حسن عين الحياة. المنعطف24
لم يكن من السهل أن يتجاوزه التاريخ رغم رحيله سنة 1999، أو يصبح تاريخ وفاته مجرد ذكرى، أنه المغفور له الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه، ما يزال حاضرا وساكنا في وجدان المغاربة كصانع للتاريخ.
وكيف لملك مثله أن يُنسى؟ وهو يسكن إلى غاية اليوم ألباب وقلوب السواد الأعظم من المغاربة الذين عايشوه.. سواء الذين لمسوا بعض الصرامة في حكمه الذي دام 38 سنة، أو أولئك الذين لمسوا في الحكم ذاته نوعا من اللين.. لكن بين اللين والصرامة، فهم كثيرون، بعد رحيله طبعا، أن صرامة الحسن الثاني كانت استثنائية.. تجمع بين شدة ومرونة الأب في تعامله مع الأبناء أولا وشعبه ثانيا،خاصة وأنه بنى فلسفة حكمه على أن الملك في المغرب هو أب للجميع، وبالتالي إن عنصر الصرامة، كان مظهرا يخفي خلفه وجه ملك أنزل أفراد شعبه في منزلة الأبناء.. لذلك، كان في كثير من خطبه، يحرص على أن يخاطب المغاربة في بيوتهم كما لو أنه فردا من العائلة.. يتحدث لغتهم، ويتداول أمثالهم، وينفعل مثلهم، وفي كثير من الأحيان كان تماهيه مع الشعب في خطبه، يذهب به إلى حد دغدغة وجدان المتلقي فردا فردا ليسوسهم جماعة.
لقد مر على رحيل الحسن الثاني ربع قرن من الزمن،ورغم ذلك،ماتزال وسائل الإعلام تفرد مساحات واسعة من آثره في السياسة والفقه والفن والثقافة والرياضة والأناقة والموضة وحتى تعامله مع الصحافة والتلفزيون.. وفي كل مرة، نعود فيها إلى صور وفيديوهات الحسن الثاني وهو يتحدث أو يخطب أمام الشعب، يفاجئنا تارة بحلمه وذكائه، وتارة أخرى يبهرنا بأناقته التي كان يحرص عليها كأسلوب حياة يميزه عن باقي الزعماء في العالم.. ولعل ذلك هو ما جعل كثيرون يحفونه، رغم رحيله، بأوصاف تنهل من الذكاء والعبقرية خواصها الاستثنائية.
في هذه الورقة، نسلط الضوء على جوانب مثيرة في حياة الملك الحسن الثاني، بعضها يتعلق بثقافته الواسعة، وأخرى بالفن، وبعضها الأخر يتعلق بسر أناقته التي كانت وما تزال إلى اليوم تشد الأنظار وتلفت الانتباه، بالرغم من مرور ربع قرن على رحيله.. لنتابع.
أناقة الحسن الثاني اللاهبة للأذواق:
عاش المغاربة تحت راية المغفور له الحسن الثاني 38 سنة من الحكم(1961-1999).. وخلال هذه المدة، ارتبط اسمه بعديد الانجازات والمحطات التاريخية التي جعلت تقدم المغرب اليوم تحت راية الملك محمد السادس، امتدادا لمغرب الأمس.ويكفي هنا الحديث عن”مغرب السدود”، و”مغرب المسيرة الخضراء”، و”مغرب معجزة الجدار الأمني”، و”مغرب مسجد الحسن الثاني”، و”مغربالتناوب”، وهي أمثلة قليلة، لإدراك عبقرية ملك همام، وازن في حكمه بين الأصالة والتجديد، وبين التمسك بالدين كأمير للمؤمنين والتشبث بالدنيا كملك.ومن خلال هذا التضاد في بعده المفتوح على الانفتاح والتشبث بالهوية المغربية، تمكن الحسن الثاني من جعل المغرب وشعبه مفخرة بين الأمم، مُسخرا في ذلك حنكته وما تمتع به من بعد نظر ومن حكمة في إدارة شؤون العباد والبلاد. ولعل ذلك هو ما جعل المغاربة يرسمون له صورة أثيرية في وجدانهم، كقائد عظيم، وزعيم عربي وازن، ومفكر متبصر، ومثقف كبير،وفقيه علامة، وخطيب مفوه، وفوق ذلك، ملك للأناقة بامتياز.
