروبا كانت تتسم بالصراع بين السلطة الدينية متمثلة في البابا، والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل مساحات الساحة السياسية.
ب – السجال بين أنصار العقلانية والتقليد، الماوردي نموذجا
تأسيسا على ما سبق، فقد اندلعت معارك شرسة بين الفلاسفة والمفكرين والكتاب والمتكلمين، حيث عرفت أوربا نقاشات سياسية ودينية فارقة انطلقت شرارتها الأولى من الفلسفة والمناظرات الفقهية بين أهل النقل (الملتزمين بالنص الديني) ورواد العقل (أنصار الاجتهاد)، حول مكمن المنطق والحقيقة والبينة، هل هو الوحي المقدس أو التأمل العقلي أو هما معاً. من هنا جاءت أطروحة ترجيح الأخذ بالعقل ثم النقل، وكذلك تكامل الفكر بالسلوك عند ابن رشد، لتؤسس منظومة جديدة من المفاهيم والمقاربات في تناول الشؤون العامة والخاصة للناس في عصره، بالتالي فقد أعاد ترتيب الأولويات فيما يخص السياسة وعلاقتها بالقيم والمعتقدات.
يعتبر أبو الحسن الماوردي (450 ه) أحد العلماء المسلمين البارزين، المشهود لهم بالرصانة الفكرية وعمق التأمل وموضوعية النقد وعقلانية التحليل، ولقد كتب الماوردي في الفقه والتفسير والأدب والسياسة والاقتصاد. وعلاقة بموضوع المقال، نجده في كتابه المعنون ” درر السلوك في سياسية الملوك”، يدعو إلى ضرورة أن يتمثل السياسي خصال الصدق في مقاله، وأن يعطي المثال في سلوكه واشتغاله بالسلطة، وألا يفتري أو يكذب على الناس إلا على وجه التورية وضرورات حفظ وصيانة أسرار الدولة في خداع الحروب. ويقول في ذلك ” فإن رخص لنفسه فيه على غير هذا الوجه، صار به موسوماً، لأن الإنسان بقدر ما يسبق إليه يعرف. وبما يظهر من أخلاقه يوصف، وبذلك جرت عادة الخلق : أنهم يُعدلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن”. ويستشهد الماوردي بما كتبه أبو بكر الصديق إلى عكرمة بن أبي جهل عامله بعُمان: “إياك أن توعد على قضيتين بأكثر من عقوبتهما، فإنك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت.
كما يحذر الماوردي الساسة وكل من يشتغلون في مجال رعاية وإدارة شؤون الناس، من تسخير مهاراتهم الخطابية لأغراض شخصية أو عصبية أو مذهبية، منتقداً لهم بقوله: ” يزوقون كلاماً مموهاً، ويزخرفون مذهباً مشوهاً، ويخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار، فيصب الناس إليهم وينعطفوا عليهم، بخلابة كلامهم، وحسن ألطافهم…”، ويستشهد بالحديث النبوي ” إن أخوف ما أخاف على أمتي، منافق عليم اللسان”.
ج – التأسيس لعهد التجديد في مناهج التفكير ومنطق التأويل والتفسير
أما القاضي أبو عبد الله ابن الأزرق الأندلسي (832هـ – 1427م)، فيؤكد في كتابه “بدائع السلك في طبائع الملك”، أن ” تنزيه مقام السلطان عن إخلاف الوعد من أوجب ما يطالب به “، ويزيد التأكيد أيضاً إلى وجوب التزام السياسي بالصدق ” لما في الكذب من المفاسد المخلة، لمصالح الدين والدنيا”، كما أن ” خراب البلاد وفساد العباد مقرون بإبطال الوعد والوعيد “. ويروي عن ابن العربي قوله : ” إن الإمام الكذاب شر الخلق عند الله تعالى؛ لأن الكذاب إنما يكذب حيلة لما يعجز عنه، وليس فوق الإمام يد، ولا دونه شيء مما يعتاد دركه، فإذا صادره بالكذب نزل عن الكرامة إلى الخسة وعن الطاعة إلى المعصية”.
