الجزأ الاول “خربة زمران”
عباس فراق هذا الإسم السينمائي و المسرحي و الادبي الذي راكم سنوات من العطاء في مختلف مجالات الإبداع. يفتح قلبه و دفتر يومياته و ذاكرته لقراء المنعطف من خلال كتابه “زمن السعوب” الذي هو وجه آخر لسيرة ذاتية تقاطع فيها العام و الخاص، حتى إختلطت لحظاته، فحياة المبدع ليست ملكا له بل هي ملك للأخرين الشركاء في الحياة التي من أجلها أبدع و أعطى عصارة جهده الفكري.
إذا تشرع جريدة المنعطف في نشر الجزء الأول من السيرة الذاتية للمناضل والكاتب والسينمائي عباس فراق ابراهيم والتي ركز في جزئها الاول على مرحلة “خربة زمران” كمحطة أولى في سيرته الشاملة ” زمن الشعوب ”
ويتناول الكتاب من خلال مسار حياة المؤلف التحولات التي عرفها المجتمع المغربي خلال خمسينيات القرن الماضي وأهم المحطات التي شكلتها الأحداث الاجتماعية والسياسية التي شغلت الرأي العام واحتلت الذاكرة الجماعية للشعب المغربي.
الحلقة السادسة:
زمن البسطاء
كان سكان الخربة يواجهون متاعب الحياة بالتآزر بينهم ولا يترددون في مساعدة بعضهم البعض كلما دعت الضرورة إلى ذلك …فذات مساء و بعد صلاة العشاء بمسجد الحي وبينما كان الرجال متوجهين نحو الخربة وصل إلى علمهم أن أحد الجيران بالدرب يعاني من مرض مزمن وقلة ذات اليد مما جعله غير قادر على شراء أضحية العيد… فبادر الجميع إلى المساهمة في ثمنها وكلفوا الفقير علي المؤذن بمهمة اقتناء الخروف وبعثه مع النقال إلى بيت المعني بالأمر مع الحرس الشديد على ألا يعلم هذا الأخير بمصدر المساعدة وذلك لاجتناب الإحراج…وكم كانت فرحة أفراد عائلة الجار المريض كبيرة حيث ظنوا أن الأمر يتعلق بمفاجأة من تدبيره…
كما دأب سكان الخربة على الاحتفال الجماعي أيام الأعياد الدينية . فكانت النساء تخرجن الأفرشة والموائد إلى الفناء وتشتركن في طهي فطور العيد و تقديمه إلى الرجال الذين يستغلون هذه المناسبة لتبادل أطراف الحديث في مختلف أمور الحياة . أما قضايا الآخرة فكان الحديث عنها من اختصاص مؤذن الحي الفقير علي زوج خدوج الشيضمية الذي كان لا يتهاون في استغلال فرصة الجلسات لتذكير جيرانه للمرة الألف بثوابت العقيدة ونواقض الوضوء ومشاهد جهنم وعذابها الذي ينتظر الكافرين وتاركي الصلاة يوم القيامة…
غير أن علال العسكري الذي فقد رجله اليمنى في الحرب العالمية الثانية كان في حقيقة الأمر سيد الميدان بدون منازع عندما يسرد على مسامع الحاضرين ذكرياته خلال مشاركته في المعارك ضد الألمان…
قال علال وهو يروي لجيرانه أحداث الحرب المثيرة وهم ينصتون إليه باهتمام كبير :
ـ طلب الضابط الفرنسي بعض المتطوعين فكنت أولهم . وكانت مهمتنا اقتحام قرية ألمانية للتأكد من إخلائها من طرف الجنود الألمان بعد أن صبت عليها طائرات الحلفاء وابلا من القنابل. كنا أربعة جنود. دخلنا القرية منتشرين من عدة محاور. وبينما كنت أمشي بين خراب أزقة القرية بحذر الجندي المحترف وقفت على عشرة جنود ألمان فسلموا أنفسهم دون مقاومة رافعين أيديهم إلى السماء وهم مذعورون وفي حالة مزرية وذلك بمجرد أن صوبت نحوهم بندقيتي .فقدتهم أمامي كقطيع غنم إلى أن أوصلتهم إلى الخط الأمامي للجيش الفرنسي …عندها هنأني الضابط أمام باقي الجنود واعتبرني بطلا وقال ما مفاده أن الجمهورية الفرنسية تفتخر بجندي مقدام مثلي . ووعدني أنه سوف يرشحني للحصول على ميدالية الصليب الحربي…
وفي اليوم الموالي تورط فيلقنا في حقل ألغام فقتل الضابط الفرنسي وجنود آخرين, أما أنا فقد ضاعت رجلي اليمنى في ذلك اليوم المشؤوم …
ونظر علال العسكري إلى الجزء الخشبي من رجله ثم رفع بصره نحو الحاضرين وقال :
ـ المكتوب ماعليه هروب!
