استقلال النيابة العامة : القرار الصعب
د . عبد الرحمان اللمتوني (*)
تجسد العدالة عادة بامرأة معصوبة العينين وبيدها سيف يمكنها من فرض سلطة القانون دون تمييز بين الناس، و دون اكتراث لألوانهم أو أشكالهم أو مستوياتهم الاجتماعية ، و لذلك قال أرسطو أن الناس عندما يلجؤون إلى القضاء إنما يلجؤون إلى شخص ثالث محايد هو رجل العدل المتجرد من الأهواء ، على نحو يجعلنا نكاد نجزم أن أرسطو كان يتحدث عن الآلهة لا عن البشر.
و الحقيقة أن القضاء رسالة نبيلة لا يمكن إسنادها لأي كان، و إذا كان من المستحيل إسناد العدالة للآلهة إيمانا بالله الواحد الأحد الذي تنصب محكمته في الآخرة و لا علاقة لها بعدل البشر في الدنيا، فإنه سيكون من الضروري على الأقل أن يسند القضاء لبشر غير البشر، بشر يملكون من سمو الأخلاق و غزارة العلم و التجرد من الأهواء ما يؤهلهم لتطبيق نص القانون من أجل العدل دون تمييز بين الناس. فهل نملك قضاة من هذا النوع ؟ و هل نستطيع اليوم أن نسلم سيف النيابة العامة للقضاة، و نطمئن مع ذلك على حريتنا و أعراضنا و أموالنا؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة يقتضي أن نعترف بأن القضاء يعاني من الفساد ومن ضعف التكوين وضعف التجربة لدى فئة عريضة من القضاة، فهل يبرر هذا القول بإبقاء النيابة العامة تحت وصاية وزارة العدل؟ أعتقد أن الجواب بسيط، لأن ذات القضاء بما يجر وراءه من أعطاب موضوع اليوم تحت سلطة وزير العدل في شقه المتعلق بالنيابة العامة، و هو ذات القضاء سينتقل بذات الأعطاب ليوضع تحت سلطة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، و إذا صح القول بأن وصاية وزير العدل تقلل من أعطاب القضاء، فإن هذا القول سيكون صحيحا مائة بالمائة إذا تعلق الأمر بوصاية الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، لأنه من كبار القضاة الذين راكموا تجربة كبيرة و يعينهم صاحب الجلالة بناء على معايير ومواصفات، تجعل من المفترض أن من يوضع على رأس النيابة العامة هو رجل يكاد يشبه رجل العدل الذي وصفه أرسطو عند تعريفه للعدالة، و لكن هل يتطابق وصف أرسطو مع رجل السياسة لنضع النيابة العامة تحت إمرته؟ يمكنني أن أجزم بأنه مهما سمى رجل السياسة و مهما كان صاحب مبادئ و أخلاق ومواقف، فإنه لن يستطيع أن يتجرد من أهواء و حسابات السياسة و إن هو فعل سيكون قد طلق السياسة و عليه ان يتقاعد من مهامه كوزير سياسي، و هنا مربط الفرس إذ لا يجتمع عدل و سياسة، فالعدل لا يكترث للأشخاص ولا لظروف الزمان والمكان، بينما يبقى التوقيت عامل اساسي في قرارات السياسي.
ورغم هذه المقارنة بين رئيس النيابة العامة السياسي و رئيس النيابة العامة القاضي، فالأكيد أن قضية استقلال النيابة أكبر من ان تحسم من خلال هذه المقارنة البسيطة، و إنما يقتضي الأمر مراعاة مجموعة من المعطيات التاريخية والثقافية والقانونية وأساسا مراعاة المصلحة الوطنية، فمن جهة يبقى القانون المغربي مستوحى في غالبيته من المدرسة اللاتنية الجرمانية التي تتميز أغلب الأنظمة القانونية التي تنهل منها بتبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية، و حتى الدول التي شكلت الإستثناء داخل هذا النظام كإيطاليا التي منحت استقلالا تاما للنيابة العامة ، سرعان ما عرفت أزمة تغول النيابة العامة على نحو جعل الفقه الجنائي ينادي بوضع آليات لمراقبة النيابة العامة لمنع استبدادها و تهديدها لحريات المواطنين، لذلك يصعب الأخذ بخيار استقلال النيابة العامة دون إعادة النظر في المنظومة القانونية ككل، و من جهة أخرى فإن السياسة الجنائية هي من صميم عمل السلطة التنفيذية و لا يمكن لهذه الأخيرة أن تضطلع بمهام السياسة الجنائية، التي تساءل عنها، دون أن يوضع تحت إمرتها الجهاز الذي ينفذ هذه السياسة.
تبقى هذه المبررات صحيحة، و لكنها تحمل في طياتها ما يهدمها ، ففيما يتعلق بالانتماء للنظام اللاتيني الجرماني، يكفي أن نشير إلى أن فرنسا التي تشكل قوانينها المصدر التاريخي للقانون المغربي كثيرا ما اعتبرت نيابتها العامة جهازا غير قضائي لعدم تمتعه بالاستقلال اللازمة، كما أن تقرير ” دوين بزنيس ” حول مناخ الاستثمار لسنة 2004 سبق و أن وصف النظام اللاتيني الجرماني بالنظام المتعثر لما تتميز به مساطره من بطء و تعقيد. و فيما يخص السياسة الجنائية فإنه سيكون من المفيد الفصل بين الجهاز الذي يضع هذه السياسة و بين الجهاز الذي ينفذها للحيلولة دون اتخاذ قرارات حسب المقاس تحت مسمى السياسة الجنائية، علما أن هذه الأخيرة لا تمارس فقط من خلال الدوريات والتعليمات وإنما تمارس أيضا من خلال التشريع، حيث أن السلطة التشريعية تضع النص و القضاء يطبقه، دون أن يسجل التاريخ وجود أزمة سياسة جنائية على هذا المستوى.
