a24- حسن عين الحياة
عندما تجالس الفنان المقتدر عبد القادر مطاع، وتصغي إلي حديثه الأشبه بالسفر السريع إلى الماضي المفعم بالنوستالجيا، تشعر أنك تتجول داخل ذاكرة مغربية حية، وأنك في حضرة رجل عانى في طفولته وشبابه ليعيش، وعاش ليعاني في كبره بعدما انطفأت حدقتاه إلى الأبد. لكن بين معاناتي البدايات وتلك التي يعيشها الآن، ثمة مرحلة تمكن خلالها مطاع من إثبات ذاته كنجممتعدد..فقد انصهر فيه الفنان مع الإذاعي، والمسرحي مع رجل الإشهار الذي ارتبط صوته بعدد من المنتوجات الاستهلاكية في مغرب السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.. فهوممثل مسرحي وتلفزيوني وسينمائي مهوب، ومبدع بالقدر الذي جعل كبريات شركات الإنتاج الفنية تتهافت عليه، وتفرد له مساحة واسعة في إنتاجاتها، وتبرز اسمه في خانة مميزة على شريط جنيريك أعمالها الابداعية.
اليوم ورغم معاناته مع فقدان البصر، وغيابه عن الأعمال التلفزيونية والسينمائية، إلا أن مطاع ما يزال كبيراً في أعين المغاربة، فهو ممثل كبير وصاحب صوت جهوري لم يستغل للأسف في الأعمال الدرامية العابرة للحدود، وإن كان الرجل قد شق مسارا فنيا متميزا، جعل العديد من محبيه يصفونه بـ”وحش الشاشة المغربية”، خاصة بعد أدائه المبهر لشخصية “الطاهر بلفرياط” في مسلسلي “ستة من ستين”و”خمسة وخميس”.
ولد عبد القادر مطاع في مرحلة مشحونة من تاريخ مغرب كان وقتها يعاني من وطأة الاستعمار الفرنسي.. فهو من مواليد عام 1940 بالدارالبيضاء، وتحديدا بدرب السلطان الذي كان بؤرة لمقاومة الاحتلال، وشعلة لبداية ظهور المسرح، بشكله الفطري، المعتمد على السكيتشات والتمثيليات الهزلية. ولأنه كان طفلا بالتبني، فقد عاش من عمق الحرمان والفقر طفولة صعبة، وإن كان مطاع يصفها بأنها “طفولة الزمن الجميل”.
ذات مرة، وفي حديث صحفي جرى بيننا، وصف مطاع نفسه بأنه عاش حياة “لفشوش”، بحكم أنه وحيد أسرته، وأنه نال ما يكفي من الحنان والدلال.. لم يتعمق كثيرا في دراستهالتي بقيت حبيسة الابتدائي. فقد غادر حجرات الدراسةلمساعدته أسرته على تكاليف العيش، فوجد نفسه يجرب مهنا شاقة وهو مجرد طفل صغير. بحيث أصرت أمه على أن يمتهن حرفة ينتفع بها، فلم تجد أمامها غير محل للنجارة. لقد كان عالما غريبا على طفل بالكاد اشتد عوده، فحاول أن يتأقلم معه، لكنه لم يستطع. وهنا يقول مطاع بلسانه الدارجي: “مصبرتش في هاذ الخدمة، لأن المعلم ديالي كان كايعطيني نحك العود بزافبالكاغيط حرش”. كما أنه كان كلما توقفت شاحنة محملة بالأخشاب يكلفه رب العمل بأن يفرغ شحنتها، وقد كان هذا العمل بالنسبة له شاقا ومتعبا، خاصة عندما تترك قطع الأخشاب تَوَرُّمات وجروح على كتفيه.لذلك، غادر مطاع محل النجارة واشتغل “سيكليس” عند تقني للدراجات النارية، لكن سرعان ما ترك هذه المهنة، بفعل استبداد صاحب المحل، وأيضا لعدم قدرته على تحمل ما تخلفه الشحوم (لاكريس) من أثر على البدن والملابس. بعدها وجد عملا آخرفي معمل صغير يحول الملح من مادة خام إلى مسحوق يتم حشوه في أكياس صغيرة للاستهلاك.
