حسن عين الحياة
عندما تنقب في الأرشيف التلفزيوني والإذاعي وحتى السينمائي المغربي، عن المبدعين الذين كان لهم شرف التأسيس للدراما المغربية بمفهومها الحديث، تستوقفك قامة فنية عملاقة، تحظى بالإجماع، ولا يختلف حولها أحد.. أعطت فأبدعت، وشخصت فأمتعت، وبين الإبداع والإمتاع، ألهمت كثيرين ممن كانوا يتلمسون طريقهم الأول في درب التمثيل، ومنحتهم الأمل في الـتألق محليا وعالميا، مادام هذا الفنان القدوة، قد حلق عاليا في سماء الفن، سواء في الإنتاجات المغربية أو العالمية.. إنه الفنان القدير الراحل العربي الدغمي.
الذين عاصروه، يقولون إنه فنان متكامل، وممثل من عيار ثقيل.. فعندما تراه لأول مرة، يبدو وجهه مألوفا، وهذه الميزة لا توجد إلا عند قلة من الممثلين الكبار، لذلك، كان وجهه وحده يملأ الشاشة، وحتى حين يظهر في الصورة معية الشخوص الأخرى، كان يستقطب انتباه المشاهدين، بالنظر إلى جرعة الصدق التي كان يضخها في الشخصيات التي يتقمصها، وأيضا لاحترافيته في التعامل مع الكاميرا وزوايا التصوير.. مقنع إلى حد كبير في أدائه،وقد تمكن أن ينفذ إلى قلوب المغاربة حتى قبل أن يشاهدوه، خاصة من خلال صوته الفريد، وهو يؤدي شخصياته، صوتا، في التمثيليات التي كانت تبثها الإذاعة الوطنية مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، إلى جانب عديد الفنانين كعبد الله شقرون وحميدو بنمسعود وإبراهيم السوسي وعبد الرزاق حكم وحمادي عمور وأحمد الغربي وحبيبة المذكوري وأمينة رشيد…
اليوم، ورغم مرور 30 سنة على وفاته، مايزال العربي الدغمي حاضرا في وجدان من جايلوه، وأيضا في السجل الذهبي للممثلين الأكثر تأثيرا في الدراما المغربية، خاصة وأنه خلف قبل رحيله عام 1994 عشرات المسرحيات والمسلسلات والأفلام السينمائية، والتي كان بطلها دون منازع.
ولد العربي الدغمي عام 1931 بمدينة الرباط.. كان الابن البكر لأبويه، الحاج لمفضل بن العربيوالحاجة ربيعة.. ولأنه تربى في أسرة محافظة، فقد وجهته الوالدة إلى الكتَّاب لحفظ القرآن الكريم، وكان أنتتلمذ على يد عديد الفقهاء الرباطيين، ومن أبرزهم الفقيه محمد بن محمد الجيلالي الأزرق.
بعد تجربة الكتاب القرآني، التحق الطفل العربي في أواخر الثلاثينيات بالمدرسة المحمدية مدشنا فيها تعليمه الابتدائي، وكانت وقتها تضم عددا من الأساتذة الوطنيين، والذين بفضلهم فتح العربي عينه على نضال المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي، وكان ذاك نوع من التأثير على توجهاته فيما بعد، حيث انخرط في خلايا سرية بمدينة الرباط لمناهضة المستعمر، كما استعمل فنه أيضا لبث الروح الوطنية من خلال الخطابات السياسية المناهضة للمحتل.
عموما، فبعد إتمامه للمرحلة الابتدائية، انتقل إلى مجموعة مدارس محمد الخامس، والتي أخذ نبوغه الفني يبرز فيها، خاصة حينما كان يؤدي بعض الروايات عند نهاية السنة الدراسية. ولأنه كان متفوقا، فقد اشتغل بالموازاة مع متابعة دراسته الثانويةكمعلم مساعد بمدرسة سيدي القجيري بالسويقة في الرباط، وذلك لمساعدة أسرته على تكاليف العيش، قبل أن يصبح فيما بعد أستاذتتلمذ على يديه كثيرون.