فتجرأ والدي وسأله :
ـ وباقي أعطاوك هديك المداية باش قاولك الفسيان ؟
نظر إليه علال في صمت قبل أن يجيبه قائلا:
ـ أحنا اللي كنا فلالمان كيف ما كان الحال عندنا الزهر على الخوت اللي كانوا فلاندوشين وحصلوا فمعركة ” ديان بيان تفو” … اللي ممات فيهم رجع مسطي …ثم قال وكأنه يريد أن يتناسى الموضوع : يالله! أخوي لينا أتاي, ديناها فالكلام علكيرة ونسينا الصينية !…
وأخرج أسطوانة من غلافها ووضعها على الفونوغراف وأدار الآلة عدة مرات ليستمع الجميع إلى رائعة الحسين السلاوي الشهيرة ” أوحضي راسك لايفوزو بيك القومان يافلان”…
مرضت الشيخة حليمة الضريرة بداء السل وتوفيت في أقل من شهر…
كما توفيت أختها عائشة بنفس المرض بعدها بأيام قليلة وبقي أخوهما عباس وحيدا في الغرفة المجاورة لنا يكاد لا يغادرها ولا يكلم أحدا حزنا و أسى على أختيه…فكان جيران الخربة رغم فقرهم يقدمون له يوميا من طعامهم المتواضع إلى أن سقط بدوره ذات صباح ضحية المرض الفتاك …
وصل خبره إلى مقدم الحي فقام هذا الأخير بإخبار السلطات المعنية فحضر إلى دار الخربة وبشكل مفاجئ أشخاص يرتدون وزرات بيضاء وعلى أنوفهم أقنعة واقية ليخرجوا صاحبنا من غرفته محمولا على مرفع بينما كانت الجارات تبكين وهن يودعنه, ولعلهن كن مقتنعات بأن هذه آخر مرة يرونه فيها وانه لن يعود إلى الخربة بعدها, فالشفاء من داء السل كان من باب المعجزات…
لازلت أتذكر ملامح صديقي عباس الرجل الطيب وهو يبتسم إلي في طريقه نحو المجهول…
مر أسبوع على الواقعة ليدق باب الخربة “بامارت” وهو وكيل الأوقاف الذي يرث من لا وارث له. فتح باب غرفة عباس ودخلها ليحصي الأثاث والأمتعة البسيطة والمتواضعة والجيران يطلون عليه في صمت … ثم خرج نحو باب الدرب ليظهر من جديد ومعه صاحب عربة ليأخذا ما بالغرفة ويتجها نحو سوق الخردة … وأهم ما أثار انتباهي من بين الأشياء المحمولة على عربة “بامارت” الكمنجة والدربوكة اللتان كانت الفنانتان الراحلتان تطربان الناس وتدخلان بهما الفرحة على القلوب …
بقيت الغرفة فارغة مدة طويلة وكنت أدخلها خلسة عن والدتي وسرعان ما كنت أغادرها خوفا من أشباح عباس وأختيه. فقد ترك رحيلهم فراغا مهولا بالنسبة للجيران… أما أنا فقد أثر في رحيل عباس أشد تأثير وبقيت أتذكر يوم نقلته سيارة الإسعاف المخيفة نحو مصيره المحتوم مما ترك في نفسي حسرة دامت سنيين طويلة قبل أن يصبح يوما في مقدرتي أن أنسب قضية عباس وباقي أمثاله من البؤساء إلى الجانب العبثي من الحياة