بالنسبة لمطاع إن العمل في الملح أهون بكثير من المهنتين السابقتين، لكن سرعان ما اكتشف أن هذا العمل مؤلم وصعب، خاصة حينما كان يلاحظ أن بعض الجروح الصغيرة في قدميه، تتحول مع الملح إلى أخرى متورمة ومتعفنة أشد إيلاما على عوده الطري. لذلك، إن هذه الظروف القاسية، دفعته إلى التحدث مع صاحب المحل لكي يخفف عنه أعباء العمل، فاقترح عليه أن يوزع أكياس الملح على بعض المحلات بـ “درب عمر” المعروف بنشاطه التجاري في الدار البيضاء. وعن هذه المرحلة يقول مطاع: “قلت للمعلم شوف من حالتي، فإذا به كيعطينيكروسة وحمار باش نبدا ندي ديك الملحة لـ “درب عمر”، إذن ولا كايشارجي ليا الملحة في الكروسةوكانشد الطريق أنا وحماري حتى نوصل للمكان المقصود، هاذ العملية درتها تقريبا شي خمس مرات، لكن من بعد طلعات ليا هاذ الخدمة في راسي”.
لكن كيف انتقل الشاب مطاع من مزاولة هذه المهن إلى عالم الفن،ثم إلى مجال الإشهار الذي تمرس فيه كثيرا بالقدر الذي جعل أجيالا من المغاربة يحتفظون بصوته في أرشيف الذاكرة، خاصة من خلال لازمة “أنا العاود لبيض يا بابا”.
ذات مرة، وهو ابن 15 سنة من عمره، كان مطاع يشاهد مسرحية مع الجمهور، يشخصها عدد من الممثلين، أبرزهم المرحوم محمد الحبشي والفنان الكبير محمد الخلفي.. أعجبه الأداء والموضوع وأبهره كيف أن للمثل قوة فوق الخشبة تشد إليه انتباه الجمهور، فتمنى أن يكون واحدا من الفرقة. وهنا بدأ مطاع يمثل بعض السكيتشات القصيرة، خاصة مع منظمة الكشفية، قبل أن تحمله الصدفة إلى تحقيق حلمهوالالتحاق بفرقة محمد الخلفي ليشارك معها في مسرحية “الصحافة المزورة”، وهي أول عمل محترف له في عالم المسرح، لكن مطاع وهو فوق الخشبة، لم يستطع النطق بكلمة من حواره، للرهبة التي استبدت به وهو أمام جمهور كبير.. آنذاك صفعه الخلفي لعدم تركيزه مع الدور، فكانت هذه الحادثة بمثابة صدمة كبيرة لممثل بالكاد يشق طريقه في عالم الفن، لكنها في الوقت نفسه، دفعت مطاع ليركز كثيرا مع أدواره، خاصة بعدما منحه محمد الخلفي فرصا أخرى في عدد من مسرحياته التي أبدع فيها خلال ستينيات القرن الماضي، ليصبح عضوا بارزا ضمن أعضاء الفرقة، ومن تمَّ الخوض في عدد من التجارب التي قادته إلى عالمي التلفزيون والسينما.وهنا يحتفظ الأرشيف السينمائي المغربي لمطاع بأدائه المبهر في الفيلم السينمائي المغربي “وشمة”للمخرج حميد بناني.. وكان هذا الفيلم الذي انتج في أواخر الستينيات، قد ترك صدى إيجابيا في عدة مهرجانات داخل المغرب وخارجه، خاصة وأنهفاز بعدة جوائز، أهمها “الثانيت البرونزي” لمهرجان قرطاج بتونس سنة 1970.
