حسن عين الحياة
في مشهد مهيب، يخيم على أجوائه الحزن والأسى، وأمام عدسات تصوير بعض المنابر الإعلامية، وقف عدد من الفنانات والفنانين بالزقاق الداخلي المقابل لباب مقبرة الشهداء في الدارالبيضاء، وهم يشيعون، ظهر الأحد الماضي،جثمان الفنان الكبير مصطفى الداسوكين.. المبدع المغربي الذي خطفته المنية في غفلة من عائلته الصغيرة، والأخرى الفنية الكبيرة، ليلة السبت 6 يوليوز 2024بالدارالبيضاء. أما بعض الفنانات والفنانين من أصدقاء الراحل، فقد حجوا صباح الأحد إلى إقامة “الموحدين” بالحي المحمدي، حيث كان يقيم الداسوكين، لتقديم واجب العزاء.
لقد كان مشهدا مؤلما.. ذلك أن هذا الحشد من الفنانين الذين تقاسموا بالأمس مع الراحل الداسوكين العشق للمسرح، وتنفسوا معا هواء الخشبات، ها هم يودعونه اليوم بمقبرة الشهداء، وداعا أخيرا مفعما بالأسى، وفي حلقهم غصة فقدان فنان عظيم لن يتكرر مرتين،نحت اسمه في خانة الفنانين الكبار، بعد مسيرة حافلة تناهز نصف قرن من العطاء.
في ركن قصي، وقفت الفنانة القديرة أمينة بركات وهي تراقب المشهد من بعيد.. بدت حزينة ومنهكة أكثر من أي وقت مضى، فخبر وفاة الداسوكين، فاجأها، مثل كثيرين من رفاق ردبه، لذلك، أصرت أن تحضر بنفسها إلى المقبرة، وأن تلقي عليه تحية أخيرة، وهو في طريقه إلى متواه الأخير.
وفي حديثها لـ”المنعطف 24″، قالت بركات في بوحها المشحون بالعاطفة “إنني جد متأثرة برحيل السي مصطفى.. الهرم الكبير.. الفنان المقتدر.. الفنان الخلوق الذي تشاهده مع العائلة وتكن لهالاحترام.. كان فنانا محترما.. فنانا عفويا ينتزع منك الضحك دون استئذان ويزرع الابتسامة في كامل جوارحك.. إننا اليوم نفتقد هرما فنيا غادرنا بغثة، ورحيله المفاجئ فاجعة”.
وقالت بركات إن لها ماضي كبير من العمل المشترك مع الفنان الراحل “اشتغلت معه وأنا صغيرة السن في التلفزيون، كما اشتغلت معه في مسرحية “كاري حنكو”، والتي كان فيها السي الداسوكين بطلا بكل المقاييس.. كان الجمهور، بفضله، لا يتوقف طيلة أنفاس المسرحية عن الضحك.. وكانوراء نجاح ذلك العرض إلى جانب الفنانين الراحلين عبد اللطيف هلال ونورالدين بكر والمجموعة.. واليوم، أعزي المغاربة، وأسرته الصغيرة وعائلته الفنية الكبير في فقدان فنان مقتدر اسمهالداسوكين”.
في ركن آخر.. بدا الفنان مصطفى هنيني مشدوها، بالكاد يستوعب رحيل فنان رافقه في عديد الأعمال.. ذلك أن الداسوكين بالنسبة له كان بمثابة الأب. يقول هنيني “اليوم فقدت أبا.. ذلك أنني في بداياتي الأولى، حينما التحقت بفرقة الشعب، اشتغلت مع السي الداسوكين، وقدمت معه حوالي 17 عملا مسرحيا.. وكنا وقتها نقوم بجولة فنية في أغلب مناطق المغرب، ونلعب أزيد من 80 عرضا للمسرحية الواحدة.. وبالتالي أتذكر في بداياتي، وأنا ألج عالما جديدا دعم السي الداسكوين لي.. فهو إلى جانب الفنان ميلود الحبشي، يمنحك شحنة كبيرة، ولهذا، فالفضل في ما وصلت إليه كفنان كوميدي يعود للسي الداسوكين وللحبشي”.
