a24- حوار :حسن عين الحياة
حينما تجالس الدكتور سعيد هبال صاحب كتاب “أصدقاء ملك”، الذي ركز فيه على علاقة الملك الراحل الحسن الثاني بالفنانين، تشعر كما لو أنك في حضرة موسوعة، لا تنضب بالمعطيات المتعلقة بالملك الراحل، وبشخصيته الأثيرية، التي تركت أثرا عميقا في نفوس المغاربة.
وفي هذا الحوار الذي خص به “المنعطف”، يحملنا سعيد هبال في سفر خاص، ليضعنا أمام الملك الراحل الحسن الثاني، الذي تميز بشخصية كريزمية، انصهر فيها الإلمام الجيد بأمور الدين، والدراية الواسعة بالفن، والتعلق الشديد بـ”تمغريبيت”… إضافة إلى مناقب أخرى، تجدونها في الحوار التالي.
اشتغلت في كتابك “أصدقاء ملك” على شخصية الملك الراحل الحسن الثاني، خاصة في شقها المتعلق بالفن، هل صادفت في بحثك، معطيات حول علاقتها بالشأن الديني؟
يمكن القول، من خلال ما تجمع لديَّ من معطيات، إن الملك الراحل الحسن الثاني زاوج في تكوينه بين ما هو ديني محض، و ما هو حداثي عصري، بحيث كانت له مربية خاصة فرنسية تسهر على تربيته وتعليمه اللغة الفرنسية منذ الطفولة، وفي الوقت نفسه حرص المغفور له محمد الخامس على تعليمه تعليما دينيا عتيقا في “المسيد”، يرتكز برنامجه على حفظ القرآن الكريم و ترتيله و تعلم قواعده و كتابته بطريقة ورش. وهذا مكنه من تعليم و ثقافة مزدوجة، جعلته يتمتع بشخصية قوية ومنفتحة، و في الوقت نفسه تقليدية محافظة، مما جعل له تصورا خاصا للفن وللدين. و كان مرارا في استجواباته و أحاديثه يدافع عن الفن من منطلق الدين، لأن الفن يجعلك تكتشف مواطن الجمال في الدين وفي القرآن وفي الحياة.. و بقدر ما كانت مكتبته تتوفر على كتب الدين ومراجعه ومصادره، كان قصره يضم أرفع اللوحات التشكيلية لكبار الرسامين العالميين، وكان مولوعا باقتنائها، وكانت غرفته ممتلئة بالأسطوانات وحتى الآلات الموسيقية، لأنه كان عازفا ماهرا على البيانو و الآكورديون، فضلا على أنه كان ضابط إيقاع ممتازا، وقد تعلم الموسيقى عن أصولها بالمعهد الموسيقي هنا في المغرب و في فرنسا حينما كان طالبا.
بعيدا عن الموسيقى كيف ترى علاقة الملك الراحل بالزوايا الصوفية وبعض الأضرحة؟
للراحل الحسن الثاني علاقة خاصة بالزوايا والأضرحة، ويعرف أصحابها معرفة دقيقة ويعرف تاريخهم، بل يعرف حتى الأضرحة اليهودية و مواعيد زياراتها، وكان يوصي بترميمها وصيانتها، لأنها تاريخ المغاربة وهويتهم. و لقد خصص لها منحا سنوية تسلم للقائمين عليها، بل يرسل إليها حتى “الذبيحة” في المواسم، وغالبا ما كان مولاي أحمد العلوي هو من يتكلف بهذه المهمة. ومرة قصده الشرفاء الأدارسة يطليون الصفح عن الإدريسي القيطوني الذي كان قد غضب عنه الحسن الثاني بسبب افتتاحية له في جريدة “لوبينيون”، و “رماوا عليه العار”، فغضب وقال لهم: “احنا الشرفاء العلويين واعر علينا العار ديال الشرفاء الأدارسة”، فصفح عن الإدريسي و عفا عنه.
