حسن عين الحياة
لا يمكن أن يقفز اسم الراحلة ثريا جبران إلى سطح التداول، دون أن ترتسم في الأذهان، صورة أثيرية لامرأة جمعت بين الثقافة والفن والسياسة، داخل مثلث “مقدس”،تبدو وهي في داخله كناسكة متعبدة في محراب الفن.
على خشبة المسرح.. تتجلى ثريا جبران بأكثر من وجه.. الإبداع هوسها الأول، وسرعتها في الانتقال بين الحالات رهيبة إلى حد الإبهار.. في حالة الغضب تتجلى في كامل هيلمانها وهي محاطة بهالة من الضوء، وتشعرك بأنها بركان على أهبة الاندلاع.. نظراتها حادة كسهم انفلت فجأة من وتر،وملامح وجهها البدوي، تزيدها صرامة وقوة.. وفي حلات الفرح، يشع الضوء من عينها، فترتخي أسارير وجهها، لتبدو مألوفة، كالوجه الذي يطمئن له الناس من النظرة الأولى.. تجيد الأدوار المركبة، وتنتقل من شخصية إلى أخرى بسلاسة، محافظة على تلك المسافة الرفيعة بين الحلات النفسية التي تحرك الشخصيات.
إنها تلك المرأة التي قادها القدر في طفولتها إلى المسرح زمن الستينيات، وهي بالكاد تستوعب ما يجري حولها.. وفوق ذلك، هي المتمردة التي شحنت مسرحياتها بفكر طلائعي وتنوري بالدرجة الأولى، رفقة زوجها المبدع عبد الواحد عوزري.. كما أن اسم ثريا جبران، سيظل مقرونا بلحظة اختطافها وتعذيبها وحلق شعر رأسها، عندما كانت تتأهب للتنقل عبر “الطاكسي” من شارع إبراهيم الرودانيبالدارالبيضاء إلى مقر القناة الثانية بعين السبع،فيحادثة ظلت محاطة بهالة من الصمت، ونُسِجت حولها الأقاويل والقصص الملفقة والعارية من الحقيقة.
وعندما تنقب في الأرشيف الفني والمهني لهذه الفنانة العملاقة،تدرك أن الشهرة شرَّعت أبوابها أمامها، دون أن تسعى ثريا إليها، فأصبحت من خلال أعمالها المسرحية سيدة الركح الأشهر في العالم العربي، وذلك لإدائها وبراعتها في التمثيل، وكيف كانت تشد إليهاانتباه الجهور، ومن تمَّ حمله من قاعات العروض إلى عوالم يتمازج فيها الجمال بالرؤى المستنيرة، وينصهر فيها الحضور الباذخ بقوة الكلمة التي تسمو بالناس إلى علياء الفكر.
لقد مر أكثر من سنتين ونصف السنةعلى رحيل الفنانة المقتدرة ثريا جبران، لكن صورتها ما تزالمحفوظة في قلوب المغاربة، بالحب نفسه الذي بادلتهم إياه، سواء كممثلة عابرة للحدود،أو كوزيرة استثنائيةتركت بصمة في قطاع الثقافة والفن، خاصة وأنها أول فنانة في العالم العربي تتولى هذا المنصب.. وهنا يتذكر كثيرون، مدى تأثر الملك محمد السادس برحليها في 24 غشت 2020.. حيث قال في برقية تعزية ومواساة بعثها إلى أفراد أسرتها: “إن وفاة الفقيدة لا يعد خسارة لعائلتها الصغيرة فحسب، وإنما للأسرة الفنية المغربية بصفة عامة، التي فقدت برحيلها فنانة وممثلة متميزة، يشهد لها الجميع بعطائها الغزير وبمساهمتها الفعالة والجادة في تطوير وإشعاع الفن المسرحي والسينمائي ببلادنا، وفي خدمة المجال الفني والثقافي الوطني”.وتابع الملك محمد السادس:”وإننا لنستحضر في هذا الظرف الأليم مناقب الراحلة المبرورة، التي كانت تحظى بتقديرنا، لما كانت تتحلى به من خصال إنسانية عالية، ولما عهدناه في شخصها من تفان ونكران ذات، لاسيما خلال مزاولة مهامها الحكومية، ومن قيم الوطنية الصادقة”.