ويرى أبو بكر المرادي أن السياسي الناجح هو ذلك الذي يتصف بالدهاء، فيسعى إلى تحقيق أهدافه بألطف الوجوه ويبدو،” كأنه أبله وهو متباله”، يحصي دقائق الأمور، ويدبر لطيفات الحيل، فلا ينطق حتى يجد جواباً مسكتاً أو خطاباً معجزاً، ولا يفعل حتى يرى فرصة حاضرة، ومضرة غائبة، فعدوه مغتر بعداوته، ومقدر عليه الغفلة والبله بغوايته، وهو مثل النار الكامنة في الرماد، والصوارم المكنونة في الأغماد. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:” لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة، بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم.
2- ثنائية الأخلاق والسياسة في عصر التنوير
أ – انبثاق البرجوازية الليبرالية
بالرجوع إلى تلخيص ما سلف ذكره، نجد أن القول بتلازم السياسة والأخلاق أمر مطلوب ومؤكد في الممارسة والقول، لكن ذلك لايعني البتة، إدغام السياسة قولا في بوثقة السجايا، ولا إدماجها سلوكا في خانة العمل الدعوي أو التصوف. لذلك، فإن أعلام النهضة، يقترحون إحداث تكامل منطقي يؤلف بين العمل السياسي بما هو تدبير لشؤون ومصالح العموم، وما هو أسلوب ومنهج وسلوك يعكس المنفعة الخاصة ضمن الصالح العام، من خلال تمثل القائمين على حكم المجموعة البشرية، في أدائهم وعلاقاتهم بالمحكومين، مجمل القيم الخلقية التي تعتقد غالبية الناس أنها خيرة وفيها صلاح ومنفعة للجميع. كل ذلك لا يلغي، إمكانية إعمال العقل والذكاء والمهارة الخطابية وحس الدعابة وحسن الكلام، وأحيانا إعمال الدهاء والتحفظ في القول وعدم إفشاء ما قد يعوق خطط الحرب، أو يعيق تحقيق منفعة عامة. ومن مسوغات الدهاء المطلوب في العمل السياسي – في نظر ابن الأزرق الأندلسي- التغافل، فالسياسي الحاذق هو الذي يهتدي بقوله تعالى: (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) ويأخذ بقول العرب:” الشرف التغافل” و”ما استقصى كريم حقه قط”. كما أن الحس السياسي النبيل يقتضي” ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب، والصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبشر في اللقاء، ورد التحية، والتغافل عن خطأ الجاهل، فمن تشدد نفر، ومن تراخى تالف”.
ب – سياقات انبلاج حركة التنوير
إن بزوغ «فلسفة الأنوار» قد اقترن بانبثاق البرجوازية الليبرالية كحركة مجددة للمفاهيم والقيم التحررية وكقوة اجتماعية جديدة عكست في ديناميتها الثقافية والعقدية تطلعات ومصالح اقتصادية وتمثلات سياسية غير مسبوقة في مجال الحريات والحقوق المدنية والسياسية والمساواة بين المرأة والرجل كمرتكزات فلسفية لمجتمع تنتظم فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر مؤسسات خاضعة لمنظومة القانون. هكذا تمكنت صفوة من المثقفين والفلاسفة والمبدعين وبعض السياسيين مدعومين بفئات عريضة من المواطنين في معظم بلدان أوربا الغربية من تقويض الأسس الفكرية والاقتصادية للفيودالية والإقطاع اللذين عمرا بأروبا لقرون. لقد لعب الفلاسفة والأدباء والفنانون وجمهور المتعلمين دورا محوريا في إحداث التغيير الاجتماعي في كل مستوياته وبنياته الفوقية والتحتية، وهي الشروط الموضوعية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية فأحدثت الرجة التاريخية الكبرى من قلب باريس، التي تجاوزت ارتداداتها الفكرية والقيمية الجارفة طموحاتها الذاتية، المحلية نحو الكونية.
