المنعطف- ليلى خزيمة
عندما استيقظ ذلك الصباح، كان هذا آخر شيء يمكن أن يفكر فيه. صحيح أنه كان فنانا في اللعب والمناورات بالكرة المستديرة، أفيون الشعوب العصري، لكن لم يتوقع أن يدخل مغامرات جديدة في عالم أبي الفنون المسرح وعشق السينما وجاذبية التلفزيون. لن نتحدث عن الصدفة، بل هو القدر الذي أشعل نار الإبداع المتوهجة في أعماق الفنان مصطفى هنيني بعدما كان يتناسى ويُسكت صوت الموهبة المتخفية بين ضلوعه. عندما قابلناه مباشرة، استشفينا ذلك الطفل الذي بداخله، المتعطش للمعرفة، للأخذ والرد وتبادل الآراء. فتح ذرعيه لمصافحة المنعطف وقلبه للبوح بما يدور في ذهنه دون تكلف أو تصنع، بل ببساطة وتلقائية ونشاط. تجاذبنا أطراف الحديث مع الفنان مصطفي هنيني عن الحياة والانشغالات اليومية، فأخبرنا أنه: «عندما يستيقظ صباحا: «أول شيء أقوم به مثل أي مغربي، الاهتمام بأسرتي وأولادي. طبعا ألعب كرة القدم وأمارس الرياضة حفاظا على اللياقة البدنية. أقضي يومي ما بين التصوير أو التمارين أو التدريس كأستاذ لمادة بسيكولوجيا المسرح في أحد المراكز. أحب البساطة ولا أجنح بتاتا للتصنع والتكلف».
في تسعينات القرن الماضي، قرر مصطفى هنيني ترك احتراف كرة القدم ليحترف المسرح، وكما قلنا لم تكن صدفة، فكلا الميدانين فن مغروس بداخل الانسان ربما لا يعلمه حتى هو إلى أن تحين الفرصة ويطفو على السطح: «كنت ألعب في فريق الحياة البيضاوية وفريق نجم الشباب وكانت لي تجربة مع فريق الرجاء فتيان، لكن للأسف لم أكمل لظروف الدراسة لأن ملعب التدريب كان بعيدا. فلم أستطع التوفيق ما بين أوقات التدريب التي كانت ما بين منتصف النهار والثانية زوالا. فعدت لفريق الحياة البيضاوية بِحَيِّنا درب غلف. كرة القدم هي أيضا فن فيه فرجة تماما كما هي الدراما التلفزيونية. وهذا رابط مشترك ما بين الميدانين. بعد الدراسة، ومن دون أن افكر، توجهت مباشرة للمسرح.»
وفي حديثه لنا عن حكاياته في الميدان الفني والتعثرات التي صادفته والأشخاص الذين بصموا مسيرته الفنية كان مصطفى هنيني خلوقا وشكورا، فصرح للمنعطف: «هناك مجموعة من المحطات والأشخاص الذين أثروا بي بشكل كبير. ولا يمكن أن أفصل الواحدة عن الأخرى. فمثلا في سن 15 اشتغلت مع مسرح الدائرة مع الأستاذ عبد اللطيف الخامولي الذي زرع فيَ البذور الأولى للعمل المسرحي. كان اشتغالي معه مرحلة مميزة ولها طعم خاص لن أنساه سواء بمسرحية الشركاء أو مسرحية الجزيرة. بالإضافة إلى الاشتغال مع مجموعة من فرق الهواة من بينهم مسرح الثالث ومسرح الستار وآخرون. أما النقلة النوعية التي قادتني إلى عالم الاحتراف، فهي ثنائيتي مع المرحوم الفنان القدير محمد بنبراهيم في إطار ما يعرف بالمواقف الساخرة في تسعينيات القرن الماضي. كذلك محطة مسرح الشعب مع الأخ العزيز والأستاذ الكبير وأحد رموز المسرح المغربي الفنان ميلود الحبشي. خلال 20 سنة من العمل إلى جانبه، طرأ تغيير وتطور كبير في مساري الفني. وما أنا عليه الآن هو بفضل الفنان ميلود الحبشي الذي عملت معه في أكثر من 20 مسرحية. كذلك كانت لي محطة أخرى مع الدكتور سعد الله مجيد الذي خُضت معه مجموعة من التجارب المسرحية الناجحة بشكل كبير وكانت لها بصمة كبيرة في مساري الفني. بالإضافة إلى الصديق والأخ الذي يسهر على فرقة مسرح الثلاثة الذي لا يمكن تجاهل بصمته كفنان من فناني المعهد العالي وتأثير تكوينه وثقافته على عطائي. ولا يمكن أن أنكر فضل الأستاذ المسكيني الصغير الذي عملت معه في مختبر المسرح الثالث وهو الذي كان يسهر على كتابة المواضيع التي كنت أشتغل عليها مع الفنان المرحوم محمد بنبراهيم.
