حسن عين الحياة
جلس في مقعده المعتاد في مقهى “بالي دور” في وسط مدينة الدارالبيضاء..لم يمكث طويلا كما عادته.. احتسى فنجانه معية عدد من أصدقائه، ابتسم، ثم غادر ولم يعد يظهر في هذه المقهى التي ترتبط بجزء من ذاكرته.. كان ذلك في شهر شعبان الماضي، وكانت هذه هي آخر مرة أرى فيها الفنان الكبير السي مصطفى الزعري.
فيما بعد، علمت من بعض أصدقائه وقت ذاك،أنه لزم الفراش إثر وعكة صحية طارئة.. بعدها، أصبحت أتابع، ولو عن بعد،الوضع الصحي للفنان الكبير مصطفى الزعري بعد إصابته بمرض السرطان..منذ نقله إلى المستشفى العسكري في الرباط في أبريل الماضي، ومغادرته له، ودخوله من جديد إلى إحدى المصحات الخاصة في الدارالبيضاء، وعودته إلى منزله في المدينة ذاتها..
الآن، وللاطمئنان فقط، يتماثل الفنان الزعري للشفاء، وفق ما أخبرتنا به زوجته الفنانة المقتدرة رشيدة مشنوع مساء الأحد الماضي، والتي سعدت بسؤال الصحافة عنه في محنته الشديدة، وهي مناسبة نسأل من خلالها العلي القدير أن يعجل بشفائه، حتى يعود من جديد إلى مكانه الطبيعي، حيث السينما والتلفزيون.
في الواقع، إن الحديث عن الفنان مصطفى الزعري، لا يحتويه مقال ولا ندوة ولا برنامج ولا حتى “ماستر كلاس” يكون هو ضيفه.. ذلك أن مسار هذا الفنان الذي تمتد تجربته الفنية إلى أزيد من 6 عقود، يحتاج إلى كتاب خاص، يقتفي أثره، من النشأة، إلى لحظة دخوله عالم التمثيل، مرورا بنحت اسمه ضمن عمالقته، وانتهاء بما وصل إليه كفنان من عيار ثقيل..ولأن عمره الفني مقترن بجزء كبير من الذاكرة الفنية للمغرب الحديث، يمكن القول، إن السي الزعري واحد من رواد الكوميديا في المغرب، وأحد المؤسسين معية رفيقه الفنان المقتدر الراحل مصطفى الداسوكين، إلى جانب آخرين، لظاهرة “الثنائي الفكاهي” في المملكة.
فضلا عن كونه ممثل متمكن من أصول المهنة، سواء على خشبة المسرح أو التلفزيون أو السينما.
اليوم، يقف الفنان الزعري عند عتبة الـ79 من العمر، ورغم ما عاشه خلال الأشهر الماضية من إنهاك بسبب المرض، إلا أنه يتمتع بمعنويات عالية، يغديها حب الجمهور المغربي الذي استمتعت أجياله بما قدمه من أعمال كوميدية ظلت وما تزال موشومة في الذاكرة الفنية للمغاربة.
ولد الفنان مصطفى الزعري في 5 نونبر 1945 بمدينة الدارالبيضاء، وتحديدا في درب لوبيلا بالمدينة القديمة.. عاش سنوات قليلة في هذا الحي، لتنتقل أسرته إلى درب كلوطي الشهير في درب السلطان، وهناك ترعرع وعاش جزءً كبيرا من طفولته..وفي مرحلة اليفاعة، انتقل للسكن في منطقة سباتة، وتحديدا بحي العهد الجديد..
وبحسب ما أخبرنا به الزعري نفسه ذات لقاء جمع بيننا، كان في هذه المرحلة (اليفاعة) كثير الشغب، حيث قال: “كنت كنجيب الصداع للوالدة الله يرحمها.. ولنقل كنت معربدا في الحي، ولم تنفع معي كل المحاولات التي كانت تقوم بها أمي حتى أكف عن المشاجرة.. وقتها زارنا خالي، فطلبت منه والدتي أن يجد لي سبيلا يبعدني عن الحي، وكان رحمه الله يُدَرِّس برفقة الفنان عبد العظيم الشناوي في إحدى المدارس، فضلا عن كون الشناوي وقتها كان ينشط في فرقته المسرحية المسماة “الأخوة العربية”.