يتضح من خلال ما سبق أنه لن تعوزنا الحجج والأسانيد للدفاع عن استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل مثلما لن تعوزنا الحجج والأسانيد للدفاع عن بقاء النيابة العامة تحت سلطة وزير العدل، و لكن المعيار الفاصل الذي يجب أن يحكمنا جميعا في خيارنا بهذا الخصوص هو مصلحة المواطن و الوطن، و يكفي أن نشير إلى أن التقارير الدولية غالبا ما تصنف المغرب في خانة الدول التي تعاني من عدم استقلال القضاء، بسبب تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية، كما أن رئاسة النيابة العامة من قبل قاض تجعله مؤهل لمحاربة الفساد و تطبيق القانون بالصرامة والتجرد اللازمين، أكثر من السياسي الذي تحكمه توازنات تتعلق بالحزب والخصوم السياسيين و الرأي العام و الصحافة، باعتبار أن عمل القاضي مسيج بالقانون و المساطر و المجالس التأديبية و غيرها من الضمانات التي وجدت أساسا من أجل الحيلولة دون تحكم القاضي أو تحيزه لهذا الطرف أو ذاك. و على من ينادي ببقاء النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية أن يستحضر توصيات هيئة الانصاف و المصالحة التي كان من بينها الدعوة إلى تدعيم استقلال العدالة الجنائية ، وجميعنا يعرف الدور المركزي للنيابة العامة في العدالة الجنائية، كما يجب على هؤلاء استحضار أحكام الدستور المغربي الذي اختاره الشعب، فإذا ما بقيت النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية، فسنفرغ دستور سنة 2011 من محتواه و لن يكون أي فرق بينه و بين دستور سنة 1996، ما دام أن القضاء الجالس كان دائما مستقل عن السلطة التنفيذية. و إذا لم تستقل النيابة العامة فلا مجال للحديث عن السلطة القضائية المستقلة، ما دام ان السلطة التنفيذية التي من المفروض ان تكون تحت رقابتها ستبقى ماسكة بأحد جناحيها.
لقد أثبت القضاء المغربي طيلة عقود من الزمن أنه مؤهل لتحقيق السلم و الأمن وتحفيز الاستثمار، لقد ربح القضاء رهان المغربة و التعريب و التوحيد و تأسيس نظام مغربي للنقض، ثم عول المشرع على القضاء في انقاد المقاولة و تطبيق قانون تجاري حداثي، فكان في مستوى الرهان من خلال تجربة القضاء التجاري، التي أبدعت اجتهادات وحلول قانونية يضرب بها المثل في المنتديات الدولية وجعلت شركات عالمية تتخلى عن مساطر التحكيم لتضع ثقتها في القضاء التجاري المغربي، وعول عاهل البلاد والمشرع على القضاء في ايجاد حلول عادلة بمناسبة تطبيق مدونة الأسرة، فكان القضاء المغربي مرة أخرى في مستوى الأمانة، وطبق مدونة الأسرة بروح جعلت كل الفرقاء يطمئنون لعدالة الأسرة رغم الخلافات الحادة التي سبقت سن المدونة، وأخيرا اكتوت بلادنا بنار الإرهاب، فكان القضاء مرة أخرى في مستوى الحدث دون أن تربكه لا حداثة النص ولا حداثة وهول الظاهرة، فكان بذلك عملة ثمينة لها حضورها الوازن في المحافل الدولية، و خبرة فريدة تطلبها الدول الشقيقة وتبدل في سبيلها مختلف ضروب التحفيزات المادية للقضاة ومختلف ضروب التودد لوزير العدل أينما حل وارتحل من أجل تمكين بعض الدول الشقيقة من خدمات الخبرة القضائية المغربية.
إن هذا القضاء الشامخ الذي نجح في مختلف المحطات وكان في مستوى الرهانات لقادر اليوم على أن يكسب الرهان مرة أخرى، و يدير دفة النيابة العامة دون وصاية السياسي، و لكن ذلك يقتضي تأهيل هذا القضاء من خلال تكوين أفراده علميا و سيكولوجيا وأخلاقيا وثقافيا، والأهم من ذلك تطهيره من فيروس الفساد، ووضع ضمانات للحيلولة دون استبداد النيابة العامة، و الحيلولة دون هدر القانون في العلاقة بين الرئيس و المرؤوس، إذ التخوف كل التخوف من وضع يكون فيه الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض هو الرئيس الأعلى الذي ينقط ويحيل على المجلس و يحاكم و يصدر العقوبات، فإما أن تكون الاستقلالية كاملة لا منقوصة، بضمانات حقيقة تمنع الانحراف و التسلط و الاستبداد، و إما أتركوا دار لقمان على حالها، فالاستقرار في أحضان السياسي بأهوائه و حساباته السياسية أفضل من تسليم سيف النيابة العامة دون حسيب و لا رقيب.
(*)عضو نادي قضاة المغرب