ولدت ثريا جبران، في 16 أكتوبر 1952 بمدينة الدارالبيضاء.. ترعرعت في درب السلطان الشعبي، وعاشت اليتم وهي طفلة صغيرة بعد وفاة والدها. ولأن الأب كان المعيل للأسرة، اضطرت والدتها إلى العمل في الميتم البلدي في عين الشق، الذي كان شقيق والدتها محمد جبران المسؤول عنه.. وهنا وجدت الطفلة ثريا نفسها ترافق والدتها إلى الميتم، وبالتالي معايشتها لأطفال الخيرية، ولعل ذلك هو ما ترك أثرا بالغا في ذاكرتها، وجعل إحساسها مرهفا، منذ بزوغها كممثلة وإلى غاية وداعها الأخير.
اسمها الأصلي السعدية اقريتيف، لكن “ثريا جبران” كإسم فني وراءه رجلان، كان لهما الفضل في مسارها اللامع.. الأول محمد جبران، زوج اختها الذيتكفل بها ومنحها اسمه (جبران).. والثاني هو الفنان الراحل عبد العظيم الشناوي، الذي احتضنها وهي ابنة عشر سنوات في فرقته “الأخوة العربية” خلال ستينيات القرن الماضي، فشاركت معها في مسرحية “ولاد اليوم”.. ولأن اسم السعدي اقريتيف لم يكن جاذبا بالنسبة للشناوي، سماها “ثريا”،وقرنه باسم “جبران” لتصبح منذ ذلك الحين حاملة للقب فني، هو “ثريا جبران”.
أما مسارها الدراسي، فقد تباينت حوله المعطيات، بين من يقول إنها انقطعت عن الدراسة في وقت مبكر، وبين من يجزم بأنها كانت مجدة في دراستها الابتدائية، بالقدر الذي مكنها من التفوق معية تلميذات أخريات، قبل أن تواصل مسارها الإعدادي والثانوي وتحصل على شهادة البكالوريا التي أهلتها لدخول المعهد الوطني التابع لوزارة الشؤون الثقافية، وحصولها على دبلوم في التخصص المسرحي.
في بدايتها الأولى ظهرت ثريا جبران بقوة في مسرح الهواة.. واشتهرت من خلال عدة أعمال مسرحية، بداية مع فرقة “الأخوة العربية”ثم فرقة “الشهاب” للفنان المقتدر محمد التسولي،وفرقة “المعمورة” وفرقة “القناع الصغير”، قبل أن تلتحق بمسرح الرائد الطيب الصديقي، ويرتبط اسمها فيما بعد بتجربة فرقة “مسرح اليوم” التي قدمت من خلالها أشهر عروضها المسرحية في المغرب وخارجه.
وهنا يسافر بنا الفنان محمد التسولي إلى بدايات ثريا جبران مع فرقته “الشهاب” المسرحية، حيث قال في حوار مع “المنعطف”: “في عام 1966 كنت أعد في دار الشباب بوشنتوفبالدارالبيضاء مسرحية “موتى بلا قبور” للفيلسوف جون بول سارتر.. كانت ثريا جبران وقتها حديثة السن، ربما لم يتجاوز عمرها 14 سنة، وكان من جاء بها إلى دار الشباب هو زوج أختها “جبران” الذي حملت اسمه فيما بعد، وكان قد جاء بها إلى الفنان الراحل عبد العظيم الشناوي الذي كان بدوره يتمرن على مسرحية ما ضمن فرقته “الأخوة العربية”، وقد قضت معه حوالي 20 يوما”. ويضيف التسولي “آنذاك وبينما هي تجول في دار الشباب، تناهى إلى سمعها أصوات الممثلين في فرقتنا الشهاب وهم يتمرنون على المسرحية باللغة العربية.. كانت ثريا تعشق الفصحى، مما دفعها إلى أن تطلب مني الانضمام إلى الفرقة. كنت وقتها قد وزعت الأدوار على الممثلين، فكلفتها بتلقين الممثلين النص. لكن في المسرحية الموالية التي حملت عنوان “يوسف بن تاشفين” لكاتبها المرحوم عبد الرزاق الهراوي، منحتها دور “بثينة”ابنة المعتمد بن العباد. وقد شاركنا بهذه المسرحية سنة 1967 في مهرجان الهواة، وكانوا وقتها يختارون أحسن مخرج وأحسن ممثلة وممثل وأحسن كاتب للالتحاق بالتدريب في “المعمورة” مع “بير ليكا”. ولأنها نالت جائزة أحسن ممثلة، التحقت بفرقة المعمورة. هناك، التقت ثريا جبران مع فريد بن مبارك فكانت انطلاقتها في التمثيل”.