وبنبرة حبلى بالتأثر، يقول هنيني في حديثه لـ”المنعطف24″، كان الداسوكين رجلا كريما، لا تفارق الابتسامة محياه.. كان رجل نكتة، وهذا ما كان يجعل العمل معه سلسلا.. “واليوم، نفقد فنانا لن يتكرر مرتين.. والمجال الفني المغربي اليوم فقد هرما كبيرا في مجال الكوميديا”.
أما الفنان محمد حراكة، والذي رافق الداسوكين في عديد المسرحيات، فقد أكد على صفة “الفنان المحترم” في حق الفقيد.. “لم يكن الداسوكين يحمل في قلبه كرها لأحد.. كان يحب الفنانين جميعا.. ويشجع الفنان”.
ويتذكر حراكة كيف كان يقدم الداسوكين النصائح للفنانين.. “ذات مرة قال لي عبارة لن أنساها أبدا: (حراكة إلى كنتي مهووس بالفن.. دير فن نقي، دير فن محترم.. يحبوك الناس وغتكون عندك عزة النفس)”. وأضاف “الفنان الداسوكين ناضل كثيرا في الميدان الفني.. اشتغل في صمت ورحل في صمت”.
من جهته، قال الممثل والمخرج المسرحي عبد الجبار خمران، إنمصطفى الداسوكين سيبقى فنانا مسرحيا عالقا في الذاكرة وفي وجدان المغاربة كرائد من رواد الكوميديا.. “شخصية مرحة في الحياة كما يحكي عنه أصدقاؤه والمقربون منه، وشخصياته في المسرح تصدر عن مرحه الفني، والذي يوظفه بمهارة وبتقنية أداء محترف وبتلقائية فنان موهوب، متفرد في لعب المواقف الكوميدية المبنية بذكاء ذهني وسخاء عاطفي.. مما يمتعه كممثل فوق الخشبة قبل أن يمتع المتلقي”.. وأضاف خمران “أعتقد أنه بالإضافة إلى ممثلين كوميديين موهوبين كالراحل محمد بلقاس مثلا، يشكلون مدرسة أداء كوميدي واضح الخصوصية.. حاول أن يقلدهما العديدون، منهم من نجح ومنهم من ينتظر أن ينجح ومازال…
لروحه الرحمة والسكينة ولأهله وذويه ومحبيه وافر العزاء”.
قبل وفاته بأسبوعين، كان اسم الداسوكين قد تردد بقوة في الدورة 13 لمهرجان بن امسيك للمسرح الاحترافي بالدارالبيضاء، ذلك أنه صورته زينت جدران البهو الخارجي للمسرح، رفقة المكرمين الـ13، عبد الكريم برشيد والراحل مصطفى سلمات ومحمد الخلفي والراحلة ثريا جبران والراحل عبد العظيم الشناوي ونعيمة لمشرقي والراحل سعيد الطنور ومحمد بهجاجي وعبد القادر مطاع ومحمد قاوتي ونعيمة إلياس وعبد الواحد عوزري.. كما احتلت صوره مساحةمهمة في مجلة المهرجان، كعريس للنسخة السابعة، والتي نظمت في فاتح يوليوز 2016.وبالتالي، ظل الفنان الراحل مصطفى الداسوكين، منذ الدورة السابعة يحظى بالتكريم، باعتباره رائدا في مجالي المسرح والتلفزيون.
اليوم، يفقد المغرب فنانا عظيما، وأحد أعمدة الكوميديا، والمؤسس لظاهرة “الثنائي الفكاهي” في مغرب الستينيات.. والذي تمكن من خلاله، رفقة الفنان المقتدر مصطفى الزعري، أن يملك قلوب المغاربة بالنظر إلى قدرتهما الهائلة على صناعة الضحك.. فهو المبتسم دائما، حتى في أشد الأزمات، والرجل الذي يجمع كل الذين استغلوا معه، على أنه يحترم نفسه وفنه والمشتغلين معه، لذلك، كان شديد الحساسية في اختياراته للأعمال الفنية المُقدمة له، والتي رفض عديدها لعدم ملاءمتها مع مبادئه أو للتيمة التي يفضلها.. ولعل ذلك، هو ما جعله يعيش لسنوات محنة ” الغياب والتغييب” وهو في أوج عطائه.. وعكس كثيرين، لم يشتك، ولا احتج.. ظل صامتا، قبل أن يرحل في صمت أيضا إلى متواه الأخير، مخلفا وراءه أعمالا ستظل موشومة في الخزانة الفنية للمملكة.