د- اندلاع الثورة الفرنسية وارتداداتها على مجرى التاريخ
إن هذه الثورة الفرنسية المنبلجة، بعنفوان العالمية، ما كان لها أن تتحقق دونما تحرير المؤسسات والعقول، من القيود والذهنيات القورسطية والتمثلات التي صمدت لقرون طويلة على شكل ثوابت راسخة، ومقدسة في أحيان كثيرة. بالمقابل، لا ينبغي تحجيم حقبة الأنوار في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، واعتبارها مجرد حركة فكرية واجتماعية واقتصادية، أو محض غطاء إيديولوجي لفئة أو نخبة أو فصيل سياسي بعينه. إنها حركة فكرية وسياسية وعلمية وعقدية وقيمية للإنسانية جمعاء. ولابد كذلك من الاعتراف ببعدها الابستمولوجي، ذلك المحفز الوجداني والعقلي، الذي شكل الوقود وقوة التغيير الهائلة التي أنجزت وثبتت الثورة الفرنسية ومنحتها الإشعاع والجاذبية على امتداد القارات. لقد أثرت الثورة الفرنسية التجربة الأوربية والإنسانية بما أثمرته من انجازات واكتشافات وتطورات في مجالات العلوم الإنسانية والطب والرياضيات وعلوم الأحياء بشكل لا يقاس. الأهم من ذلك أنها أحدثت قطيعة ابستمولوجية في الفكر الأوربي بين «القديم» و«الحديث» على صعيد منظومة القيم والممارسات السياسية والبناء المؤسسي للدولة والحياة الثقافية والمعرفية.
ت – تثمين الفكر العلاني وقيم العدالة والحريات
لقد تمكنت الثورة الفرنسية وروادها البارزون في الفكر والفلسفة والفنون والعلوم والآداب من إحلال العقل محل النقل، والاستفهام محل الإيمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، كما أبرزت «فلسفة الأنوار» قيم المساواة والاحتكام إلى القانون والمؤسسات، وقوضت مزاعم الكنائس وحراس المعابد والطابو والمحرم والوضعي المقدس، لتعبر بالفرد والمجتمع إلى عوالم أرحب للفكر والإبداع والحرية والكونية والحقيقة.
وعلى هذا الأساس، ظلت معادلتا الجمع أو الطرح بين الأخلاق والسياسة تؤرق وتسائل المفكرين والدارسين والممارسين للشأن السياسي على مر العصور، وبالرغم من تمترس البعض خلف جدار حصين من الممانعة في رفض أي تلازم بين المجالين السياسي والأخلاقي، إلا أن غالبية المفكرين والدارسين من المؤسسين، مرورا بالمجددين ثم المحدثين، قد أكدوا على تكامل وتناغم الفعل السياسي مع قواعد السلوك العام للمجتمع. وإذا كان الفريق الأول يعتقد أن غاية السياسة تكمن بالأساس في تدبير السلطة وبناء صرح الدولة والسهر على فرض النظام والأمن في المجتمع، فمن البديهي أن يتحلل الفاعل السياسي من كل القيود الأخلاقية، بالتالي يسمح له باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل صيانة الدولة. ويذهب ميكافيلي الى حد القول أن الغاية السياسية تمر عبر تجاوز المبادئ والقيم، فالأخلاق تشكل عائقا أمام تطور الدولة بل وتضعفها وتقوض أركان هيبتها وسلطانها. ونظرة ميكافيلي هذه نابعة من اعتباره الإنسان شريرا في نظره، ولا يمكن الحد من أنانيته وطبيعته الشريرة هذه إلا عبر إخضاعه بقوة القانون القهرية للسلطة السياسية، وشعاره في ذلك “الغاية تبرر الوسيلة”.