عموما، التمس خالي من الشناوي أن يقبلني في فرقته، فقبِل، وكان هدف خالي هو إبعادي عن الحي وعن الشجار.. وبعد قبولي، أصبحت أفتح النادي وأنظفه، فضلا عن حضور التداريب.. كان ذلك عام 1961، ولم يكن عمري يتجاوز وقتها 16 سنة”..
ولأنه كان مواظبا على حضور التداريب المسرحية للفرقة،وجد الزعري نفسه يحفظ أدور الممثلين والممثلات، كما تعلم في هذا المحترف صناعة الديكور وفن التمثيل، قبل أن يغتنم فرصة امتناع أحد أعضاء الفرقة عن لعب دوره في مسرحية “الحائرة”، وكان الشناوي يُعدها لمسابقة مسرح الهواة التي تنظمها وزارة الشباب والرياضة.
آنذاك وجدت الفرقة نفسها في ورطة، خاصة وأن موعد العرض لم يتبق له سوى 10 أيام، فاقترح الزعري نفسه كبديل له، خاصة وأن الممثل الذي امتنع كان يلعب دور البطولة.. “سألني عبد العظيم الشناوي هل تستطيع ذلك، وهل بإمكانك حفظ الدور، فأجبته بأنني أحفظ المسرحية كلها، بما فيها دورك.. مباشرة بعد ذلك، أخضعني الشناوي للتجربة، فانبهر بالأداء.. إذن تم حل المشكل، وشاركنا في المباراة، وفزنا في الاختبار، وكانت اللجنة المكلفة بمباراة مسرح الهواة تتكون من عبد القادر البدوي والطيب الصديقي والطيب لعلج.. وقد اعترف هذا الثلاثي وقتها، بأن “هذاك الدري”، وكانوا يقصدونني، سيكون له مستقبلا كبيرا في التمثيل”، يقول الزعري.
بعدها أصبح الشناوي يعتمد على الزعري كممثل أساسي في فرقته، وقد تجلى ذلك في المسرحية الثانية التي لعبها مع الفرقة ذاتها، والتي حملت عنوان “وليدات ليوم”.
وهذه المسرحية ستشهد ميلاد ممثلة عظيمة في المغرب (الفنانة الراحلة ثريا جبران)، بحيث كانتالفرقةتبحث عن ممثلة في عمر 15 أو 16 سنة لتشخيص دور رئيسي، وبعد بحث مضني لم يعثروا على هذا البروفايل، ليقترح الزعري اسم فتاة تتوفر فيها المواصفات، فكلفوه باصطحابها إلى الفرقة.. آنذاك، توجه عند والدها ووالدتها، وطلب منهم السماح لها بمرافقته لتجربها الفرقة في التمثيل.. وكان الزعري وقتها يشتغل كمربي في مؤسسة خيرية في الدارالبيضاء معية صهر ثريا “السي محمد جبران” الذي حملت اسمه فيما بعد، وأيضا مع والدتها “مي مينة”..
وبعد التحاق ثريا جبران بالفرقة، أنجز الشناويمسرحية “وليدات ليوم” وتم عرضنها في عديد المناسبات. وبعد فترة وجيزة، اتصل الفنان الراحل عبد القادر البدوي بالزعري للاشتغال في فرقته، فالتحق بها ليدشن أول خطوة له في عالم الاحتراف.
بعد هذه التجربة أسس الزعري معية الفنان مصطفى الداسوكين ثنائيا ناجحا، وكان الأبرز ضمن باقي الثنائيات في المغرب، حيث كان “ثنائي الداسوكين والزعري” حاضرا بقوة في التلفزيون والمهرجانات الفنية لقوته في صناعة الضحك، ولقدرته الهائلة في ترجمة هموم المغاربة إلى كوميديا سوداء تتهكم على الواقع من خلال معالجة ذكية للمواضيع..