عموما، يمكن القول، إن الفنان الكبير مصطفى الداسوكين، بالرغم من غيابه الطويل عن الساحة الفنية، ظل، وسيظل، نجما مميزا عند المغاربة.. فهو أحد الفنانين الذين دشنوا مسارهم الإبداعي من خلال المسرح، وواحد ممن كان حضورهم قوي جدا في التلفزيون، بل وسجل اسمه كرائد لفن “الثنائي الفكاهي” في المغرب.
ولد الداسوكين عام 1942 بمدينة الدارالبيضاء، وترعرع في درب السلطان إلى جانب عدد من الفنانين والرياضيين ممن كان لهم شرف السِبق في التأسيس للتجربة الفنية والرياضية في المغرب. وكان دخوله عالم الفن لأول مرة من خلال بوابة فرقة “الأخوة العربية” لمؤسسها الفنان الراحل عبد العظيم الشناوي، والذي يرجع له الفضل في صقل موهبة الداسوكين.
كانت الانطلاقة الفعلية للشاب مصطفى في عام 1963، وكان وقتها موظفا في البريد، إذ خلال تواجده في أنشطة المخيمات الصيفية بمدينة إفران ونواحيها، التقى مع ابن حيه الفنان مصطفى الزعري، وكان وقتها مدربا تابعا لوزارة الشبيبة والرياضة.. ولأنهما نهلا من نفس التكوين المسرحي بفرقة “الأخوة العربية”، كوَّنا معا ثنائيا فكاهيا، وأطلاقا عليه اسم “الداسوكينوالزعري”، والذي تمكنا من خلاله أن يبصما بقوة على حضورهما كفكاهيين من الجيل الثاني، خاصة وأنهما دخلا بسلاسة إلى قلوب المغاربة من خلال المواضيع التي كان يتناولها الثنائي، والتي كانت منبثقة من صميم المعيش اليومي للمواطنين. ولأنهما فرضا أسلوبهما في الكوميديا، لعبا معا في مسرحية “النواقسية” للفنان الراحل عبد القادر البدوي، وكانت هذه المسرحية هي الانطلاقة الفعلية للداسوكين ورفيقه، خاصة وأنها قُدمت مباشرة على شاشة التلفزة عام 1967، حيث تعرف المغاربة على فنانين من طراز رفيع، لهما قدرة كبيرة على انتزاع الضحك من المشاهدين.
في العام نفسه (1967)، قدم الداسوكين كشكول فكاهي مع الراحل الحبيب القدميري للتلفزيون بعنوان “رينكوودجينكو”، وكان حديث الساعة آنذاك، بالنظر إلى حبكته وتيمته الكوميدية المميزة، إلى درجة أن الملك الراحل الحسن الثاني، شاهد هذا الكاشكول مباشرة على شاشة التلفزة، وهاتف الداسوكينوالقدميري، وقال لهما “الله يرضي عليكم.. فوجتو على المغاربة”.
في رصيد الفنان مصطفى الداسوكين عشرات الأعمال التلفزيونية والمسرحية، والتي تعد الآن تحفا فنية، باعتبارها تؤرخ لمسار تطور الحركة الفنية والمسرحية في المغرب، ومن ضمنها مسلسلات “خمسة وخميس” و”ستة من ستين”، و”دموع الرجال”، و”شوك السدرة”، علاوة على عدد من السيتكومات، من بينها “نسيب الحاج عزوز”، و”عائلة سي مربوح” و”الهاربان”. كما قدم للمسرح عديد الأعمال الناجحة، ولعل أبرزها “النواقسية” و”المدير الجديد” و”شارب عقلو” و”شمكارة ولكن” و”كاري حنكو” و”الجلالي طرافولطا” و”نص عقل” و”الله يدينا فالضو”، و”قولو العام زين” و”بنت الخراز” وغيرها كثير.
رحم الله السي الداسوكين وأدخله فسيح الجنان.