a24- حسن عين الحياة
حين يطفو اسم الفنانة الراحلة أمينة رشيد إلى سطح التداول، يتشكل في الذهن، تلقائيا، بروفايل خاص عن امرأة استثنائية، وفنانة بمواصفات خاصة.. وحين تركز أكثر في التفاصيل، تنهضأمينة، من رفوف الذاكرة، صوتا وصورة، بكل خواصها التي ميزتها عن كثيرات من بنات جنسها في قبيلة الممثلين.. فنانة من جيل الرواد،مميزة بلكنتها الرباطية المشبعة بالجِرس الفاسي..قوية وصلبة حد “السلطوية” حين تشخص أدوارها في الأعمال التلفزيونية والسينمائية، ورقيقة حد الوداعة، حين تنزع عنها قناع التمثيل.. لكن بين هذا التضاد، القوة والرقة، تبرز شخصية أمينة، كفنانة مخضرمة، وقبلها كإنسانة حافظت على تلك المسافة الرفيعة بين المهنة وحياتها الخاصة.
ولأنها من جيل الرواد، فقد تعرف عليها المغاربة صوتا من خلال الإذاعة، قبل أن يشاهدوها وهي في كامل أبهائها صورة على الشاشة.. وبالتالي، تصنفها بعض المراجع، بأنها الممثلة الأكثر عطاءً في تاريخ الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما في المغرب،مما جعلهاواحدة من المبدعاتالقلائلاللواتيساهمن في صناعة ذاكرة فنية، مرئية ومسموعة للمملكة،بعد مسار فني ناهز ستة عقود.. إذ استمتع المغاربة، منذ خمسينيات القرن الماضي، بمئات الأعمال التي شاركت فيها، من مسرحيات وتمثيليات ومسلسلات وأفلام، وهذا ما جعلها منذ بروزها الأول، وإلى غاية وفاتها في غشت 2019، عن عمر يناهز 83 سنة، تتصدر المشهد الفني في المغرب.
عندما أرسلت أمينة رشيد صوتها إذاعيا إلى عموم المستمعين، أبدعت. وحينما ظهرت بظهور التلفزيون، أمتعت وأقنعت.. يلقبها كثيرون بسيدة الشاشة المغربية، وآخرون لا يتوانون في وصفها برائدة المسرح المغربي، خاصة وهي التي واكبت تطوره منذ البدايات، أيام كان قناة للنضال ضد الاستعمار الفرنسي.
ولدت الفنانة المقتدرة أمينة رشيد، واسمها الحقيقي جميلة بن عمر، في 11 أبريل 1936 بمدينة الرباط، وتحديدا بحي مولاي عبد الله الراقي، حيث يقطن علية القوم من كبار مسؤولي الدولة ورجال الأعمال.. وهي خامس إخوتها، إذ تحتل الترتيب الثالث بين 3 أخوات وأخوين. وهي ابنة رجل أعمال كان يشتغل في تجارة الأثاث، بينما والدتها فتنتمي لعائلة ميسورة الحال، إذ كان جدها قاضي قضاة وعالما ومدرسا تنقل بين مجالس العلم في آسفي والعرائش والرباط. وبالتالي، يقول المهتمون بسيرتها الفنية، إن أمينة رشيد تربت في بيئة محافظة، تحرص على احترام التقاليد المغربية السائدة آنذاك، وتشدد على صلة الرحم، وتمنع تكوين صداقات خارج إطار العائلة.. فأمينة، يضيف هؤلاء، لم يكن مسموحا لها الخروج بمفردها إلا بوجود مصاحب لها من الأسرة، تماشيا مع ثقافة الأسر المحافظة السائدة في تلك الحقبة. وقد برز ذلك أكثر، عند محاولة دخول الطفلة أمينة للإذاعة الوطنية أول مرةعام 1953، في إطار زيارة خاصة معية تلميذات مدارس محمد الخامس برفقة أستاذتها الفنانة القديرة حبيبة المذكوري،وكانت أمينة التي ولجت معية زميلاتها مقر الإذاعة بالنقاب، تبلغ من العمر وقتها 14 سنة ففقط.