ولأن الأناقة أسلوب حياة عند الملك الراحل الحسن الثاني، فقد سُلطتعليهالأضواء، خلال سنوات حكمه، كحاكم يزاوج في أناقته بين اللباس العصري والتقليدي، كما أفردت له مجلات الموضة العالمية صفحات للتغني بأناقته. وهذا التغني لم يكن مجانيا وقتها، لولا ظهوره، في الداخل والخارج، بمظهر جذاب يلهب الأذواق، وأيضا لانفتاحه على أشهر المصممين العالميين، وفي مقدمتهم الراحل “فرنسيسكو سمالطو” الذي ظل اسمه لصيقا بأسماء المشاهير والزعماء، وبشكل أخص بالحسن الثاني الذي كان يعطي في كل إطلالة له مظهرا باذخا لعلامته التجارية.. لكن بقدر ما كان الملك الراحل، منفتحا على اللباس الغربي الكلاسيكي، بقدر ما كان متشبثابارتدائه للزي التقليدي، حيث كان له، وفق عدد من المصادر، طاقم من المصممين والخياطين الذين يبدعون، من داخل الخصوصية المغربية، أزياء خاصة للملك، كالجلباب والسلهام والجبادور وغيرها كثير.
وتبعا لعديد المصادر، فقد حظي الملك الراحل الحسن الثاني، مرتين أو أكثر، بلقب الرجل الأكثر أناقة في العالم.. فقد كانت بذله وأسلوبه في اللباس يشدان الأنظار ويلهبان الألباب بالنظر إلى ذوقه الرفيع في اختيار الأزياء. ولعل ذلك هو ما دفع مجلة “كلاس” الإيطالية إلى طلب الحظوة بمحاورة الحسن الثاني في مارس 1987، للحديث عن عديد الجوانب في شخصية الملك الراحل، وضمنها حرصه الشديد على الأناقة.
في هذا الحوار عزا الراحل الحسن الثاني سر أناقته إلى والده السلطان محمد الخامس، بقوله “أنا مدين بكل شيء لوالدي الذي كان صارما في هذه النقطة، كان يرى أنه ينبغي أن تكون طريقة اللباس سليمة، وحتى ولو ارتدينا لباسا باهظ الثمن، فلسنا في نظره مع ذلك أنيقين”. ويضيف الملك أنه بعد مرور الزمن نضج اقتناعه بأن الأناقة شكل من الاحترام الذي “نكنه للغير، فعندما كنا نستقبل أحدا، وعندما نحادث أحدا أو نخطب أمام الجماهير أو أمام التلفزة، فعلينا أن نكون مرتدين لباسا مناسبا احتراما للجميع”.
في هذا الحوار تحدث الملك الراحل أيضا عن خياطه الشهير “فرانسيسكو سمالطو”، الذي وافته المنية في أبريل 2015 بمراكش، والذي ظل اسمه، بالرغم من تصميمه لأزياء عدد من المشاهير، مرتبطا بالحسن الثاني.
الحسن الثاني.. من أناقة المظهر إلى أناقة الجوهر:
لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني أنيقا فحسب، بقدر ما كانت أناقته تعكس كيمياء خاصة في داخله، تنصهر فيها عديد المعارف التي كانت تبرزه دائما بصفة “الملك المثقف” الملم بدقائق الأمور. لذلك، ظل على امتداد حكمه بين سنة 1961 و1999، ذلك الحاكم الملم بكل أمور الدنيا والدين، فقد كان الملك الراحل، يحمل عديد الأوصاف من قبيل “السياسي الأول” و”الفنان الأول” و”المثقف الأول” و”الرياضي الأول”… وهي أوصاف حاول من خلالها المحيطون به، إبراز مدى تفوق الحسن الثاني في مجالات بعينها، حتى يظل محاطا بتلك “الهيبة” التي ميزته من جهة، ويظل رمزا خالدا في ذاكرة المغاربة من جهة ثانية.. ولعل ذلك قد تجلى فعلا، في كون الحسن الثاني رغم مرور ربع قرن على وفاته، ما يزال حاضرا بيننا بفكره و”أبويته” وطرائفه وعبقريته التي أذهلت الكثيرين. غيرأن جانبا في شخصية الملك الراحل الحسن الثاني لم يفلح المحيطون به في إبرازه، وهو حسه المرهف، كإنسان يترجم إحساسه إلى أشكال إبداعية، تعكس شخصيته المركبة، بين الملك والإنسان.. ذلك أن الحسن الثاني بالرغم من انشغالاته الكبرى بالقضايا الوطنية والدولية، كان له من الوقت،بحسب الذين احتكوا به عن قرب، ما يجعله ينظم قصائد الشعر، والنهل من دواوين كبار الشعراء، من الصعاليك إلى رواد الشعر الجاهلي وشعراء الإسلام، أو أولئك الذين برزوا في عهدي الدولة الأموية والعباسية، مروراً بشعر المهجر وكبار الشعر الرومانسي وانتهاء برواد الشعر الحر..
