نوستالجيا شخصيات منحت القابها لاحياء عشوائية اتسمت بالفقر والهشاشة
تحمل بعض التجمعات السكنية في مدينة الدار البيضاء أسماء وألقابا غريبة وطريفة، ارتبطت بوقائع وأحداث طبعت ذاكرة سكان أحياء ودروب العاصمة الاقتصادية. التهميش والغبن والفقر والعشوائية، مفردات واقع مرير، ترزح تحت وطأته الأحياء “غريبة الأسماء”، ولمعرفة خبايا ذلك تم النبش في ذاكرة ساكنة هذه الاحياء ، كيف ومتى ولماذا التصقت مسميات مثل “التقلية والشيشان وكريكوار” بهذه الأحياء؟
“التقلية”… دوار شخص كان يحب اكل احشاء الغنم
ارتبط اسم جماعة المكانسة، بالضاحية الجنوبية لمدينة الدار البيضاء، منذ انتشار البناء العشوائي فيها، باسم محمد قريما “التقلية”، النائب البرلماني السابق، وأحد كبار مالكي الأراضي الفلاحية والمتاجرين فيها. وبدأت قصة حمل المكانسة للاسم الجديد “التقلية”، في تسعينيات القرن الماضي، حين اختص محمد قريما في بيع وشراء البقع الأرضية الفلاحية بطريقة عشوائية، للفارين من لهيب سومة الكراء المكلفة، والقادمين للعاصمة الاقتصادية للبحث عن لقمة العيش.
حمل “قريما” لقب “التقلية”، (الذي أصبح اسما للحي السكني لمكانسة بين سنة 1992 و1993)، لحبه تناول أكلة أحشاء الأغنام المعروفة بـ”التقلية” عند العامة، وكان قريما، حسب سكان الحي، يفتخر أمام أصدقاء طفولته، بتناوله لوجبته المفضلة “التقلية”. كان يكرر قريما دائما على مسامع أبناء الدوار أنه “مْعركًها تْقلية”، ما جعل أبناء المنطقة يلقبونها بـ “التقلية”، ولم يصمد الاسم الحقيقي لمحمد أمام اللقب الجديد، وظل يتردد في كل مرة وحين، لكن قريما حسب أحد المقربين منه، لا يغضب عند مناداته بهذا اللقب.
اشتهر قريما ومعه منطقة المكانسة بلقب “التقلية”، حين امتهن صديقنا بيع البقع الأرضية خارج القانون، إذ كان يشتري أراض فلاحية من المزارعين، (الذين أنهكتهم سنوات الجفاف والقحط)، ويعيد بيعها للهاربين من البوادي المتضررة من شح الأمطار آنذاك، إلى العاصمة الاقتصادية للعمل وإعالة أسرهم. “فين اشريت، اشريت عند التقليا”، عبارة انتشرت كالنار في الهشيم، بين الباحثين عن امتلاك بقعة أرضية بضواحي الدارالبيضاء في سنوات التسعينات، ومعها جاءت تسمية المكانسة بـ “التقلية”، الذي يؤوي اليوم أزيد من ثلاث مائة ألف أسرة. وحسب أبناء أولاد حدو (السكان الأصليون للمكانسة)، لم يتوقع أحد يوما ما أن تحمل المنطقة اسم “التقلية”، وتتحول في زمن قياسي إلى حي صناعي وسكني عشوائي، يضم أزيد من 500 مصنع، وآلاف المنازل التي بنيت دون تراخيص. خلال اعتقال “التقلية” (محمد قريما)، على خلفية التورط في البناء العشوائي بالمنطقة، قدم إلى المسؤولين لائحة تضم الأسماء المتورطة في ملف الأبنية العشوائية، سواء ببوسكورة أو بمنطقة أولاد حدو، دون أن تمسهم التحقيقات.
“الشيشان”.. حي الهاربين من الجفاف
يصنف الحي السكني “الشيشان” (الذي سمي خلال الحرب الشيشانية الأولى، التي كانت بين روسيا والشيشان بين 1994 و1996)، في ضواحي مدينة الدارالبيضاء، ضمن دواوير أحزمة الفقر المحيطة بالعاصمة الاقتصادية الأكثر شهرة وقدما. واستطاع سكان الدوار، في ظرف زمني لم يتجاوز 20 سنة، فرض أنفسهم بقوة في خارطة الأحياء السكنية العشوائية، الأكثر استقطابا للفارين من جحيم البوادي المتضررة من سنوات الجفاف. حيث أُطلق اسم “الشيشان” على جماعة الهراويين في عمالة مقاطعات سيدي عثمان بالدارالبيضاء لأول مرة في سنة 1996، بعد الأحداث الدامية التي عرفها الحي، في بداية التسعينات بين السكان والسلطات المحلية.
