a24-حسن عين الحياة
عانق خشبة المسرح منذ ستينيات القرن الماضي، فأبدع وأمتع.. وغنى على الخشبة نفسها، فملك حب الجمهور، ونقش في أسماعه صوته المتفرد، الذي يحيل مباشرة إلى صوت البلد في بعده المتعلق بالانتماء، وإلى الأصالة، حينما تتجلى كلمة ولحنا وإيقاعا وغناء.
إنه صوت الفنان مولاي الطاهر الأصبهاني، عميد مجموعة جيل جيلالة، الذي ترجل عن صهوة الحياة، يوم الأربعاء 3 ماي 2023، مخلفا برحيله حزنا وأسى عميقين في الساحة الفنية المغربية، باعتباره، واحدا من الفنانين الذين تمكنوا من نحث أصواتهم الطروبة في أرشيف الذاكرة الجماعية للمغاربة.
عندما ينطلق صوت مولاي الطاهر، في تلك الأغاني الخالدة لمجموعة جيل جيلالة، تشدك خامته، وتحلق بك طبقاته وهي تنساب بسلاسة من أدنى إلى أعلى في تناغم رهيب، وتشعر بامتلائه.. صوت قوي، وطروب، يسافر بك إلى غياهب فن الملحون، وتتلمس فيه العمق المراكشي، بما يحمله من ثقافات.. حتى أن كبار الموسيقيين، يقولون، إن مولاي الطاهر، تميز بـ”قرار” فريد، يستحيل تقليده، وهو أول درجة في السلم الموسيقي.. طبقة صوت منخفضة وعميقة،بحيث كان يستطيع من خلاله أن يوصل صوته إلى الجمهور، دون أدنى مجهود.
الآن، رحل مولاي الطاهر الأصبهاني إلى الأبد.. رحل في صمت وبأنفة الكبار، مخلفا وراءه أعمالا ستظل خالدة في “الربيرطوار” المسرحي والموسيقي المغربي، باعتباره ممثلا وملحنا، وعضوا مؤسسا لمجموعة جيل جيلالة، التي قدم من خلالها أجمل الأغاني، وفي طليعتها “لكلام لمرصع” و”الشمعة” و”ليغارة” و”لعيون عينيا” التي خلدت لذكرى المسيرة الخضراء.
ولد مولاي الطاهر الأصبهاني عام 1948 بمدينة مراكش، وترعرع في كنف أسرة سيدرك وهو في عمر 14 سنة أنها تبنته..ذلك أن والده الحقيقي مولاي أحمد كان تاجرا في النحاس، ووالدته الحاجة الزوهرة ربة بيت، بينما السي عباس الذي سيتكلف بتربيته هو وزوجته فاطنة بوستة، فهو خال الحاجة الزوهرة. لذلك، عاش مولاي الطاهر خلال فترات من طفولته متنقلا بين أسرتين، وغرف منهما ثقافتين متباينتين.
وفي بوح لمولاي الطاهر، قال إنه عندما رزق مولاي احمد والحاجة الزوهرة بطفل، طلب السي عباس من ابنة اخته أن يتكلف بتربيته، فوافقت، مما عاد بالنفع العميم على الطفل مولاي الطاهر، حيث درس بابتدائية مولاي يوسف، ولم يتوقف إلا عند مستوى الأولى ثانوي، ليشتغل موظفا بوزارة الفلاحة. لكن موازاة مع هذا المسار الدراسي، عرف مولاي الطاهر من خلال الأسرة الثانية معنى الفن.. فالسي عباس، كان فنانا ومثقفا، يعزف على آلة العود، فضلا عن كونه كان متمكنا من اللغات، بحكم وظيفته كمترجم بالمحافظة العقارية. وفي هذا البيت سيتذوق الأصبهاني الموسيقى والملحون والشعر. ولعل ذلك، هو ما مهد له الطريق لدخول عالم الفن وهو مجرد طفل لم يتجاوز بعد 14 سنة.
دشن مولاي الطاهر مساره الفني عام 1962، بدار الشباب، وكانتقبالة منزله في مراكش، مما سهل عليه التردد عليها باستمرار. وكان أول دخول لهذا الفضاء، من بوابة مسرح الطفل، قبل أن يلتحق عام 1965 بفرقة “المسرح الحديث” التي شارك معها في مسرحية “إنسانيات فنان”، وكانتهذه المسرحية بالنسبة له بمثابة مدخل للشهرة في مراكش كممثل. بعدها التحق بفرقة “شبيبة الحمراء”، وشارك معها في مسرحيتين، الأولى بعنوان “قريقة” والثانية “التكعكيعة”، قبل أن ينضم إلى فرقة “كوميديا” فشارك معها في مسرحية “انتكاسة أرقام” للراحل شهرمان، وكانت وقتها (1971) قد فازت بالجائزة الأولى في مهرجان مسرح الهواة، وكان الفنان الراحل الطيب الصديقي وقتها رئيس لجنة تحكيم المسابقة، فأعجب بأداء مولاي الطاهر.
