a24- حسن عين الحياة
عندما تنصت إلى أغاني مجموعة ناس الغيوان، بحمولتها الوجدانية التي ترجمت هموم المغاربة سنوات الستينيات والسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، يشدك صوت أثيري، يبدو كما لو أنه قد نبث للتو من تراب الشاوية.. صوت خام، تكاد تشم في نبراته عبق الأرض بما تحمله من خصوبة وعنفوان، وقد تتلمس فيه أصالة أهل البادية وكبرياء المتمدنين وألم المعذبين في الأرض. إنه تيمة الغيوان وجوهرها وطابعها الذي ميزها عن باقي المجموعات التي كانت وقتها تلهب أذواق الجماهير، والذي كلما انطلق، ارتسمت في الأذهان صورة صاحبه.. العربي باطما، الفنان الذي أعاد تدوير الألم الذي صاحبه منذ الطفولة، فجعل منه وقودا لتحريك دواليب إبداع الذي قاده ومجموعته (ناس الغيوان) إلى العالمية.
الآن ورغم مرور 26 عاما على وفاة العربي باطما، إلا أنه مايزال حيا في وجدان المغاربة. حتى ملامح وجهه لم تتغير قط في ألبوم الذاكرة الجماعية.. رجل ببشرة قمحيةوشعر أسود فاحم كثيفومنفوش، مسدول حد الكتفين، وعينين ناعستين يعلوهما حاجبين عريضين متصلين، وشنب كث وشفة سفلى مائلة إلى اليسار، مع شامتين بارزتين، ارتسمت إحداهما على الخد الأيمن والأخرى أسفلها بقليل.حتى أن كثيرين من عشاق الغيوان، كانوا يرون في هذه الصورة تعبيرا عن البوهيمية التي كان يتغنى بها العربي نفسه. لكنها في الجانب الآخر، كانت عنوانا للفن الفطري، الذي قاد صاحبه إلى عالمي الشهرة والنجومية، انطلاقا من خشبة المسرح، قبل أن يبرز نجمه في الغناء ثم التمثيل والكتابة.
ولد العربي باطما عام 1948 بقرية ولاد بوزيري الضاربة في عمق الشاوية، ونشأ في أسرة فقيرة، يعيلها الأب رحال بن رحال، وترعاها الأم حادة، لكن سيمر وقت قصير لترحل الأسرة إلى مدينة الدارالبيضاء، وتحديدا إلى الحي المحمدي بحثا عن فضاء أرحب ومصادر أيسر للعيش، وعن ذلك قال العربي ذات مرة، مستحضرا اسم والده ووالدته ودلالتهما المرتبطة بالتنقل بين البادية والمدينة: “اسم أبي رحال واسم جدي رحالواسم عمي رحال.. والرحيل رافقني في كل شي. عندما كنت طفلا (كان الوالد مع الوالدة كيتخاصمو كيجيبنا للدارالبيضاء، ومللي كيعاودو يتصالحو كيرجعنا للعروبية..)”.
وقال أيضا “اسم أمي حادة. الرحيل (في إشارة إلى اسم والده رحال)، الحدود، الحدة، أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار”. ويضيف “هكذا كانت طفولتي رحيلا بين الدار البيضاء والقرية.. عشت بين الشك واليقين، وفي كل مرة، كنت أسأل نفسي، وأجد الحكمة تطفو فوق كل التساؤلات.. المهم، ولا شيء مهم إلا أنا”. إن هذا البوح، وإن كان مفعما بالذاتية، يظل بعيدا عن النرجسية. فالعربي باطما، قاوم في مغرب الفقر والأمية خلال سنوات الخمسينيات، كل الظروف من أجل أن يعيش، وأن يحيى بكرامة. لذلك، كوَّن نفسه بنفسه، وكان أستاذ لها في مدرسة الحياة.. ولهذا، يقول الذين رافقوه منذ الطفولة، إن العربي كانرجلا عصاميا، لم تسعفه ظروفه القاسية للتوغل عميقا في الدراسة، حيث غادر الحجرات الدراسية مبكرا، وإن كان البعض يرى أنه كان متمردا وغير منضبط في المدرسة. حتى أن مشاركاته في إضرابات ومظاهرات تلاميذية تسببت في اعتقاله وهو صغير السن. لكن، ككل الذين غادروا المدرسة مبكرا، جرب العربي العديد من الحرف، لعله يستند إلى إحداها في ضمان عيش كريم. وبين فترات البحث هاته، كان العربي الطفل يغترف من التنوع الثقافي الذي كانت تزخر بيه التجمعات السكانية الشعبية في الحي المحمدي، ككريان سنطرال ودرب مولاي الشريف وحي السككيين وحي لافارج والكريان الجديد… وهي فضاءات حافظت على موروثها الثقافي والفني الذي كان يتجلى من خلال الحفلات والأعراس في الأهازيج الأمازيغية والرقصات الصحراوية والغناء البدوي لآهالي الشاوية… غير أن فضاءات “الحلقة” وما كانت تحققه من فرجة، بتعبيراتها المسرحية العفوية،هي ما جذبت العربي وأقرانه من أبناء الحي، وربما هي التي مهدت له الطريق إلى عالم التمثيل ومن ثمة إلى النجومية. وبالتالي، إن أغلب عناصر مجموعة ناس الغيوان، قادهم شغف الفُرجات التي كانت تقدمها “الحلقة” سنوات الخمسينيات والستينياتإلى حب المسرح، قبل التأسيس لمجموعة ناس الغيوان.