قبل مشاركته في السينما، كان مطاع قد دخل عالم الإشهار من بابه الواسع، وذلك عن طريق الفنان الراحل أحمد الصعري. وهنا يقول مطاع:”ذات مرة كنت جالسا في المقهى، ما علي ما بيا، جا عندي الفنان أحمد الصعري، وقال لي واش ممكن تسجل لينا واحد الإشهار في الإذاعة، علما أنه آنذاك (سنة 1962) لم يكن هناك لا تلفزيون ولا أي شيء آخر، اللهم إذاعة طنجة وحدها”.. يتحدث مطاع معنا بسجية عن بدايته الأولى، قبل أن يضيف، أنه توجه رفقة أحمد الصعري إلى إحدى الوكالات الإشهارية بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء، وكانت لها علاقة مع إذاعة طنجة..كان مطاع وقتها يمارس المسرح، ولما سجل الإشهار، حصل على مبلغ 35 درهما، ويقول مطاع، إن أداءه كان مميزا، مما دفع الصعري إلى المناداة عليه كلما تعلق الأمر بتسجيل وصلة إشهارية جديدة. بعدها أصبح مطاع يكتب سيناريو الاشهارات التي يسجلها، ليلتحق فيما بعد إلى العمل مع أحد عمالقة الإشهار في المغرب وقتها (وكالة شمس لنورالدين عيوش)، حيث سجل العديد من الإشهارات التي ماتزال محفورة في أذهان المغاربة، كإشهار “شومبوان” الذي برز فيه عام 1971 في دور قيس، وإشهار شفرة الحلاقة المميز بعبارته الشهيرة ” آشكيدير هذا.. وايلي بغا يحسن بللي كيان” ثم إشهار “أنا العاود لبيض يا بابا” الخاص ببطاريات الشحن وغيرها كثير.
ولأنه كان مميزا بصوت شجي، فقد التحق بإذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية “ميدي 1″، وكان أول الملتحقين للعمل بها رفقة الفنان الراحل عبد العظيم الشناوي، كما كان أول من صدح بصوته عبر أثيرها، وهنا يتذكر كثيرون أول عبارة نطق بها مطاع قائلا: “سيداتي وسادتي.. صحبة الوفاء، أنتم الآن في الاستماع إلى إذاعة جديدة، إذاعة كل الاجيال، إذاعة الشيب والشباب.. إذاعة دولية، تتميز بالخبر وإعطائه في حينه..وهذه الإذاعة تدعى إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية”ميدي 1″، امكثوا معنا الآن، مع كشكول من الأغاني، وبصحبتكم عبد القادر مطاع”.
لقد ترك مطاع بصمة قوية في المسرح والتلفزيون والسينما والإذاعة.. ولعل ذلك هو ما جعله يحل ضيفا كبيرا على عدد من المهرجانات التي كرمت مساره الإبداعي، تماما كما حدث في مارس 2019، حين تم الاحتفاء به كعريس للدورة العاشرة لمهرجان بن امسيك للمسرح الاحترافي.. وكان لي شرف تقديمه ومحاورته.. كان قد فقد البصر كليا، وتأسف على تنكر بعض ممكن كان له فضل عليهم من أهل الفن، قبل أن يضع نفسه رهن إشارة الفرق المسرحية التي ترغب في الاستفادة من تجاربه، كما كان آخر ظهور له في عمل تلفزيوني عام 2020 من خلال سلسلة “البوي 2” للفنان سعيد الناصري، قبل أن يغيب عن الشاشة.
ورغم فقدان كلي للبصر، يقول مطاع إن له عالمه الخاص.. “فهذه العتمة، ما أجملها.. فيها حياة أستقل بها لنفسي..فأنا لا أرى شيئا، أسمع فقط وأحس.. وأشعر براحة لاستغنائي عن نظرات الفضول”.