حسن عين الحياة
لم يستوعب الجسم الصحافي في المغرب بعد، صدمة رحيل الصحافي المقتدر والمحلل السياسي والاقتصاديجمال براوي..ذلك أن عددا من الأصدقاء، ممن كانت لهم معه عديد التقاطعات، اعتبروا وفاته خسارة فادحة، ليس للمشهد الإعلامي فحسب، وإنما للوطن أيضا. وهي فعلا خسارة فادحة، لأن جمال، كان يختزل كل المعاني الجميلة، من نضال واجتهاد ومواكبة وفعل وتفاعل وحب كبير للوطن.
فهو صحافي ألمعي، بحس نقدي عميق.. حاد الذكاء، وصاحب رؤية متبصرة.. انطلق في بداياته من الهامش، مشبعا بأفكار اليسار التقدمي، ومثقلا بهموم المجتمع في “القاع”، لينحت اسمه سريعا في المركز، ويفرض نفسه هناك، من خلال كتاباته ذات الخلفية الفكرية التي تقطر نقدا للسياسات المرتبطة بالمجتمع.. وبقدر ما كان يكتب، كان يقطف احترام الفوق قبل “التحت”، بالنظر إلى المصداقية التي كان يتمتع بها، وأيضا لأنه كان في كل كتابته، ينتصر للحق، وليس لشيء آخر.
جمال براوي عَبْدِي المنشأ.. وكان يحب هذا الانتماء إلى منطقة عبدة، ويفصح عنه في جلساته. فهو من مواليد مدينة آسفي عام 1955، ترعرع في كنفها وعاش طفولته كما يقول بعض المقربين منه في حي سيدي عبد الكريم،كما درس الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارسها، وهناك تلمَّس أول طريق له في درب النضال معية عديد الرفاق بآسفي. ذلك أنه انخرط مبكرا في الشبيبة الاتحادية ولم يغادرها إلا عام 1976، حينما انتقل إلى مدينة الدارالبيضاء لمتابعة دراسته في كلية الحقوق.
وعن هذه المرحلة، يقول رفيق دربه فجري الهاشمي، إنه بعد انتقال جمال براوي من كلية الحقوق في الدار البيضاء إلى كلية الحقوق بالرباط، والتي حصل منها على الإجازة في شعبة الاقتصاد، “أصبح “تروتسكيا”، وكان الرقم 2 في التيار بعد المرحوممحمد عياد”. ويضيف الهاشمي، أن “قناعات جمال بدأت تتغير ابتداءً من التسعينيات، لكنه لم ينخرط في الاتحاد الاشتراكي إلا في المرحلة قبل المؤتمر التاسع، الذي كان حاضرا لتغطيته إعلاميا، وكنت صحبته”، يقول الهاشمي.
بعد حصول جمال براوي على الإجازة في شعبة الاقتصاد بكلية الحقوق في الرباط، اشتغل لمدة سنتين في الخزينة العامة للمملكة في إطار الخدمة المدنية، قبل أن ينتقل للعمل في البنك المغربي للتجارة والصناعة، والذي قضى فيه مدية قليلة، ليشتغل بعدها في المكتب الوطني للشاي والسكر. لكن هذه الوظائف لم تكن تلبي طموحاته، إذ أنه كان عند كل انتقال من مؤسسة إلى أخرى يبحث عن ذاته أولا، فكان أن جرب العمل في شركة متخصصة في بيع الآلات الفلاحية. وهنا يقربنا فجري الهاشمي الذي جمعته صداقة قوية مع جمال منذ 1976 بآسفي، من مغزى انتقال جمال من وظيفة إلى أخرى بقوله، إنه بعد تجريبه كل هذه الوظائف بدا جمال “وكأنه كان يبحث عن نفسه، فجيناته لا ترتاح للوظائف، إلى أن وجد نفسه في ليكونوميست (L’Economiste)، وبعدها في الحياة الاقتصادية (La Vie éco)، التي أصبح رئيس تحريرها”.
كان جمال يكتب بلغة فرنسية أنيقة للغاية، بالرغم من إتقانه للكتابة باللغة العربية، وكانت كل كتاباته تعكس تكوينه الذي يمتح روحه من الفكر النقدي.. فقد ينطلق من فكرة قد تبدو لكثيرين بسيطة، لكنها تكبر تدريجيا ككرة ثلج.. ذلك أنه كان أشبه بماكينة معقدة التصميم، يحصل على المعلومة المغلفة بالحُجب، والعصية على الفهم، فيعالجها من منظور اجتماعي، ثم يعكسها فجأة على الواقع السياسي، ومن تم تأثيرها على الدورة الاقتصادية، والعكس.. وهذا الأسلوب النادر في التحليل، كان جمال سيده دون منازع.