أما على مستوى الدراما التلفزيونية، يمكن أن أقول أن بدايتي كانت مع المبدعة فريدة بورقية التي أحييها من هذا المنبر وأتمنى لها الشفاء العاجل. اشتغلت معها في جنان الكرمة. بالإضافة إلى فاطمة الجابع التي عملت معها بشكل كبير. والفنان الذي استفدت من خبرته وتكوينه الأكاديمي بشكل ملفت هو الجميل شفيق السحيمي الذي اشتغلت معه في عملين يساويان الدراسة لأربعة أو خمسة أعوام. ولا يمكن أن أنسي المرحلة الجميلة التي أعطتني نقلة نوعية بعدما كنت على الهامش ولم أشتغل لمدة طويلة، وهي الاشتغال مع الحاج أحمد بوعروة والمخرجة جميلة البرجي اللذين فسحا لي المجال لأعيش حياتي الحالية الشخصية والفنية، بكل ما فيها من جمال. فرص كثيرة تمكنت من خلالها التعبير عن إمكاناتي الفنية، كانا هما السبب في منحي إياها وأتمنى أن يدوم المعروف بيننا وأن نعمل معا لمدة أطول. وأتوجه لهما بالشكر الجزيل على تقتهم بي وعلى حبهم للعطاء. كما لا يمكن أن أبخس حق كل ما أثروا في مساري وأتمنى أن يدوم الود والتأخي فيما بيننا. فشكرا للجميع».
الفرصة التي تحدثتم عنها الآن جاءت بعد غياب أو دعنا نقول إقصاء. هل يمكن أن توضحوا لنا أكثر كيف عشتم هذه التجربة؟
الإقصاء أو التهميش هو إحساس مر ولاذع. فصراحة، مسرحيا لم أعاني من أي تهميش أو نسيان. فأنا كنت دائما أشتغل ضمن أعمال مسرحية. إنما على مستوى التلفزيون، كان هنالك نوع من النسيان وهذه الفترة كانت قاسية بشكل كبير وعانيت منها كثيرا. فعندما ترى أعمالا في التلفزيون، تقول كان يجب أن أكون ضمنها، خصوصا عندما يكون الدور داخل نطاق مؤهلاتك وقدراتك الشخصية وقريب جدا منك. أؤمن بأن الأرزاق بيد الله، لكن تحس بالإحباط عندما لا يعطي ذلك الممثل الدور حقه أو أن ذلك الممثل جاء من عدم، وأُعطي دورا يفوق قدراته، تشعر بحرقة شديدة للأسف.
مباشرة بعد هذه الفترة، خُضت كما تعلمون تجربة الاشتغال بدور كبير مع الحاج أحمد بوعروة في الرحاليات، بل أكثر من ذلك ساعدني على الخروج من الازمة التي كنت أعيش فيها وكانت فرصة للتعرف على هذا الانسان الجميل وعلى المخرجة جميلة البرجي وعلى سعة قلبهم وأخلاقهم النبيلة. وحاليا أشتغل معهم في كل ما هو تقني وما هو درامي تشخيصي. أتمنى أن يمنح المنتجين رموز الفن المغربي حقهم وأن لا يهمشوا أحدا منهم. فأي عمل مغربي به أحد الرموز فهو قيمة مضافة للعمل. أنا لا أتحدث عن التلفزيون، فهو لا يتدخل في العديد من المنتجين، بل أتحدث عن المنتجين، فهؤلاء الرموز ذوي الخبرة الكبيرة سيفيدون الإنتاج ويضعون بصمتهم في العمل. فأتمنى أن يتذكر الساهرون على الأعمال المسرحية هذه الشريحة من الفنانين.