بدأت حكاية سكان جماعة الهراويين مع الاسم الجديد “الشيشان” في صيف سنة 1996، حين انتفض أبناء المنطقة (معظمهم مهاجرون قرويون) في وجه أحد القياد، الذي واجه مد البناء العشوائي في المنطقة بصرامة، ومنع أحد بارونات البناء غير اللائق من تشييد بيوت في بقعة أرضية أمام المدرسة الابتدائية الهراويين، لأن الأرض كانت في ملكية السلطات. إصرار المتاجرين في البناء العشوائي على تحدي قرار السلطات، وعزم الأخيرة الضرب بيد من حديد على يد العابثين بالمستقبل الحضري والعمراني للمنطقة، نتج عنه صراع غير محسوب النتائج.
واجه سكان “الشيشان” القوات العمومية والجرافات، التي دخلت الحي لهدم المنازل العشوائية، بالحجارة والسيوف وقنينات البنزين الحارقة، ومنعوا السلطات (التي استعملت بدورها القنابل المسيلة للدموع والهراوات لصد المحتجين) من الدخول إلى حيهم، لتنفيذ قرار هدم البيوت والإسطبلات العشوائية.
وتزامن تمرد سكان جماعة الهراويين على قرار هدم المنازل العشوائية، مع الحرب الشيشانية الأولى، التي كانت بين روسيا والشيشان من عام 1994 إلى 1996، وانتهت باستقلال الشيشان عن روسيا، تأثر أبناء الهراويين بهذه الحرب ونتائجها، ولقبوا مواجهتهم بـ”حرب الشيشان المغربية”، بعد هذا الصراع حملت المنطقة لقب “الشيشان”، حسب حكاية أشخاص من عين المكان. انتهت حرب “الشيشان” بين سكان الدوار العشوائي والسلطات المحلية باعتقال عشرات المتمردين وجرح المئات في صفوف القوات العمومية والمحتجين، وإحراق عشرات السيارات والملحقة الإدارية للهراويين، والحد نسبيا من زحف البناء العشوائي في المنطقة.
“السكويلة”… الكاريان الأكثر شهرة بالعاصمة
يعود تاريخ نشأة دوار السكويلة في سيدي مومن، بالدارالبيضاء، إلى سنة 1930، إذ يعتبر من بين أعرق الأحياء الصفيحية بالعاصمة الاقتصادية، سمي بـ”السكويلة” (كلمة إسبانية تعني المدرسة) نسبة إلى مدرسة اليهود، التي كانت توجد بالمنطقة، وبالضبط حيث توجد حاليا شركة “بريماريوس”، حسب رواية السكان.
بعد أن اشترت الشركة المذكورة الأرض التي كانت فيها “السكويلة”، جرى تحويل المدرسة اليهودية إلى تراب عمالة الحي الحسني عين الشق، وشيدت على مساحة تقدر بألف متر مربع. وحجت إلى دوار السكويلة، في البداية، عشرات العائلات المغربية التي أنهكتها سنوات الجفاف، حيث عاشت إلى جانب الأسر المغربية التي سبقتها إلى الدوار، الذي كان منطقة فلاحية بامتياز، أسر إسبانية اشتغلت بتربية الخنازير.
كانت السكويلة تابعة ترابيا إلى جماعة تيط مليل، ثم في ما بعد انتقلت مع التقطيع الجديد إلى تراب جماعة أهل الغلام في سيدي مومن، بعمالة مقاطعات سيدي البرنوصي، وإلى حدود سنة 1961 كان عدد سكانها يقارب مائة وتسعين أسرة على أبعد تقدير، ليصبح في ما بعد، بداية الثمانينات، حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة أسرة، بسبب الجفاف الذي ضرب القرى الفلاحية في سبعينيات القرن الماضي، ما شجع على توافد عدد كبير من النازحين من البوادي من مختلف مناطق المغرب، خصوصا الشاوية والرحامنة ودكالة وعبدة والشياظمة.