في هذا السياق،يجمع كثير من الدارسين لفكر الملك الراحل الحسن الثاني، أن هذا الملك الذي حكم المغرب قرابة أربعة عقود، كان خطيبا مفوها، متمكنا من اللغة، بارعا في فنون القول وزخرف الحديث وطرز الكلام، وموظِفا بارعا لتراكمه الثقافي في خطبه واستجواباته الصحفية.. حيث لا يمكن أن يخاطب شعبه دون أن يستند في حديثه على بيت شعري أو مثل شعبي، ناهيك عن نهله بشراهة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال كبار الفقهاء والعلماء والفلاسفة.. كل ذلك كان ينطلق منسابا، كشلال جارف، على لسانه الذي ألف ارتجال الخطب بتلقائية وعفوية نادرتين. وحسب بعض من هؤلاء، يعكس هذاالتفرد في غنى الإنتاج الشفهي للملك، اطلاعه الواسع على العلوم والتراث الأدبي والفقهي والفلسفي.. وهو ما جعله مميزا بين حكام عصره.
وهنا يمكن لمن لم يعاصر هذا الملك العظيم، أن يعود لخطبه واستجواباته الصحفية الغزيرة المنتشرة في موقع “يوتيوب” ليكتشف كيف كان هذا الملك بارعا في فن الحوار، وكيف كان عدد من مشاهير الصحافة والإعلام في العالم يتسابقون من أجل محاورته، وهم يعلمون أن طرح الأسئلة على ملك مثقف مجازفة أو مغامرة في حد ذاتها.
ذلك أنه كان كما قال كثيرون يقرأ ما في العقول، وقد يجيب الصحافي حتى قبل طرح السؤال، وقد يباغته ويفاجِئه بمعلومات من صميم ثقافة بلده. وبالتالي لا عجب أن يستشهد بمثل مغربي أو عربي أو فرنسي في أحاديثه لتعزيز فكرته، تماما كما حدث ذات مرة حينما سأل صحافي إيطالي الحسن الثاني عن سر أناقته، ليجيب بعد قول مستفيض “عندنا مثل يقول: كول بشهوتك، ولبس بشهوة الناس”، أو حينما وضف في إحدى خطبه بيتا شعريا لدريد بن الصمة القائل: “وهل أنا إلا من غزية إن غوت، غويت، وإن ترشد غزية أرشد”، وغيرها كثير من الأمثلة، التي كان الملك يظهر وهو يعزز من أقوال المأثور أحاديثه وخطبه.
الملك الإنسان والملك الفنان:
وبعيدا عن أناقة المظهر وأناقة الجهور، ثمة ما ميز الراحل الحسن الثاني أيضا عند الباحثين والمنقبين عن سر تفرده، أو بالأحرى استمرار حضوره في التفاصيل عند المغاربة.. فقد ورد في إحدى مطبوعات المملكة المغربية أن الحسن الثاني “اجتمعت في شخصه الكريم همة أجداده الميامين، من حنكة وشجاعة المولى إسماعيل، وعالمية سيدي محمد بن عبد الله، وسلفية المولى سلميان، وورع مولاي عبد الرحمان، وتجديد جده المولى الحسن”، ومن جهة ثانية، كما قال أحد أعضاء أكاديمية المملكة، “كان هدف الملك هو مغرب الحداثة وليس تحديث المغرب”، مما يعني، حسب أحد المحللين، أن الحسن الثاني كان مذهبا خاصا تنصهر فيه المذاهب، حيث “أدرك أن الحفاظ على التقاليد السلطانية لا يعني الاستمرار في تسيير البلاد بنفس الأساليب التقليدية”.