عند تنقيبنا في أرشيف الدروس الحسنية، يظهر الملك الراحل الحسن الثاني كفقيه ضابط لأصول الفقه، وله في ذلك قصص كثيرة مع علماء وشيوخ وفقهاء.. هل صادفت قصة أو أكثر في بحثك الخاص بالملك الراحل؟
عُرف عن الملك الراحل الحسن الثاني حبه الاستماع للإذاعة الوطنية، وكان من مريدي برنامج الشيخ المكي الناصري قبل صلاة الفجر، والاستماع إلى تلاوة بنموسى المغربية، وهو من أسس للدروس الحسنية للاستفادة منها و من دروسها وخلق نقاش وحوار بين العلماء من مختلف المذاهب والاتجاهات، وسبق له أن أوقف مؤذنا في الرباط لأن آذانه كان مشرقيا وليس مغربيا. كما أوقف قارئا مغربيا في الدروس الحسنية وخاطبه: “اقرأ بدون سيكا ولا نهوند”، وهي مقامات موسيقية في القراءة المشرقية، و حكى لي مولاي الطاهر عضو مجموعة جيلالة أن الحسن الثاني مرة سأله لماذا في قصيدة الشمعة الناظم إدريس بنعلي قدم النفيلة على الفرض، و نحن في المذهب المالكي نقدم الفرض على النوافل؟، وبالعودة للدروس الحسنية، كان العلماء يضربون ألف حساب للملك الراحل أثناء أمام المثول بين يديه،لأنه لا يترك كبيرة أو صغيرة تمر، و لا يمكن أن تخطأ أو تحرف أو تنسب حديثا لغير صاحبه، مع حرصه الشديد على الوسطية والاعتدال ورفضه لكل أشكال التطرف، و كان يقول للفرنسيين: “إن التطرف يوجد كذلك عند البروتستانت و الكاتوليك واليهود و ليس المسلمين”.
هل يمكن القول إن تربيته الدينية هي التي جعلت منه ملكا ملما بأمور الدين (ملك فقيه)؟
نعم لقد كان ملكا فقيها، فبقدر ما هو على إلمام بالقانون والتاريخ والعلاقات الدولية واللغات، فهو فقيه حتى النخاع، و له تكوين ديني متين يقارع به العلماء وكبار الفقهاء.وكان المذهب المالكي مقدس بالنسبة له، بعد القرآن و السنة. و “تامغربيت” خط أحمر يرفض حتى الاجتهاد فيها.
على ذكر “تامغربيت”، يرى كثيرون أن الملك الحسن الثاني كان صارما إزاء المس بالقيم، بحيث لم يكن يحب أن يخرق أحد الخصوصية المغربية في علاقتها بالدين الإسلامي، في نظرك، ماهي تجليات هذه الصرامة؟
لقد سبق له أن أوقف الفنان لحسن زينون وهو يدخل التجديد على بعض الرقصات المغربية حينما أسس فرقة شعبية خاصة، وطلب الملك من السي بنعيسى وزير الثقافة قائلا: “هاذ السيد يمشي يبعد من التراث و يخليه على طبيعتو”. وعند بنائه لمسجد الحسن الثاني حرص على جلب لمعلمين والصناع المهرة في الصناعة التقليدية من فاس وسلا والصويرة ومراكش، وكلف المهندس “بانسو” بالاستشارة معهم وكلف “باكار” رفقة الطيب الصديقي بتتبع الأشغال، والحرص على مطابقتها لما هو مغربي، من جبص وزليج و نحاس و خشب …. و مرة حكى لي الفنان الراحل الطيب الصديقي بأن الملك أثناء تفقده لأشغال بناء مسجد الحسن الثاني وجد نحاسا منقوشا في أعلى القبة، فأمر بإزالته فورا، مخاطبا المعلمين: “راه لبحر هذا و هذاك النحاس غادي يكحال و يخزز و كيف غادي نديرو نمسحوه كل مرة”.. و اقترح تعويضه بخشب العرعار مع طلائه بصباغة نحاسية تشبه مادة النحاس.
ومرة كان يقوم بإصلاحات في قصر مراكش وكلف مرافقه الحاج بينبين بتتبع أشغال صيانة النافورة، لأن بينبين كان ملما بالهندسة والأشكال، و قال له الملك الراحل : “أريد طرازا مغربيا موحديا وليس أندلسيا في شكل النافورة”، و بعد الانتهاء من أشغال الإصلاح و الترميم زار الملك القصر و كان يرافقه أحد المهندسين المعماريين الفرنسيين فقال له “يا سيدي الملك هذا الزليج اعوج”، فرد عليه الملك: “آش كاتفهم انتا فهاذشي راه الزليج البلدي حلاوتو في عووجيتو”.إن تمسكه بكل ما هو مغربي كان حتى في نظام أكله،فقد كان رحمه الله ملما بجميع الأطباق المغربية حتى التي انقرضت، وكانت إحدى الطباخات الرئيسيات بالقصر وتسمى “طاطا بلال” و هي من الريصاني تقول لي: “إنه يسأل عن الرفيسة العمية والعدس بالكَديد و باداز بالتقلية، وكل الأكلات المغربية القديمة التي ظلت المفضلة عنده”.