لم تكن الهجرة القروية السبب الوحيد في رفع سقف الكثافة السكانية بالمنطقة، بل حج إليه أيضا عدد لا يستهان به من المواطنين الوافدين على المنطقة من سيدي عثمان وبنمسيك ومبروكة والحي المحمدي والبرنوصي، بالإضافة إلى أبناء وحفدة السكان الأوائل لدوار السكويلة، الذين شيدوا أكواخا بجوار منازل أسرهم، معتمدين في ذلك على القصدير وعلب “نيدو”، مع استخدام القصب، الذي كان ينسج على شكل حصير، ويوضع في محيط البيوت القصديرية، ليجري بعد هذه المرحلة، استعمال الإسمنت والأجور في تشييد المنازل.
مع بداية القرن الواحد والعشرين تضاعف عدد سكان دوار السكويلة إلى ضعفي العدد المعلن عنه في بداية الثمانينات (ثمانية آلاف أسرة)، حسب ما أعلن عنه خلال عملية ترحيل السكان إلى مشروع السلام أهل الغلام، إذ قارب عدد الأسر سبعة آلاف أسرة.
في سياق التعبير عن رغبتهم في سكن يراعي احتياجاتهم، نظم سكان دوار السكويلة وقفات احتجاجية، للتأكيد على أحقيتهم في تمكينهم من سكن يتوافق وعدد أفراد كل أسرة، في إشارة إلى أن حاجتهم للانتقال من “براريك” لا تسمح لهم بالاستقرار النفسي، تكبر يوما بعد يوم، في توضيح منهم أنهم غير مستعدين لتحمل بعض المماطلات، التي تعيق استفادتهم من مشروع أهل الغلام، حيث من المفترض أن تستفيد أسرتان من بقعة أرضية تقدر مساحتها الإجمالية بـ 84 مترا مربعا، وفي خضم عملية الترحيل، يقال إنه جرى ترحيل حوالي سبعين في المائة من سكان الدوار، في ظل غياب إحصائيات ومعطيات رسمية.
“كريكوار””..حي المعمرة الفرنسية المحبوبة
“كريكوار” أو “كريكوان”، حي في المقاطعة الخامسة بعمالة الفداء مرس السلطان بالدار البيضاء، لا تعرف فيه الحركة التجارية طعم التوقف، ولا يعود الهدوء إلى أزقته إلا في الساعات الأولى من صباح كل يوم. كان درب “كريكوار” في أربعينيات القرن الماضي منطقة فلاحية بامتياز، تنتشر فيها حواضر تربية الغنم والماعز والأبقار، استغل المعمرون الفرنسيون، خلال سنوات الاستعمار، خصوبة الأراضي في المنطقة لتطوير الإنتاج الفلاحي، باستعمال وسائل حديثة.
كانت “مدام كريكوار” (التي أطلق في ما بعد اسمها على الحي)، من بين أشهر المعمرين الفرنسيين، الذين عاشوا في المنطقة، إذ عرفت بحبها للمنطقة وعشقها الاختلاط بالأسر المغربية، حسب سكان الحي القدماء. وقَدمت السيدة “كريكوار” إلى المنطقة في أواسط سنوات الثلاثينات، وشيدت منزلها هناك، واشتغلت بالفلاحة، كانت صديقتنا تحب فعل الخير، ومحبوبة بين أبناء المنطقة.
في سنة 1947 أخذت “مدام كريكوار” على عاتقها بناء مدرسة ابتدائية في المنطقة، أطلق عليها اسم “لكريت”، كان لهذه الأخيرة الفضل الكبير في إنقاذ أبناء الفداء درب السلطان والعاصمة الاقتصادية ككل من الأمية.
كان كل الطاقم التربوي في مدرسة “لكريت” من الفرنسيين، ولعبت دورا في نشر لغة موليير بين أبناء الدار البيضاء، بالموازاة مع المدرسة تكلفت “مدام كريكوار” ببناء حي سكني لفائدة أسر قدماء المحاربين، الذين حاربوا من أجل “فرنسا حرة مستقلة”، خلال الحرب العالمية الثانية، إذ استفاد كل محارب من شقة سكنية حددت مساحتها في 50 مترا مربعا.
كان حي “مدام كريكوار” الذي منح لقدماء المحاربين وأسرهم، النواة الأولى لدرب “كريكوار” أو “كريكوان”، في المقاطعة الخامسة بعمالة الفداء درب السلطان، بعد هذه الفترة، عرف الحي نزوحا كبيرا للأسر المغربية، قادمة إليه من معظم أنحاء المملكة، وتجاوز عدد الأسر التي تقطنه 130.