خلال هذه المرحلة، حكي لنا الفنان الراحل المحجوب الراجي في حوار جرى بيننا على هامش المهرجان الدولي للفيلم بمراكش عام 2008، أنه كان محظوظا بأن درس خلال المرحلة الابتدائية على يد الفنان العربي الدغمي، وكان محظوظا أكثر حين اقترنت به فيما بعد مسيرته الأولى في درب التمثيل. وخلال هذه المرحلة أيضا (التدريس)، كان الحس الفكاهي متقدا عند العربي الدغمي، وهنا يقول المهتمون بمساره الفني،إنه كان يقلد زملاءه الأساتذة، وكان ضمنهم من شجعه على احتراف التمثيل، خاصة وأنه كان بارعا في التقليد. ولأن ميوله للفن كان يكبر يوما بعد آخر، فقد التحق عام 1948 بمدرسة المعمورة لصقل موهبته في التمثيل، قبل أن ينتقل عام 1952 إلى معهد الأبحاث المسرحية الذي كان يشرف عليه آنذاك “أندري فوازان”. وبعد عام فقط، انضم إلى فرقة المسرح المغربي والتي كانت تضم كبار الفنانين، أمثال الطيب الصديقي ومحمد سعيد عفيفي والطيب لعلج وخديجة جمال وممثلين آخرين.وتقول عديد المصادر التي اشتغلت على توثيق الذاكرة المسرحية، إن الدغمي معية زملائه، اشتغلوا وقتها (1953) على ربيرطوار المسرح العالمي، فأعدوا مسرحيات لموليير وشكيبير، وكان ذلك نوع من التجديد للفعل المسرحي المغربي الذي كان يعتمد كثيرا على “الرواية” والتمثيليات.
قبل هذه المرحلة، كانت فرقة الإذاعة الوطنية قد تأسست في أكتوبر 1951، برئاسة الفنان عبد الله شقرون،وكانتتشتغل كثيرا على عديد الروايات، مع وجوه فنية من قبيل حمادي عمور وعبد الرزاق حكم وحميدو بنمسعود وحبيبة المذكوري وأمينة رشيد… لكنها لم تعرف تلك الطفرة التي ميزتها في جانب المسرح الإذاعي،إلا بالتحاق فنانين آخرين، وعلى رأسهم العربي الدغمي، الذي أصبح من خلال مساهمته الفعالة كممثل ومؤلف، واحدا ممن ينسب إليهم شرف التأسيس للمسرح الإذاعي المغربي.
ولأنه كان مؤمنا بأن التكوين عنصرا أساسيا لصقل الموهبة، حلق الدغمي معية حميدو بنمسعود إلى فرنسامن أجل التكوين في الأداء السينمائي، وبعد انتهاء فترة التدريب في أحد المعاهد بباريس، عاد إلى المغرب ليشارك لأول مرة في فيلم سينمائي، (فيلم “طبيب بالعافية”عن رواية موليير)، وهو فليم بإنتاج مشترك فرنسي مغربي، وكان قد شاركه في الفيلم ذاته الممثل المصري الكبير كمال الشناوي، قبل تنهال عليه العروض للمشاركة في عديد الأفلام السينمائية.
في عام 1975، انتقل الفنان العربي الدغمي إلى العالمية من خلال مشاركته في الفيلم الأمريكي -البريطاني “الرجل الذي سيصبح ملكا” للمخرج جون هيوستن، وكان الدغمي الذي شخص دور ملك أفغاني مميزا إلى جانب عمالقة السينما آنذاك، أمثال شين كونري وكريستوفر بلامر ومايكل كين. كما شارك باقتدار في الفيلم الأمريكي “الفرس الأسود” عام 1979، إلى جانب الممثلين كيلي رينو وميكيروني وتيري جار وكلارنس موسي وهويت آكستون، فضلا عن لعبه عام 1986 دور البطولة إلى جانب الممثلة الأمريكية الشهيرة “شارون ستون” في فيلم “ألان كاتيرمان والذهب المفقود”.
أما مشاركته في الأفلام المغربية، فهي غزيرة، حيث مثل أدوارا مهمة في فيلم “حلاق درب الفقراء” و”قفطان الحب” و”إبراهيم ياش” للمخرج نبيل لحلو، وفيلم “عرس الدم”، فضلا عن فيلم “معركة الملوك الثلاثة” للمخرج سهيل بنبركة.
أما مشاركته في المسلسلات التلفزيونية، فقد انطلقت بانطلاق التلفزيون المغربي عام 1962، وهي في عمومها كثيرة، إلى درجة أن بعض المهتمين حصر عدد الأعمال التي شارك فيها العربي الدغمي في 480 عملا، تتوزع بين المسرح والسينما والتلفزيون. وإن كان هناك من نقل عن الفنان الراحل المحجوب الراجي قوله إن الفنان العربي الدغمي شارك في 3920 تمثيلية و210 مسلسلات و240 مسرحية تلفزيونية. وهي عملية إحصائية صادرة عن فنان رافق الدغمي في مساره الإبداعي، سواء بالإذاعة والتلفزيون.
رحم الله الفنان العربي الدغمي وأسكنه فسيح الجنان.