كما أصبح هذا الثنائي الفكاهي فيما بعد، مادة فنية محببة عند الملك الراحل الحسن الثاني في السهرات الفنية التي كان ينظمها في القصر. وعن هذه المرحلة المهمة في مشواره الفني، يتذكر الزعري أن هذا الثنائي قدم أعماله أمام الملك الراحل في أربع مناسبات، حيث قال في حوار سابق مع “المنعطف” إنه “خلال لقاء جمع بيننا، جاء الملك ليهنئ الفنانين، وتوقف عندنا، ثم سألنا قائلا: “ديما كنسمع الداسوكين والزعري.. بغيت نعرف شكون فيكم الداسوكين وشكون فيكم الزعري”. فقلنا له “الله يبارك في عمر سيدي، غير عيَّط على كل واحد بسميتو وغيقول ليك نعام”. فقال “يالله أسيدي.. مصطفى الداسوكين” فأجبنا معا “الله يبارك في عمر سيدي”، ثم نادى “شكون مصطفى الزعري” فأجبنا معا “الله يبارك في عمر سيدي”، فرد رحمه الله “انتوما باغين تصطيوني في عقلي”. وبحسب الزعري، كان حضور هذا الثنائي في القصر يأتي دائما بمناسبة “شعبانة” التي كان الملك الحسن الثاني يحييها سنويا ويستضيف إليها كبار الفنانين.
الآن، وحين تلتفت إلى رصيد الفنان الكبير مصطفى الزعري من الأعمال الفنية، ستجد في خزانته عشرات المسرحيات والمسلسلات والأفلام التلفزيونية والأفلام السينمائية المغربية والأجنبية، يطغى على كثيرها تلك اللمسة الكوميدية التي ميزته عن كثيرين، خاصة وأنه أحد رواد الكوميديا في المغرب، وقد تجلت هذه اللمسة من خلال حضوره القوي هذا العام (2024)، بعد سنين طويلة من الغياب عن التلفزيون، في المسلسل الدرامي “رحلة العمر”للقناة الأولى، والذي يتتبع مسار 5 أشخاص في السبعينيات من عمرهم يجدون أنفسهم في دار للمسنين لأسباب مختلفة، وقد شخص الزعري دور أحدهم باحترافية، خاصة وأنه، رغم محنة المرض، تمكن من انتزاع الضحك من المشاهدين في مشهد جمع الفنانة الكبيرة نعيمة إلياس والفنان طارق البخاري.
وتعود مشاركات الزعري السينمائية إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي، ذلك أنه لعب أدوارا مهمة في عديد الأفلام، كمشاركته المميزة عام 1973 في فيلم “الصمت.. اتجاه ممنوع” لعبد الله المصباحي، وقد شارك الزعري إلى جانب الفنانين: عبد الهادي بلخياط والعربي الدغمي ومحمد الخلفي وعبد القادر البدوي وعائشة ساجد وفنانين آخرين.
كما شارك في فيلم “الضوء الأخضر” علم 1976، للمخرج عبد الله المصباحي، وهو عمل مغربي مصري، برز فيه الزعري إلى جانب الفنانين: فريد شوقي ويحيى شاهين وليلى طاهر وعبد الوهاب الدكالي وحسن الصقلي وآخرين. ثم شخص أدوارا كوميدية كثيرة في عديد الأفلام، أبرزها الفيلم الكوميدي “خارج التغطية” عام 2013 للمخرج نور الدين دوكنة، والذي لعب بطولته إلى جانب رفيق دربه الفنان الراحل مصطفى الداسوكين.
كما شارك في عدد من المسلسلات التلفزيونية كـ”ستة من ستين” للمخرج حميد الزوغي، و”الثمن” للمخرج شكيب بن عمر، وسيتكوم “نسيب الحاج عزوز” للمخرج حسن غنجة وتأليف سعيد الناصري والسلسلة الفكاهية”مرحبا بصحابي” في جزئيها الأول والثاني للمخرج علي الطاهري، والتي تم انتاجهما عامي 2015 و2016…
إنه مسار مختصر لفنان كبير، ساهمت عطاءاته في إغناء الخزانة الفنية والإبداعية للمملكة.. فشكرا السي الزعري على ما قدمته للمسرح والسينما والتلفزيون طيلة 6 عقود خلت.. وعجل الله بشفائك.