بعد تجربته في “لافي إيكو” ساهم جمال أو “جمال الدين” كما يناديه المقربونفي تأسيس أسبوعية “لوجورنال” ثم “الصحيفة”، قبل أن يستقر في أسبوعية “لاغازيت دي ماروك”. وبعد تقاعده، اشتغل في إذاعة “إم أف إم” لصاحبها كمال لحلو، وهناك انتقل من الكتابة بالقلم، إلى الكتابة بالصوت، في البرنامج الإذاعي اليومي “أش واقع” أو الأسبوعي “ديكريبتاج”، فكان مستقطبا للضوء ولافتا للانتباه من خلال تحليلاته وآرائه وجرأته أيضا.
في “أش واقع” أو “ديكريبتاج”، كان صوت جمال، بلكنته البدوية المحببة، قريبا من الناس.. كان صوت المغرب العميق.. يحلل ببساطة السهل الممتنع.. وبين كلمة وأخرى تشعر أنه قريب منك، وأنه يتكلم نيابة عنك.. يتناول الموضوع المطروح من كل جوانبه.. يفككه كميكانيكي في ورشة يعرف كل أدواتها.. وكان بحكم إلمامه الواسع بالشأن السياسي والشأن العمومي ودرايته الواسعة بالشأن الاقتصادييتحدث خلف الميكرفون كضمير حي، ينبه ويوبخ وينتقد وينير، وفوق ذلك، يجد الحلول، فتشعر أنه قريب من مركز القرار، وفي الوقت نفسه قريب منك، وبين هاته المسافة، كان جمال، وهو الذي لا يبحث عن الألقاب ولا حتى عن الضوء، يبرز كإعلامي استثنائي، ومحلل سياسي ومفكر اقتصادي، وفوق ذلك انسان بأخلاق عالية، يشتغل من أجل هدف واحد.. هو حب الوطن وتحصين مكتسباته.
الذين يعرفون جمال براوي جيدا، يقولون إنه متعدد المواهب، فهو إلى جانب مهنته (الصحافة) التي مارسها بمهنية عالية، وساهم في تطويرها، كان عاشقا للثقافة الشعبية المغربية، وكاتبا للزجل، وحافظا لقصائد الملحون.. كما كان متتبعا للشأن الرياضي، ومحللا رياضيا من طراز رفيع، فضلا على أنهكان متيما بحب الرجاء الرياضي.. وهذا الانتماء لـ”الخضرة” لم يكن خافيا على أحد، خاصة وأنه، بحكم إقامته في المعاريف بالداراالبيضاء، كان وفيا لمشاهدة مباريات الرجاءمنذ عقود في ملعب “سطاددونور”، وليس عبر شاشة التلفاز فقط، حيث كان يتوجه كل يوم أحد إلى الملعب رفقة صديقه الهاشمي باعتبارهما “بجوج رجاويين”.
لقد كان جمال برواي وفق عديد الشهادات التي قيلت في حقه، صحافيا مناضلا، سخر قلمه من أجل الرقي بالمهنة أولا، وبتنوير الرأي العام، وبالانتصار للديمقراطية.. ذلك أنه بحكم تكوينه السياسي، اليساري، كان منحازا للقضايا الاجتماعية وللعدالة الاجتماعية.. صلبا في مواقه وعنيدا في الدفاع عن آرائه، مع إيمانه الكبير بالاختلاف وبالتعددية. وستتذكر أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة، برقية التعزية والمواساة التي بعثها الملك محمد السادس لأسرة جمال براوي، والتي وصفه فيها بـ”الصحافي البارز”، حيث قال جلالته في هذه البرقية: “وبهذه المناسبة المحزنة، نعرب لكم ومن خلالكم لكافة أهلكم وذويكم، ولأسرة الفقيد الإعلامية الوطنية، ولسائر أصدقائه ومحبيه، عن أحر التعازي وأصدق مشاعر المواساة، في رحيل صحفي ومحلل سياسي واقتصادي مقتدر، مشهود له بمسار إعلامي متميز، جُبل على العطاء والوفاء الثابت لمبادئ المهنة وأخلاقياتها التي جسدها، بكل جرأة وموضوعية، في دفاعه المستميت، وبحس وطني صادق وغيور، عن المصالح العليا لبلده، وعن ثوابت الأمة ومقدساتها”.
وأضاف الملك في البرقية ذاتها: “وإذ نشاطركم مشاعركم في هذا المصاب الأليم الذي ألم بأسرتكم قضاء وقدرا، فإننا نسأله جل وعلا أن يعوضكم عن فقدانه جميل الصبر والسلوان، ويثيبه خير الجزاء عما أسداه لوطنه من جليل الخدمات، وعما قدم بين يدي ربه من صالح الأعمال والمبرات، وأن يشمله بمرضاته ويتقبله مع الصالحين من عباده في جنات النعيم”. و”إنا لله وإنا إليه راجعون”، صدق الله العظيم.
رحم الله جمال، ومتعه بفسيح الجنان.