لم تكن الطفلة أمينة، تدري أن هذه الزيارة المدرسية للإذاعة الوطنية، وتحديدا لفرقة المسرح التي يرأسها الأستاذ عبد الله شقرون، ستغير مسارها إلى الأبد، أو ستكون منطلقا لشعلة فنية، ستضيء سماء الفن المغربي على امتداد أزيد من ستة عقود.. ففي تلك الزيارة، كان عبد الله شقرون، الذي ستقترن به فيما بعدوترافقه في دروب الحياة، يشتغل على مسرحية بعنوان “نخليوهم في قهوتهم”، فمنحها دورا مسرحيا لإلقائه، وكانت أمينة وفق تعبيرها في أحد حواراتها، تعاني من نطق حرف “القاف” بنطقه ألفا، فصحح لها شقرون النطق، فقد”كان يدرسنا قواعد النطق والنحو من خلال سبورة معلقة على الحائط” تقول أمينة، وتضيف أنها كانت خائفة، ففكرت كثيرا في الكيفية التي يمكن من خلالها إخبار والدها أنها ذاهبة إلى مقر الإذاعة، والسماح لها بممارسة المسرح.. لكن بعد التمهيد، أخبرته بأنها ستلتحق بالإذاعة الوطنية للتدريب على مسرحية، فلم يمتنع، شرط أن يصاحبها أحد أخويها. فكان ذلك مدخلا لوضع أولى خطواتها في عالم التمثيل، حيث دشنت مسارها المسرحي الإذاعي بروائع المسرح العالمي، من أعمال موليير وشيكسبير وراسين وغيرهم كثير.
وتعتبر أمينة رشيد من أوائل الفنانات المغربيات اللواتي اقتحمن عالم السينما مبكرا، حيث شاركت سنة 1955 في فيلم “طبيب بالعافية” عن رواية لموليير، وكان الفيلم من إنتاج فرنسي مغربي ومصري، للمخرج الفرنسي هنري جاك. وشخصت أمينة رشيد آنذاك إلى جانب عمالقة السينما المصرية وقتها، وعلى رأسهم كمال الشناوي، وشارك في الفيلم من المغرب كل من الطيب الصديقي وسعيد عفيفي وحمادي التونسي والعربي الدغمي والبشير لعلج…
وتحتفظ الراحلة أمينة رشيد في خزانتها السينمائية بالعديد من الأفلام التي تركت أثرا كبيرا عند المشاهدين، كفيلم “البحث عن زوج امرأتي” لمحمد عبد الرحمان التازي و”لالة حبي” للمخرج نفسه. وقد كان هذا الفيلم بالنسبة لأمينة رشيدة شعلة فنية أعادت الحياة للسينما المغربية، كما اقترن بها هذا الفليم، بعدما أضاف الجمهور لألقابها لقب “لالة حبي”، بالنظر إلى قوة الأداء الذي تميزت به في دور الزوجة الأولى لرجل متعدد. كما شاركت أمينة رشيد في فيلم “مغاربة القدس” للمخرج عبد الله المصباحي، وفيلم “جوهرة بنت الحبس” لسعد الشرايبي، وفيلم “إبراهيم ياش” لنبيل لحلو، و”زينب.. زهرةأغمات” لفريدة بورقية”، و”فيها الملح والسكر ومابغاتش تموت” لحكيم النوري، و”القلوب المحترقة” لأحمد المعنوني، و”زنقة القاهرة” لعبد الكريم الدرقاوي، إضافة إلى العديد من الأفلام التي تزخر بها الخزانة السينمائية المغربية.
كما قدمت للتلفزيون العديد من المسلسلات، أبرزها سلسلة العوني للفنان سعيد الناصري،التي فجرت فيها موهبتها في الكوميديا، بحيث تمكنت من خلال أسلوبها، المعتمد على كوميديا المواقف،من انتزاع الضحك من المشاهدين فنالت استحسان الجمهور.
لقد كانت الفنانة أمينة رشيد، أشبه بآلة مجبولة على العطاء، لم تتوقف عن الإنتاج إلى غاية وفاتها في 26 غشت 2019، وكانت بحسب النقاد، تنأى عن التنافس مع الفنانات الأخريات. لكن في الوقت نفسه، كانت تنافس نفسها، في محاولة دائمة للبحث عن التجديد في شخصياتها حتى لا تسقط في النمطية القاتلة للإبداع.. وبالتالي، تقول بعض المراجع إن الفنانة أمينة رشيد، خلفت وراءها أزيد من 3000 عمل يتوزع بين الأعمال الإذاعية والمسرحيات والتمثيليات والمسلسلات والأفلام.
ونظير لأعمالها كفنانة مخضرمة، أكرم الملك محمد السادس أمينة رشيد بوسام العرش من درجة فارس عام 2006، كما كان في طليعة المتأثرين بوفاتها في غشت 2019، حيث وصفها في برقية تعزية موجهة إلى أسرتها ولعائلتي شقرون وبن صالح بالفنانة القديرة، ومما جاء في هذه البرقية “وإننا لنستحضر في هذا الظرف الأليم ، الخصال الفاضلة التي كانت تتحلى بها الفقيدة الكبيرة، كإنسانة وكفنانة. وستظل رحمها الله، خالدة في الذاكرة المغربية، باعتبارها من الفنانين الرواد، وعلما من أعلام المسرح والسينما والتلفزيون، لما قدمته طوال مسيرتها الفنية والإبداعية الحافلة بالعطاء، من أعمال خالدة، نالت كل الإعجاب والتقدير، فضلا عما كانت معروفة به من غيرة وطنية صادقة، وولاء وإخلاص للعرش العلوي المجيد”.