حوار مع الفنان التشكيلي الألمعي المكي بلامينو
المريسكيون مسلمون و يهود ساهموا في ترسيخ صنائع المغرب التقليدية
غلبة العصاميين في التشكيل المغربي يعود إلى غياب أو عدم استكمال التكوين الأكاديمي العالي في الفنون الجميلة
يوجد تطاول على اللغة البصرية بترجمتها الى اللغة المكتوبة بسبب غياب التخصص و التكوين العالي في النقد الفني
بلامينو المكي فنان مغربي المعي من الفنانين المغاربة المبدعين القلائل الذين أسعفهم الحظ في استكمال تكوينهم الأكاديمي العالي و هذا منذ أربعة عقود خلت، اشتغل الرجل بفنه و لفنه، حتى انه و في عز أزمة التوظيف طلب منه في يوم ما ان يلتحق بمديرية الفنون، التحق لبرهة و انسحب لأنه وجد أن من يقوم على الفنون مجرد موظفين لا صلة لهم بالفن. رفض بلامينو أن يلتهم الزمن البيروقراطي المقيت زمن العمل بالمرسم، هو الذي كان يطمح ليكون اشتغاله مع الوزارة الوصية فنيا، فصدمه الواقع.
في هذا الحوار المفتوح و الشيق و الممتع و الصريح نتعرف على رأي مختلف عن السائد في واقع الفن التشكيلي المغربي و معضلاته كمعضلة سطوة أشباه الفنانين و معضلة النقد الفني و سواها مما تضج به الساحة الفنية من ممارسات غير فنية تتلبس الفن او تمتطيه لأجل المال و الحظوة البيروقراطية.
لاتقاه و حاوره عبد اللطيف بوجملة
1- لنبدأ سي المكي بلامينو من حيث لا يطرح عليكم السؤال، ترى ما سر الكنية المورية تلك؟؟
ثمة مصدران لكنية بلامينو، لدي صديق محامي اسباني عادة ما أتردد عليه كلما زرت اسبانيا، و هو أيضا عضو الحزب الشعبي الاسباني، و استفسرته يوما ما عن أصل كنية بلامينو، فبادر إلى الاتصال بمديرة في المكتبة الوطنية بمدريد فأرسلت له وثائق تفسر أصل التسمية.
فاسم بلامينو ينقسم إلى شطرين : بلا و مينو. و يعني الشطر الأول أي بلا، ما نسميه بالدارجة المغربية “البالا” و هي مجرفة صغيرة يستعملها صناع المجوهرات. بينما يعني الشطر الثاني و هو مينو، المعادن الثمينة كالذهب و الفضة و الأحجار الكريمة.
يوجد أيضا شرح آخر للتسمية، و بتحريف جزئي بسيط ، و هو بلومينو، و يشير إلى نوع من الأحصنة ذات اللون الذهبي الخالص، و الحصان البلومينو لصيق في تسميته للونه.
و أنا شخصيا أميل إلى الشرح الأول.
2- لماذا ؟
– لأنك عندما تشغل محرك البحث غوغل، لتبحث عن التسمية الثانية، فانه سيعطيك الفرس جنبا إلى جنب مع صورة الفنان الماثل أمامكم. لكن عند تدقيق البحث ستجد أن الحصان بلومينو يتواجد بكثرة في أمريكا اللاتينية أكثر مما يوجد في اسبانيا، مما يؤكد فرضية أن الأسبان جاؤوا به من مستعمراتهم اللاتينية الجديدة. ونحن نعلم ان تاريخ الاستعمار الاسباني لهذه المستعمرات جاء متأخرا عن طرد الموريسكيين و متأخرا عن سقوط الأندلس. و هو المعطى الذي يثبت أن كنية بلامينو أندلسية و أقدم بقرون من الأحصنة الذهبية بلومينو. و هذا ما يجعلني أميل إلى صحة ما أثبتته وثائق المكتبة الوطنية بمدريد و التي تؤكد أن كنية بلامينو تعود إلى مهنة ترتبط بصنعة المجوهرات و الحلي.