أزيد من 30 سنة وأنتم بالعمل الفني، ما الذي تغير في الاعمال التي يقدمها مصطفى هنيني للجمهور وهل هنالك طقوس تعتمدها قبل الخوض في العمل؟
حقيقة، ليس هنالك من تغيير. أنا أفتخر بكل الأعمال التي اشتغلت ضمنها. فهي بمثابة مسار تكويني أوصلني إلى مستوى معين من النضج. وإذا ما تحدثنا عن التغيير، فهو تطور طرأ على مستوى النضج في التفكير، التطور في الأداء بفضل التجربة والاشتغال مع فنانين وتلاقح في الخبرات. فأكيد التطور هو التغيير الذي يرسم معالم التجربة الفنية. فالموهبة، والتكوين والاجتهاد آليات مهمة للفنان. وإن لم يكن دارسا يجب أن يبحث أكاديميا حتى يتمكن من المضي في هذا المجال. والانسان يسعى دائما للعمل بجد واجتهاد ليقدم أفضل ما لديه ويصل إلى المستوى الذي يتمناه. أما عن طقوس العمل، فالطقس الأول هو الصدق. فأنا أحاول أن أترك بصمتي في أي عمل كنت ضمن فريقه. وأحاول أن أكون في المستوى الذي يتوخاه الأشخاص الذين يسهرون على الاعمال التي أشتغل بها. الطقس الثاني هو الجدية والاجتهاد في العمل واحترام الآخر وهذا هو أفضل شيء.
وهل هنالك مواضيع محددة يحب مصطفى هنيني الاشتغال عليها دون أخرى؟
منذ أن دخلت عالم الفن وأنا أنتقي بدقة متناهية الأعمال التي أشتغل ضمنها. ولم يحدث أن قبلت بعمل غير ذي قيمة. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم تكن هنالك مساحة كبيرة للتعبير، فكنت أشتغل على المواقف الساخرة في ثنائيتي مع المرحوم محمد بنبراهيم. أعمالي كلها على مستوى الهواة كانت هادفة وتطرح قضايا تهم المجتمع ولها رسالة معينة. حتى على مستوى المسلسلات الدرامية أو السيت كوم، أحاول أن أجتهد أكثر وأبتعد عن أي اقتراح لا يحترم فني وأخلاقياتي فأنا أحترم جمهوري وأسعى دائما إلى أن أمشي برأس مرفوع أمام محبي وجمهوري.
كيف تعيشون انتعاش الوضعية المسرحية اليوم؟
الحمد لله اليوم المسرح ينتعش بمجموعة من الأشياء مثل دعم وزارة الثقافة لمجموعة من الأعمال المسرحية وهذا إنجاز كبير وساهم في تطور المسرح المغربي. صحيح أننا لم نصل بعد إلى المبتغى، لكن هنالك تطور وإبداع كبيرين على مستوى الفرق. فالمسرح ولله الحمد يتعافى وسيزدهر أكثر باجتهاد الفرق ودعم وزارة الثقافة ونأمل في الدعم من مجموعة من الجهات كالمقاطعات والجماعات من خلال شراء العروض وتنظيم مهرجانات مسرحية. نحن في الطريق الصحيح.
وهل من أعمال مسرحية وتلفزيونية أنتم بصدد الاشتغال عليها حاليا؟
هناك ثلاث مسرحيات أشتغل عليها حاليا. الأولى هي مسرحية بَّا الغافل لمسرح فرقة الثلاثة، وهي من تأليف وإخراج عبد الواحد مودين. بها مجموعة من الفنانين المحترفين. العمل الثاني هو مسرحية النقشة مع فرقة محترف 21. وهي مسرحية من تأليف وإخراج سعد الله مجيد. والعمل الثالث هو مسرحية الزيغة من تأليف وإخراج سعد الله مجيد.
كما انتهيت من تصوير مسلسل الناس لملاح سيناريو وحوار الحاج أحمد أبو عروة، وإخراج جميلة البرجي وسيعرض على القناة الثانية. وكذلك المشاركة في مجموعة حلقات برنامج لحبيبة أمي.
وأغتنم هذه الفرصة من خلال جريدة المنعطف التي سعدت بلقائها، لأشكر الجمهور الذي يساندنا دائما ويسأل عن الجديد وتواق لرؤية الأعمال الجيدة. وبكل صراحة علاقتي كبيرة وطيبة مع الجمهور المغربي الذي يشجعني باستمرار. أتمنى أن أكون دائما عند حسن ظنه بي.