فالعربي باطماانخرط مبكرا في العمل الجمعوي ولازم دور الشباب، وكان نشيطا في فرقة “الهلال الذهبي”، بينما عمر السيد وبوجميع فكانا ينتميان لفرقة رواد الخشبة.. ولعل هذا الانتماء المبكر لأب الفنون هو ما مكنه من لقاء الفنان الكبير الطيب الصديقي، حيث شارك رفقة عمرالسيدوبوجميع وعدد من الفنانين في مسرحية “الحراز”، والتي كانت الانطلاقة الفعلية لتأسيس النواة الأولى لمجموعة ناس الغيوان.. الظاهرة الغنائية التي حولت خماسي يعيش على هامش المجتمع (بوجميع، باطما، السيد، باكو وعلال) قبل أن ينفصل عنهم مولاي عبد العزيز الطاهري وأحمد السنوسي، إلى نجوم كبار، بعدما تمردوا على نمط الغناء التقليدي، الذي يرتكز على المغني الوحيد، والبروز فوق الخشبات كمجموعة تعزف على الآلات التقليدية وتغني بلسان حال المغاربة وقتذاك. بل إن العربي باطما ورفاقه، سيكسرون هيمنة الأغاني السائدة آنذاك، والتي كانت تدعمها السلطة، وتغذيها بالدعم المالي والإعلامي لتحقق الامتداد الجماهيري، خاصة في ظل رتابة أغاني المعارضة التي تتغنى بهموم الشعب من منطلق إيديولوجي ضيق، حيث اكتشف الجمهور فجأة (عام 1971) موهبة مجموعة ناس الغيوان، التي حررت الموسيقى من التنميط الذي فرضه المستعمر أو فرضته السلطة وقتها، خاصة وأنها انتصرت لألحان وأغاني البسطاء، وأعادت الاعتبار لأهازيجهم وموسيقاهم وأخرجتها من ظلمات التهميش إلى ساحات الأضواء.
بالنسبة للعربي إن ناس الغيوان مجاذيب أو “بوهالة” أو “نظَّامة” يتكلمون عفويا، وهنا يقول “نحن لسنا كالذين يشترون للأغنية الكلمات ويستعينون بالملحن ثم يغنون.. فالكاتب أو الزجال الغيواني، تنبع الأغنية من ذاته مكتوبة مع اللحن، وهي عبارة عن انفعالات روحانية، ويمكن وصفها بالجذبة أو الحال، وهي مبهمة، والأشياء الصوفية والروحانية تنأى عن كل تفسير”.
لقد كان العربي باطما، وهذا ما تقوله مؤلفاته، كاتباوزجالا من طراز رفيع، تنطلق الكلمات منسابة علىلسانه المشبع باللكنة البدوية، وأحينا تنفلت بإيقاعها الموسيقي، لتأخذ طريقها إلى الخشبة. وكان أحيانا يعتكف طويلا في بيته، ينظُم القصيدة، فلا يتوقف إلا حين يكتمل المعنى وتستوفي حقها في الإشباع. لذلك، يقول بعض المهتمين بمساره الفني، إنه كتب أطول نص زجلي في المغرب، مدبج في كتاب بعنوان “الحسام الهمام” من جزأين، ويتكون من 17 ألف و192 بيتا زجليا.وكان يطمع في جزء ثالث، لولى المرض. وله نص جلي آخر صدر في كتاب بعنوان “حوض النعناع”.. وعلى الرغم من ذلك، قال ذات مرة في لقاء تلفزيوني بالقناة الثانية، بمناسبة عودة مجموعة لمشاهب للساحة الغنائية “أشهد أن أخي محمد أزجل مني”.
وبعيدا عن الزجل، تميز العربي باطما في الكتابة المسرحية أيضا، حيث ألف مسرحيات “لهبال في الكوشينة” و”هاجوج وماجوج”، و”لعقل والسبورة” التي كانت منطلقا فعليا لفرقة مسرح الحي نحو الشهرة، فضلا عن بروزه كسيناريست محنك، من خلال تأليفه للمسلسل التلفزيوني “جنب البير” والذي برز فيه أيضا كممثل كبير، هذا إلى جانب تأليفه بعض القصص وروايتين “خناتة” و”رحلة إلى الشرق”. لكن تظل سيرته الذاتية السمة البارزة في كتاباته، وهي من جزأين، الأولى بعنوان “الرحيل” والثانية “الألم”، وقد كتبها وهو على فراش المرض، حيث تشير بعض المعطيات إلى أنه ألفها خلال أسبوع فقط، قبل أن تخطفه المنية في فبراير 1997.
وعن رحيله، قال الفنان الكبير محمد الدرهم، وهو أحد مؤسسي مجموعة جيل جيلالة، في حوار تلفزي “رحل العربي باطما وهو يختزن الكثير من المعاناة، وكان أمله كبيرا في أن يفجرها إلى إبداعات، وانعكاس هذه المعاناة التي رافقته طيلة حياته، ظهرت جليا في أعمال ناس الغيوان، وفي النصوص التي غنتها له مجموعته”، وأضاف “إنك حين تسمع صوت العربي تشم فيه رائحة الأرض والتربة، لأنه يحمل صدقا في التعبير”.
أما شقيقته أمينة، فكانت ترى في العربي أبا قبل الأخ، معترفة بأنه شمل بعطفه إخوته السبعة، قبل أن تؤكد على أن “الملك الراحل الحسن الثاني، كان يتابع حالة العربي باهتمام بالغ، وسانده منذ أيامه الأولى مع المرض”. خاصة وأن الملك الراحل، كان بدوره ينصت إلى أغاني ناس الغيوان، وكان يستدعي المجموعة بين فينة وأخرى لتنشيط السهرات الفنية التي كان يحييها في قصره إلى جانب عدد من المطربين والمجموعات الغنائية الأخرى.