– 3 يظهر من هذا الاستقصاء الجنيالوجي الذي تفضلتم به، أن العديد من صنائع المغرب التقليدية لها نسب أندلسي، و ساهم بها المطرودون من الأندلس، بداية القرن السابع عشر، اعني الطرد النهائي الذي حرم قشتالة من خيرة و امهر صناعها، السؤال هل هذا التأثير يقتصر على الموري المسلم أم يتعداه إلى الموري اليهودي؟
– حسب المعطيات التاريخية المتوفرة و الموثقة، فان المكونيين المجتمعيين الموريسكيين معا ساهما في ترسيخ هذه الصنائع، مع فارق في التخصص. حيث أن الموريسكيين المسلمين غالبا ما تخصصوا في صنائع الجبص و الخشب و الجلد. بينما ساهم الموريسكيون اليهود بصنائع مشتركة مع المسلمين كالزليج، بحيث تجد رمزيا ما يحيل إلى الديانتين ، كعلامات التوحيد الإسلامية لا اله إلا الله و نجمة داوود، ناهيك عن الحمولة الجمالية و الروحية للون. إذ يطغى على الزليج الإسلامي اللون الأخضر كتاج ملون الإسلام، بينما يطغى على الزليج الذي يحمل الروحية و الثقافة اليهودية اللونين الأزرق و الأبيض إذا ما اعتبرنا هذا الأخير لونا. و هو على كل حال لون يبدع الصانع في انتزاعه من مقادير خلطته الصباغية.
أما الصنائع المخصوصة للمكون المجتمعي الموريسكي اليهودي فهي الحلي و مصوغات الذهب و الفضة و الأحجار الكريمة. و هي صنائع لا تزال تحمل إلى اليوم في بعض المناطق ، و بخاصة الجنوب المغربي، رموز هذه الثقافة، حيث يتمازج بانسجام، الرمز اليهودي مع الرمز الاسلامي فتحتوي النجمة الثمانية الإسلامية “الحسكة “اليهودية، و قد تجد نجمة داوود السداسية.
يضاف إلى ذلك العقل البرغماتي للمكون الموريسكي اليهودي ، والذي كان ينتقي صنائعه على مبدأ الاستدامة، أي مهن و تجارة لا تفسد أو تبور، و منها الملح و الفحم و الأثواب و الحرير و المعادن الثمينة كالفضة و الذهب و الأحجار الكريمة.
-4 يوجد رأي رائج يربط بين تسمية حي الملاح بتجارة الملح في الذاكرة المغربية، فإلى أي حد يمكن أن نثق في هذا التحديد؟
– اجزم بان ذلك غير صحيح، لان أصل التسمية مرتبط بالتشريع الإسلامي في باب أهل الذمة، فكان الخلفاء و الملوك و السلاطين المسلمين يمنعون من كانوا يحملون ملة غير الإسلام( أهل الذمة ) من السكن في جوار و بين المسلمين. و بما ان الملة كانت تكتب لاتينيا فهي تنتهي بحرف h))
( mellah)، لذلك كان المغاربة ينطقون الملة بالحاء، و هذا سر التسمية التي تنتشر في جميع الدول الإسلامية.
5- يعود الكثير من الباحثين بأصل صناعة الحلي إلى مكونيين تاريخيين هما الامازيغ و الطوارق، فهل تتفقون مع هذا الطرح؟
– اعتقد أن ما طرحناه حتى الآن قد لا يتعارض كثيرا مع هذا الطرح، لاسيما إن أعملنا الوعي التاريخي، الذي يؤكد على ارتباط الثقافتين الامازيغية و الطوارقية بالثقافة اليهودية قبل مجيء المسيحية و الإسلام لشمال إفريقيا و لجنوبها . لقد ربط الطوارق علاقات مع الثقافة اليهودية عبر التجارة و القوافل و التبادل الثقافي الذي ميز هذه التجارة.
أما بالنسبة للمكون الامازيغي الأصلي و العريق فقد ارتبط بالثقافة اليهودية قبل باقي الثقافات الدينية الأخرى كالمسيحية و الإسلام… و علينا الاجتهاد و الكثير من البحث العلمي و الانتربولوجي و التاريخي لإضاءة هذه العلاقات التاريخية القديمة و الأصيلة.
-6 لا شك أن ما تقدمتم به يمتد إلى الفنون التشكيلية أيضا، لكن لماذا لم يتم جلب الصباغة و الرسم و النحت إلى المغرب بعد الطرد؟
– هذا ليس صحيحا، الصباغة و التزويق و الرسم ولجوا إلى المغرب مع الموريسكيين، باستثناء التشخيص الذي كان يطاله التحريم عند المسلمين.
و إن أردنا الدقة، فان الصباغة حضرت في الكثير من الصنائع التي تعتبر صنائع تشكيلية بالمفهوم العصري أو الحديث: الحلي و صباغة الصوف و صباغة الجلد و صباغة الجبص و الخشب و الزليج و الفخار. و هذا التنوع في الحوامل فرضته الحاجة إليها و استعمالها الاجتماعي و الثقافي.
و بالنسبة لي فان ما يميز الثقافة المغربية في تاريخيتها و التعايش الديني و العقدي الذي عرفته هو أن المغاربة لم يتخذوا مواقف سلبية او متشنجة من النحت و التصاوير و اللوحات التشخيصية لتفتحهم الثقافي المبكر و الأصيل على باقي الديانات الأخرى التي لا تحرم التشخيص كالديانة اليهودية.
