a24-حسن عين الحياة
من غير الممكن، أن يتحدث المهتمون بفنون الخشبة عن تاريخ المسرح المغربي، والمسرح العربي عموما، دون التوقف عند قامة إبداعية من حجم الفنان الراحل الطيب الصديقي.. ومَرَّد ذلك إلى أن الرجل أكبر من مجرد اسم عابر في هذا الفن الجامع لكل الفنون، وأكثر من ممارس له، سواء كمؤلف أو مقتبس أو ممثل أو مخرج، وأعظم من رائد له تجربة مسرحية، عض عليها كما الرواد الذين عاصروه بالنواجد.. إنه مدرسة قائمة الذات، لها “مذهب” وأتباع ومريدين، وفوق كل ذلك، يعتبره أهل الاختصاص الحجز الأساس في المسرح المغربي الحديث.
ازداد الطيب الصديقي في 27 دجنبر 1938 بمدينة الصويرة، ونشأ في وسط عائلي محافظ، يتكون من الأب محمد بن سعيد الصديقي، والأم محجوبة وخمسة أبناء. وكان والده بحسب الدارسين لتاريخ الصويرة واحدا من كبار العلماء في المغرب، المشهود لهم بالخطابة والإلمام الواسع بأصول الفقه وعلوم النحو.. وعُرف بحسب هؤلاء، بأنه كان يتميز بطريقة فريدة في التدريس وإلقاء الخطب في المساجد، تجمع بين حس الدعابة والنكتة الهادفة، مما جعله مُحبَّبا عند طلبته.
أتذكر أنه في حوار صحفي لي مع الراحل الطيب الصديقي بمنزله في شارع فاس بالدارالبيضاء، وكان ذلك في شهر رمضان الكريم (2009)، قال إن تربية والده له مع إخوته كان لها الأثر البالغ في مساره الفني.. لم يكن متشددا ولا متصلبا لآرائه، ولم يكن يلجأ إلى العصا لزجر الأبناء.. كان منفتحا معهم ويعاملهم كما الأصدقاء، مع ترك الحرية لهم في اختيار مسارهم في الحياة.. لكن أكثر ما لفت انتباهي وقتها، أن الطيب الصديقي البالغ من العمر وقت ذاك 71 عاما، كان يتحدث عن والده كما لو أنه طفل، ويفتخر بكونه كان علاَّمة ومؤرخا، معتبرا إياه واحدا من أعلام مدينة الصويرة.. وقبل أن أغادر منزله، أهداني كتابا وقال “إلى قريتي هاذ لكتاب، للي واقيلا بقى عندي غير هو، غتعرف الوالد الله يرحمو مزيان”.. وكان الكتاب لوالده محمد بن سعيد الصديقي بعنوان “إيقاظ السريرة لتاريخ الصويرة”.
عاش الطيب الصديقي فترة قصيرة في طفولته بمدينة الصويرة.. ذلك أن مشاكل واجهت والده مع المقيم العام آنذاك، دفعته إلى مغادرة هذه المدينة العثيقة والتوجه صوب مدينة الدارالبيضاء. وهناك أكمل الطيب تعليمه في إحدى الثانويات التي تحمل اسم “مدرسة أبناء الأعيان”. وبحسب المهتمين بسيرته، لفت الطيب أنظار أساتذته إليه، فقد كان نجيبا ومتفوقا، بفضل اتقانه للغة الفرنسية وإلمامه بالأدب الفرنسي والمسرح.
وتعود علاقة الطيب الصديقي بالمسرح إلى مرحلة الطفولة.. فذات مرة رافق والده إلى مدينة مراكش، وبعد أن قضى الوالد مآربه، توجه معية ابنه إلى ساحة جامع لفنا.. هناك فُتن الطيب الصديقي، بحسب تعبيره، بفن الحلقة.. “اكتشفت المسرح في مراكش، وتحديدا بساحة جامع لفنا.. كان شيئا غريبا.. رجل (الحلايقي) يحكي ويحمل عكازا يوظفها بشكل غريب.. فهل هناك مسرح أحسن من هذا.. لا يوجد مسرح أحسن من مسرح جامع لفنا”، يقول الطيب الصديقي، عن انبهاره بفن الحلقة.