لكن الانطلاقة القوية لثريا جبران وفق الكاتب والإعلامي عبر الرحيم التوراني بدأت مع المخرج عبد الواحد عوزري، حيث قال، إنارتباطها بعوزري كان له دورا واضحا ونقلة نوعية في مسيرتها الفنية..”ذات ظهيرة، قامت ثريا بزيارة دعم وتقدير ومجاملة إلى المركب الثقافي للمعاريف، حيث كان المخرج الشاب العائد للتو من فرنسا، يعيد التمارين المسرحية على عمل، هو في الأصل نصوص ساخرة تمت مسرحتها بتركيبها من عمود صحفي، للكاتب والشاعر العربي السوري الكبير محمد الماغوط.. وصلت ثريا لتدعم الفرقة الوليدة وتهنئ مخرجها الشاب، كما دأبت دائما أن تفعل مع كثيرين غيره من الفنانين، عانقت الممثلات والممثلين وقالت لهم: “برافو،، أحسنتم يا شباب”، فإذا بعوزري ينتهز الفرصة ويطلب منها أداء بطولة “حكايات بلا حدود” في العرض الذي تعتزم فرقة “مسرح اليوم” تقديمه في دمشق أمام صاحب “الفرح ليس مهنتي”، لكن محمد الماغوط بعد مشاهدة العرض استعاد فرحته وعبر عن سعادته في تحويل مقالات أسبوعية كان ينشرها تحت عنوان انتقاه من أدب الأطفال: “أليس في بلاد العجائب” على صفحات مجلة “المستقبل” الباريسية لصاحبها الكاتب الفلسطيني نبيل خوري، وكان لقاء ثريا بالماغوط قمة فنية عربية تاريخية، سبقتها قمة هرمية أخرى في الشرق العربي، بلقاء ثريا جبران بالممثلة اللبنانية الكبيرة نضال الأشقر في مسرحية “ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ” إخراج الطيب الصديقي.
ويضيف الكاتب، أن ثريا لم تتوقف عند أداء بطولة “حكايات بلا حدود”، بل كان الدور بداية لحكايات أجمل، ولدور آخر لها في الحياة، عندما ارتبطت بالزواج من عبد الواحد عوزري. كان هذا الارتباط شعلة فجرت من خلالها ثريا طاقتها المبهرة في التمثيل، بحيث تعملقت في كل المسرحيات التي انتجها “مسرح اليوم” بدءً بمسرحية “بوغابة” التي أدت فيها دور رجل متحكم، وهي المقتبسة عن “بريخت”، ثم مسرحيات “البتول، العيطة عليك، امرأة غاضبة، الجنرال” للكاتب والإعلامي محمد بهجاجي، إضافة إلى مسرحية للكاتب الاحتفالي عبد الكريم برشيد وهي “النمرود في هوليود” ومسرحيات “أيام العز” للروائي والسيناريست يوسف فاضل، و”الشمس تحتضر”، المقتبسة من نص الشاعر عبد اللطيف اللعبي، و”أربع ساعات في شاتيلا” للفرنسي جان جونيه وغيرها كثير. لكن أبرز حضور للفناة ثريا جبران، تجلى في ظهورها في التلفزيون من خلال الوصلات الإشهارية في زمن البدايات.. وهنا يتذكر المغاربة إشهار الوقاية من حوادث السير، ولازمة ثريا الشهيرة “أهيا ناري جابها فراسو.. وعتقو الروح”.
وبموازاة قوتها في المسرح، تسلطنت ثريا جبران في السينما، من خلال العديد من الأعمال ذات الإنتاج المغربي والعربي الضخم، كفيلم “عرس الدم” لسهيل بنبركة، لكن تبقى أهم مشاركاتها المميزة في عالم السينما دورها المميز في فيلم “عمر المختار” للراحل مصطفى العقاد، والذي فتح لها باب الشهرة على صعيد العالم العربي، لتشارك في العديد من المسلسلات المغربية والعربية، والتي يبقى أهمها المسلسل التلفزيوني التاريخي “صقر قريش”، من تأليف وليد سيف وإخراج الراحل حاتم علي، وكانت ضيفة الشرف، عن دوره خالة “عبد الرحمان الداخل”.