إن هذه التوصيفات، هي التي تجعل كثيرين اليوم، يجزمون بأن الملك الراحل الحسن الثاني كان لوحده يشكل ظاهرة.. ففي المجال الفني مثلا: قال بعض الذين وُجدوا في محيطه إن الحسن الثاني كان فنانا من معدن نفيس، يعرف في التشكيل كما لو أنه أحد التشكيليين العالميين، ويفهم في الموسيقى كما لو أنه قضى كل حياته باحثا في أصول الفنون وتاريخها.. لقد كان يجيد العزف على آلة “الأكورديون”، بل ويترك مكانه ويتوجه إلى فرقة الجوق الملكي التي تنشط أجواء سهراته بالقصر، ليقوم بتسييرها كـ”مايسترو” محترف.. ولعل صوره وهو ينقر على البندير، أو يعزف على آلة الأكورديون، أو تسييره للجوقة الموسيقية، أو وهو صحبة الفنانين في جو حميمي، المنتشرة بغزارة في عديد المواقع، ومدى تفاعل المغاربة معها بمواقع التواصل الاجتماعي، دليل على مكانته البارزة عند المغاربة.. خاصة وأنها مذيلة بآلاف التعاليق وعلامات الإعجاب التي تجعل منه شخصية لا يمكن تجاوز ذكرها دون تخصيصها بنوع من الإطراء والمديح.
وهنا كشف عديد الفنانين، مغاربة ومشارقة عن الوجه الفني للحسن الثاني، وقد أورنا في أعداد سابقة في “المنعطف” بعض قصصه معهم.. وفي كل قصة كان حجم الإعجاب يحيط بملك تمتع بذوق فني رفيع. وبقدر ما كان يعشق الفن ويكرم الفنانين، كان أيضا يحب أن تُصنع الطُرفة في حضرته. فقد حكى الفنان الكوميدي الراحل عبر الرحيم التونسي (عبد الرؤوف)في حديث جرى بيننا، كيف أنه في عز تقديمه لـ”سكيتش” فني أمام الملك وضيوفه في القصر، وأمام تناقض المواقف داخل فقرته الفكاهية، نهض الملك من مكانه وصاح وسط الحضور “واااا سكت آ الكذاب”، كما لو أنه واحد من الجمهور بمسرح عادي، ما دفع الحاضرين إلى الضحك. أو حينما تدخل ذات مرة بمسرح محمد الخامس، وفق ما حكاه لنا الفنان الراحل المحجوب الراجي، ليصحح اختلالا في الديكور. وغيرها كثير.
لقد كان الملك الراحل وفق عدد من الفنانين، يتدخل ليوقف الجوق أثناء العزف، حين يكتشف نشازا موسيقيا صادرا عنه. بل إن الملك تدخل ذات مرة أثناء غناء سيدة الطرب أم كلثوم ليصحح لها خطأ في أغنيتها التي تحفظها عن ظهر قلب، ذلك أنه كان، حسب من وجدوا في حضرته، يفاجئ بعض الفنانين الكبار بتلحيين بعض القصائد الشعرية، أو يتدخل في الوقت المناسب، وهم يؤدون الأغاني في حضرته، لتصحيح ما غاب عنهم في الأبيات التي يحفظونها، مثلما حصل مع الفنانة المصرية أم كلثوم، التي غنت في حضرته أغنية “فكروني” الشهيرة، حيث كان الحسن الثاني، حسب الفنان الراحل صالح الشرقي، يتدخل ليذكرها ببعض الأبيات الشعرية التي نسيتها من القصيدة، وكان يحفظها هو عن ظهر قلب ما جعلها تتفاجأ بالعمق الفني للملك، ناهيك عن قصصه مع عمالقة الطرب الشرقي، كعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وصباح وشادية والموجي وغيرهم ممن اعترفوا بالدراية الموسيقية الواسعة للحسن الثاني.
رحم الله الحسن الثاني وجزاه خيرا عن كل ما أسداه في سبيل تقدم المغرب والمغاربة.