7- و عليه ما هي أوضاع التشكيل المغربي اليوم؟
– إذا أردنا الحديث عن راهن التشكيل المغربي لابد من العودة إلى ما قبله، لان قياس تطور الثقافات هو قياس مديد يعتمد الجيل و ليس السنوات.
تعود أول لوحة في التشكيل المغربي المعاصر إلى الفنان بنعلي الرباطي، و هو امتداد زمني وجيز لا يتعدى القرن، هو حيز زمني غير كاف لتأسيس و تكريس رؤية تشكيلية وطنية بمدارسها و اتجاهاتها.
و تكمن مشكلتنا في المغرب و في العالم العربي في هيمنة متطفلين و أشباه فنانين . بمعنى أدق إن الكم الهائل من الرسامين هم موظفون أو باحثون عن اجر من خلال الفن، بينما قلة قليلة هي الموهوبة و التي يمكن أن تحمل هوية الفنان التشكيلي.
ثم إن تدبرنا التجربة التاريخية المعاصرة من وجوهها المختلفة سنجد مدرستين مدرسة تطوان ذات البعد الأكاديمي و مدرسة الدار البيضاء ذات البعد البرغماتي، و بين هاتين المدرستين تنتصب المراكز التربوية الجهوية و التي تخرج موظفين و ليس فنانين، بدليل ان الحيز الزمني للتكوين يقتصر على حصة أسبوعية في الرسم من أصل ثماني حصص .
و اعتقد انه باستثناء مدرسة تطوان و ما بعد ها، أي الهجرة إلى أوروبا لاستكمال التكوين العالي في الفنون الجميلة، عدا ذلك فان الفنانين التشكيليين يوجدون في رحم المراسم و في معترك التشكيل اليومي و في الميدان.
8- لكن سي المكي ثمة ملاحظة مهمة و هي أن هؤلاء المشتغلين في الميدان يوصفون في اغلبهم بالعصاميين، و لا تكوين عال يحوزون عليه، بينما قلة قليلة تخضع للمعيار الذي سبق و أن ذكرتموه، فما رأيكم؟
– اعتقد انه من الضروري التدقيق في الامر، فالاستثناء الذي تحدثت عنه و يتعلق بمدرسة تطوان أو مدرسة الدارالبيضاء، هو ذاته ينتج عصاميين إذا لم يتمكنوا من استكمال تكوينهم الأكاديمي العالي بأوروبا آو سواها، و هم من نسميهم الآن بالمحترفين، اي الذين يتعيشون من أعمالهم الفنية. أما الباقي فهم موظفون ينتظرون أجورهم عند آخر كل شهر
– 9 لم نذكر فئة أخرى من الفنانين هم الساذجون أو المنتمون للفن الخام ( الفطريون) ، فما الفرق؟
– هنا ينبغي التمييز بين الفنان الساذج و هو ساذج في عيشه و في شخصيته، فنان يرسم مخاوفه الطفولية آو ما يراه بالعين الساذجة، بينما الفنان الخام او الفطري، و إن كان قريبا من الساذج، فانه ليس كذلك ، بحيث يستعمل اللون الخام و لا يبحث في الألوان و لا في الأشكال، و المثالين الساطعين في المغرب هما الحمري و الشعيبية.
– 10 إن كان هذا حال التشكيل، فما هي أحوال النقد الفني في المغرب؟
– بصراحة هنالك تطاول على اللغة البصرية بترجمتها الى اللغة المكتوبة أو المنظومة، و هذا يعود إلى غياب التخصص و التكوين العالي في النقد الفني، و هذا لا يمس التشكيل لوحده بل يطال باقي الفنون. فالنقاد الذين ينشطون هم في الغالب قادمون من الأدب أو هم موظفون من خريجي المراكز التربوية الجهوية، و إلا لماذا يتطاول هؤلاء على الفنون البصرية و لا يكتبون في الموسيقى مثلا ؟
– أكثر من ذلك يركز هؤلاء على الشخص عوض العمل الفني، إلى حد أن الرقم الذهبي باعتباره الأداة الحاسمة في النقد التشكيلي لا يستعمل البتة مما يسمى بالنقاد المغاربة المعاصرين.
– 11 لنختم سي المكي بسر بطاقة الفنان، لماذا ترفض تجديدها؟
– لعدم مصداقيتها، و بسبب أن كل من يريدها يحوز عليها كزبون و لو لم يقم بأي معرض إطلاقا، و منهم من يوجد في طور التعلم عبر تلقي حصص في مراسم بعض الفنانين، ناهيك عن واقع مرير يتمثل في أن الحاصلين على هذه البطاقة هم موظفون في الدولة و لا يؤدون الضرائب…..