خلال السنة ذاتها، شارك مولاي الطاهر في تدريب بالمعمورة، تحت إشراف الطيب الصديقي والطيب العلج، فزاد إعجاب الصديقي بالأصبهاني.. وهنا سأله عن عمله، فأجاب مولاي الطاهر بأنه موظف في وزارة الفلاحة، فكان رد الصديقي “انت ماشي ديال الفلاحة.. انت ديال المسرح”،فاقترح عليه الاشتغال معه في فرقة المسرح البلدي. لكن مولاي الطاهر اشترط عليه أن يمنحه أجرة تعادل ما يتقاضاه كموظف، وهي 600 درهم في الشهر، فوافق الطيب الصديقي، ليدشن الأصبهاني مسارا آخرا في فرقة المسرح البلدي في الدارالبيضاء.
عمل مولاي الطاهر مع الصديقي كملحن لبعض مسرحياته، كـ”مقامات بديع الزمان الهمداني”، كما لحن أغنية “ها العار بويا” إلى جانب الأغاني التي تضمنتها مسرحية “على عينك أبن عدي” للفنان حميد الزوغي الذي تجمعه علاقة مصاهرة مع الصديقي، قبل أن يشارك في مسرحية “الحراز” أثناء تسجيلها للتلفزيون، ليلتقي وقتها بالراحل بوجميع والراحل العربي باطما وعمر السيد والزوغيوبنياز وآخرين، حيث شخص دور الخادمة، الذي فتح له باب الشهرة في المغرب كفنان متعدد، يجمع بين التمثيل والغناء.
وبحسب المهتمين بمسار مولاي الطاهر، إن وجوده في المسرح البلدي، ساهم في اختمار فكرة تأسيس مجموعة غنائية، على شاكلة “ناس الغيوان” التي انطلقت نواة تأسيسها من الفرقة ذاتها. ويضيف هؤلاء، أن البداية جاءت من خلال اقتراح الزوغي على مولاي الطاهر، تكوين مجموعة غنائية تحمل اسم “جيل جيلالة”، فوافق الأصبهاني، لتبدأ رحلة البحث عن العناصر الأخرى.
كانت البداية من خلال الاتصال بالفنانين محمود السعدي وسكينة، ثم بالفنان محمد الدرهم الذي كان يشتغل مع فرقة مسرحية برئاسة الفنان الراحل محمد سعيد عفيفي في مدينة الجديدة، وبعدها سافر بعض الأعضاء إلى مدينة الصويرة لضم الفنان عبد الرحمان باكو. وبعد تكوين المجموعة، انطلقت “جيل جيلالة” في سماء الفن المغربي بنمط جديد، يجمع بين ما هو صوفي وبين ما هو تراثي، بالاعتماد على القصيدة الزجلية، وفن الملحون. لكن في عام 1973، سيلتحق عبد الرحمان باكو برفاق بوجميع وباطما، فيما سيلتحق الفنان عبد العزيز الطاهري بجيل جيلالة، قادما من مجموعة “ناس الغيوان”، فأحدث ذلك تحولا كبيرا في مسار المجموعة.
لقد أحب مولاي الطاهر مجموعته، فأحبته، ورفعته إلى مقام المبدعين الكبار.. ذلك أنه، غنى معية رفاقه في كبريات المسارح العالمية.. غنى في أغلب الدول العربية، وجاب مسارح أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية… ورغم المرض الذي أنهكه في سنواته الأخيرة، بقي مرتبطا بفرقته.. حتى أنه، وفق تصريح لزوجته، كان آخر ما شاهده وهو على فراش الموت، مقاطع لمجموعتي “جيل جيلالة” و”ناس الغيوان”.
إن رحيل المايسترو مولاي الطاهر الأصبهاني، وفق شهادات أصدقائه، ممن شيعوا جنازته، خسارة فادحةللحركة الفنية بالمغرب، حيث فقدت فنانا متعددا وصوتا يصعب تقليده.
أما الملك محمد السادس، الذي تابع معية الأمير مولاي رشيد، حالة مولاي الطاهر الأصبهاني باهتمام كبير، طيلة الثلاث سنوات الأخيرة، فقد أبدى تأثره العميق، في برقية التعزية والمواساة التي بعثها إلى أسرة الراحل، واصفا مولاي الطاهر بأحد مؤسسي مجموعة جيل جيلالة، وبالفنان المبدع، متعدد المواهب، الذي”ساهم في تألق مجموعته الشعبية، وتفردها بأسلوب غنائي ظل يمتح مواضيعه وإيقاعاته من الموروث الثقافي المغربي الأصيل”.