3 – الفكر السياسي بين العقل الأخلاقي في مقابل البرغماتية السياسية
أ – ثنائية الأخلاق والسياسة كمعادلة متمنعة
لقد ظلت معادلتا الجمع أو الطرح بين الأخلاق والسياسة تؤرق وتسائل المفكرين والدارسين والممارسين للشأن السياسي على مر العصور، وبالرغم من تمترس البعض خلف جدار حصين من الممانعة في رفض أي تلازم بين المجالين السياسي والأخلاقي، إلا أن غالبية المفكرين والدارسين من المؤسسين، مرورا بالمجددين ثم المحدثين، قد أكدوا على تكامل وتناغم الفعل السياسي مع قواعد السلوك العام للمجتمع. وإذا كان الفريق الأول يعتقد أن غاية السياسة تكمن بالأساس في تدبير السلطة وبناء صرح الدولة والسهر على فرض النظام والأمن في المجتمع، فمن البديهي أن يتحلل الفاعل السياسي من كل القيود الأخلاقية، بالتالي يسمح له باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل صيانة الدولة. ويذهب ميكافيلي الى حد القول أن الغاية السياسية تمر عبر تجاوز المبادئ والقيم، فالأخلاق تشكل عائقا أمام تطور الدولة بل وتضعفها وتقوض أركان هيبتها وسلطانها. ونظرة ميكافيلي هذه نابعة من اعتباره الإنسان شريرا في نظره، ولا يمكن الحد من أنانيته وطبيعته الشريرة إلا عبر إخضاعه بالقوة القهرية للسلطة السياسية وبقوة القانون كذلك وشعاره في ذلك “الغاية تبرر الوسيلة”.
ب- منطلقات أنصار الجمع والتوليف بين شقي المعادلة
بالمقابل يرى أنصار التكامل بين السياسة والأخلاق أن النظرة التي تدين طبيعة الإنسان وتصفه بالشرير لا تعبر عن طبيعة الإنسان تعبيرا صادقا، وبذلك فان النظرية القائمة على هذه النظرة التحقيرية للإنسان تتعارض تماما مع غاية المجتمع الذي يريد الفاعل السياسي، بمواصفات ميكافيلية، التبشير به وتحقيق أمنه وتلبية حاجاته و بالتالي ضمان ولائه لدولته وسلطانه، ويتساءلون كيف يمكن تحقيق هذا الخير العام في مجتمع يسوده المكر والقهر والمكيدة، وتغيب فيه الثقة والاحترام بين الحكام والمحكومين وفي انعدام الإحساس بالعدل والحرية والكرامة.
من جهته، يرى عمانويل كانط أن غاية السياسة هي الحفاظ على الإنسان، لأنه كائن أخلاقي جدير بالتكريم والاحترام، لذلك ينبغي أن تبنى الممارسة السياسية على أسس أخلاقية حتى تحظى باحترام واحتكام الناس إلى ممارسيها والموكول لهم رعاية وخدمة مصالح المجتمع بكل مكوناته وفئاته. وإذا كانت الحرية ضرورة أخلاقية، فان السياسة أيضا مجموعة شروط ومعايير وأهداف أخلاقية تروم صيانة الحقوق وفرض الواجبات وتحمي كرامة وحرية الأفراد والمجموعات. أما برتراند راسل فينبه إلى أن الحوادث التاريخية في نظره نتاج لسياسات معينة، وحتى يكون المستقبل أكثر أمنا واستقرارا على السياسة أن تقوم على المبادئ الأخلاقية المبنية على العدل والكرامة والمساواة والحرية والاحتكام إلى القانون في كل مجالات الحياة العامة. من هنا نبه راسل الممارسين للسياسة والقائمين عليها سواء كانوا أفرادا، أو أحزابا أو تجمعات إلى ضرورة أن يدركوا بأن مصير البشرية مرتبط بالسياسة وبالأخلاق.