حصل الطيب الصديقي على شهادة البكالوريا في عام 1954.. وهي شهادة لها وزنها آنذاك، مما دفعه للبحث عن عمل.. كان حلمه أن يكون مهندسا، لكن الصدفة قادته، وهو يبحث عن مباراة في الجرائد، إلى قصاصة تتحدث عن تدريب مسرحي، وضمن التدريب هناك “الهندسة المسرحية”، فقال ” أنا باغي ندير الهندسة.. إذن نبدا بالهندسة المسرحية بعدا”، فالتحق وقتها بالتدريب مع في فرقة المعمورة في السنة نفسها، لكنه لم يحصل على أول دور مسرحي إلا بعد مرور عامين، أي في سنة 1956، تاريخ حصول المغرب على استقلاله من القبضة الاستعمارية الفرنسية، وكانت المسرحية تحمل عنوان “عْمايل جحا”. وبحسب الطيب الصديقي، إن هذا الدور لعبه عن طريق الصدفة، ذلك أن الممثل الذي كان يشخص دور “جحا” تزامن مرضه مع توقيت العرض، فتم اختياره ليشخص الدور بدله، حيث تم عرض المسرحية في إطار “مهرجان مسرح الأمم” بالعاصمة الفرنسية باريس، وحققت نجاحا باهرا، الأمر الذي فتح للصديقي الباب للتوغل أكثر في عوالم المسرح، بحيث سافر في عام 1957 إلى فرنسا لإتمام دراسته في “المركز الغربي الدرامي”، وركز كثيرا على الديكور والإنارة والملابس.. ثم مر من تجربة في المسرح الوطني الشعبي بباريس بإدارة “جون فيلار”، الذي يرى كثيرون أنه ترك بصمة في التوجه المسرحي الجديد للطيب الصديقي، خاصة في طريقة النهل من التراث (الحلقة ولبساط والملحون..). وكيفية تذويب هذا التراث في المسرحيات المقتبسة.
بعد عودته من فرنسا، أسس الطيب الصديقي “المسرح العمالي” وقدم من خلاله عدة أعمال مسرحية، بتشجيع من عديد السياسيين البارزين في المغرب، كمسرحية “الوارث” المقتبسة من الأدب الفرنسي، ومسرحية “المفتش” وهي بدورها مقتبسة عن الكاتب الروسي نيكولاي غوغول..
بعد سنتين من التجربة في المسرح العمالي، أسس الطيب الصديقي فرقة المسرح البلدي في بداية ستينيات القرن الماضي، وكان المسرح البلدي، مقرا لها، بحيث كان الفضاء الوحيد في المغرب القابل للعرض بشكل احترافي، وقد تخرج منه عدد هائل من الفنانين والمجموعات الغنائية، كمجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة وتاكدة وغيرهم كثير.
بالنسبة للذين التحقوا بفرقة الصديقي، إن هذا الأخير، لم يكن يقتصر على تأهيل الملتحقين ليكونوا ممثلين فحسب، وإنما كان يجبرهم على تلقي دروس في النجارة والإنارة والحدادة والكتابة… وكان الهدف هو تمكين هؤلاء من تعلم المهن الأخرى المرتبطة بالمسرح.
وإذا كان العديد من الباحثين والدارسين والفنانين يعتبرون الطيب الصديقي هو مؤسس المسرح المغربي الحديث، ويشهدون له بغزارة إنتاجاته المسرحية والتلفزيونية والسينمائية وحتى الوثائقية، إلا أن هناك من له ملاحظات حول تجربته المسرحية، كاقتصاره على توظيف التراث، دون الاهتمام بالقضايا الجوهرية للإنسان.. ومهما يكن، يظل الطيب الصديقي واحدا من أعلام المسرح المغربي والعربي، الذي فرخت مدرسته عديد الفنانين، سواء كممثلين أو مطربين أو أعضاء ضمن المجموعات الغنائية.
ويتذكر كثيرون، كيف تأثر الملك محمد السادس برحيل الطيب الصديقي في 5 فبراير 2016، حيث وصفه في برقية تعزية ومواساة بعثها إلى أفراد أسرته بـ”أحد رواد الفن المسرحي بالمغرب، المشهود له بالتألق والابداع، والجرأة في التجديد، وبالتعريف بالمسرح المغربي عربيا ودوليا”. واستحضر الملك في البرقية ذاتها “ما كان يتحلى به الراحل الكبير من حميد الخصال، ومن حس إبداعي رفيع، جسده على مدى نصف قرن، في أعمال مسرحية خالدة، سواء ككاتب أو كمخرج أو كممثل، حيث ظل رحمه الله، حريصا على استلهام مواضيع مسرحياته من عمق التراث الثقافي المغربي الأصيل، مما أكسبه إعجاب وتقدير جمهور واسع من عشاق فن المسرح في المغرب وفي الخارج”.