اشتهر درب “كريكوار”، بعد سنوات الثمانينات، بحركة تجارية كبيرة، إذ استطاع الحي في ظرف زمني لم يتعد خمس سنوات، فرض نفسه في خارطة المراكز التجارية الأكثر استقطابا للتجار والحرفيين و”الفراشة”، وتجاوز ثمن المحل التجاري في الحي خمسمائة مليون سنتيم.
من جهة أخرى، يوجد في درب “كريكوار” عدد لا يستهان به من المنازل الآيلة للسقوط، إذ كشفت وثيقة أعدتها حديثا وزارة الإسكان بجهة الدارالبيضاء أن عمالة مقاطعات الفداء درب السلطان، تتصدر العمالات التي تتوفر على أكبر عدد من الدور الآيلة للسقوط بـ ألف و874 منزلا، أي بنسبة 65 في المائة، تليها عمالة مقاطعات أنفا بـ 905 مسكن، أي بنسبة 32 في المائة، تتبعهما عمالة مقاطعات عين السبع الحي المحمدي بـ91 مسكنا.
درب الفقرا… في قبضة “الفرّاشة”
تزحف السنوات بدرب “الفقرا” بعمالة الفداء مرس السلطان بالدارالبيضاء، نحو الستين عاما، إذ يعد من بين أعرق الأحياء السكنية المنظمة في العاصمة الاقتصادية.
“ليس كل سكان درب الفقرا… فقراء بالضرورة”، هكذا أجاب عادل (25 سنة)، أحد سكان درب “الفقرا” (كما هو متداول بين أبناء درب السلطان)، بعد استفسارنا له عن أصل تسمية الدرب بهذا الاسم.
أمضى عادل سنوات عمره في درب الفقرا، ولم يتوصل لحد الآن إلى جواب لسؤال لماذا سمي الدرب بـ”الفقرا”؟ لكنه متيقن من شيء واحد، هو أن هذا الاسم لا علاقة له بالوضع المادي لسكان الحي، لأنه متيقن أن هناك أسرا ميسورة ومتوسطة الدخل تقطن في “درب الفقرا”.
فئة قليلة تمتلك حقيقة تسمية الدرب، من بين هؤلاء العربي الهاشمي، شيخ تجاوز سنه السبعين عاما، أعاد العربي الذي أمضى في المكان أزيد من 40 سنة، أصل تسمية الدرب بالفقرا إلى أن صاحب الأرض التي شيد عليه الحي، كان اسمه عمر الفقرا.
قبل سنة 1955، كان درب الفقرا عبارة عن فدادين فلاحية، وكان جزء كبير من هذه المنطقة في ملكية عمر الفقرا، وكان معروفا بإنتاج شتى أنواع الخضار والحبوب، قبل أن تجهز سنوات الجفاف المتوالية على الطابع البدوي للدرب.
عرف درب الفقرا (الذي يحده اليوم شارع الفداء من الجهة الشمالية، وشارع 2 مارس من الجهة الغربية)، في ستينيات القرن الماضي حركة نزوح إليه غير عادية، حيث شيد عمر فقرا، مالك الأرض، وأحد كبار المتاجرين في الأثواب، تجزئة سكنية اعتبرت من بين أول الأقطاب السكنية، التي عرفتها العاصمة الاقتصادية.
بعد تجهيز الأرض، بدأت عملية بيع البقع الأرضية في درب الفقرا، وتراوح ثمن البقعة الأرضية بين خمسة آلاف وعشرة آلاف درهم للبقعة. وجمع درب الفقرا أزيد من أربعمائة أسرة متوسطة الدخل أو ميسورة، واعتبر وجهة مفضلة للأسر التي تريد الاستقرار في الدارالبيضاء.
حملت سنوات التسعينات متغيرات كبيرة للحي، إذ انتقل من مجرد حي سكني إلى مركز للتجارة غير المنظمة، وأفقده الباعة المتجولون طابعه الهادئ، وباتت صور الفوضى والجريمة لصيقة بالدرب، في زمن قياسي، بسبب دخول “البراني” إليه، حسب السكان الأصليين.
ينشط التجار غير المنظمين بكثافة في درب الفقرا، حيث حصر إحصاء أخير عددهم في حوالي 13 ألف تاجر، بعمالة درب السلطان وحدها، من أصل حوالي 29 ألفا في الدار البيضاء الكبرى، إذ وجدوا الفرص سانحة ومشجعة على البيع على الأرصفة وفي الأزقة المتفرعة عن هذا الدرب.
اعداد : ابو بسمة