د – ميزان السياسة وصعوبة التوفيق بين الغاية والوسائل
بناء على كل ما تقدم، يتضح من خلال مجمل المحطات التاريخية التي مرت منها البشرية، بدءا باكتشاف ضرورة العيش كمجموعة، والاهتداء إلى بناء الدولة مرورا بالعشيرة والقبيلة، أن الصراع بين الفكر السياسي والفكر الأخلاقي يتمثل في الصراع بين الوسيلة والغاية. إن إرساء الاستقرار الاجتماعي المتمثل في قيام الدولة بمؤسساتها وهياكلها المستمدة لشرعيتها ومشروعيتها من الإرادة العامة للمواطنين، والمنتظمة أركانها ووظائفها والمهام الموكولة لها، يعد مكسبا هاما لأي مجتمع يعيش حياة سياسية سوية ومعبرة عن تطلعاته وحاجياته. كما أن تحضره ونماءه يقاس بنضج وكفاءة نخبه السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية باعتبارها مجتمعة مصادر السلطة الحقيقية الساهرة على تحقيق العدالة والأمن والطمأنينة داخل المجتمع. وبناء عليه، نفهم بأن الدولة نفسها تصبح مجرد وسيلة لتحقيق هذه المعاني الأخلاقية.
خلاصات منهجية للتأمل
إن تقييد السياسة بالأخلاق لدى غالبية الفلاسفة المؤسسين، والمجددين ودعاة النهضة والإصلاح، يدخل في باب العمل بالمقاصد ووفقا لقواعد السلوك المتوافق على نفعه لدى مجموع الأمة. ولذلك، نجد تمايزا ملحوظا، ومنذ القدم، بين حجة القائلين بتقييد السياسة بالأخلاق، خصوصا ببلاد المشرق، وبين ضرورة تطويع قواعد الأخلاق العامة بالمرونة اللازمة لتصريف اللعبة السياسية بما يحقق الغايات المرسومة لها، عند نظرائهم في بلاد الغرب.
وعليه، يجب ألا يعتبر التشديد هنا على أهمية المعايير الأخلاقية والإنسانية في العمل السياسي ضرباً من السذاجة أو تغريداً خارج السرب، بل هو تأكيد وتحديد منهجي متكامل البناء والمعالم بين حقلين يبدوان في ظاهرهما متعارضين كليا، إلا أنهما يتآلفان كليا من منطلق سعيهما إلى تحقيق سعادة الناس.
فهل السياسة الأخلاقية إذاً فن ممكن؟ أم أن حديث الأخلاق يبدو نشازاً في عالم يتحكم فيه حديث القوة والمصلحة فقط ؟ ومن هذا المنطلق تنجلي أمامنا بعض الاستنتاجات الأولية كمسالك محتملة للتأمل ومنها مثلا:
* ما هي حدود التكامل والتعارض بين حقلي السياسة والأخلاق من الناحيتين النظرية والعملية؟
* هل يمكن الحديث عن فعل سياسي متخلق، وآخر خارج عن الأخلاق؟
* هل المقصود من ذلك أن الفاعل السياسي ينبغي له بالضرورة أن يعكس في قوله وسلوكه ما يفيد تمثله لقيم النزاهة الفكرية والصدق والوفاء والشجاعة وخدمة الناس بالقدر الذي يسعى لخدمة مصالحه الخاصة؟
* ما هي المؤثرات والمعايير الأخلاقية التي تحدد فهم وممارسة الفاعلين للسياسة، وما هي المنطلقات المتحكمة في اختياراتهم لأسلوب معين في التعامل مع الناس الغير ممتهني السياسة؟
* هل توجد آليات ومعايير متفق عليها كونيا يمكن من خلالها تحديد ما إذا كانت هذه الممارسة السياسية أو تلك أخلاقية أو العكس؟