a24- حسن عين الحياة
عندما تجالس الفنان القدير عمر السيد، يتولَّد لديك انطباع خاص، من أنك في حضرة الفن.. وأنك تسافر من خلاله في سفر سريع إلى مغرب السبعينيات الثمانينيات من القرن الماضي، حيث مجموعة ناس الغيوان، بحولتها الثقافية والاجتماعية، وأيضا ببوهيميتها التي ميزتها عن المجموعات الأخرى، كجيل جيلالة ولمشاهب ومسناوة وتكادة، وإن كانت لكل واحدة من هذه المجموعات جمهورها الواسع ووسمها الخاص ووزنها في “ربيرطوار” الأغنية المغربية.. وقد تشعر أيضا، وأنتتتحدث إلى عمر السيد، بأنك لن تكلف نفسك عناء البحث عن الكلمات المناسبة لمجاراته في إيقاع الحديث.. فهو تلقائي إلى أبعد حد، وبسيط في كل تحركاته التي لا يُخضعها للرقابة، والأكثر من ذلك، يرفع كل الحدود التي من شأنها أن تعيق التواصل معه.. لكن في الوقت نفسه، فهو حذِر بالفطرة، ومتوجس إذا شعر بأنه طرف أساسي في حديث رسمي..
يبلغ عمر السيد من العمر الآن 75 عاما، وعلى الرغم من ذلك، فهو مايزال حاملا لمشعل الغيوان.. يغني ويحتفل ويحل ضيفا وازنا على المهرجانات التي تحتفي بمساره الإبداعي كعنصر أساسي ضمن مجموعة ناس الغيوان.. تماما كما حديث في شتنبر الماضي، حينما حضر حفل تكريمه من قبل مهرجان المسرح الأمازيغي في دورته الخامسة ببن امسيك، حيث بدا نشيطا، وفرِحا أكثر بعرض فيلمه الغنائي الذي يحمل عنوان “مسيرة إنسان ومسار فنان”. وبدا عمر السيد من خلال هذا الفيلم الذي أخرجه خالد بدري، أنه ما يزال مفعما بالحس الغيواني، ومميزا بذاك الصوت الذي صدح في ما مضى بآهات طويلة، محفوظة في أغاني “غير خودوني” وماهموني” و”يوم ملقاك” وغيرها كثير.
ولد عمر السيد عام 1947 بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي في الدارالبيضاء، وكان هذا الحي يسمى وقتها بـ”الكريان الجديد”.. وهو ابن لأب أمازيغي يتحدر من الجنوب المغربي، وأم من أصل “عروبي”.
ولأنه عاش طفولة صعبة، خاصة بعد تهجير والده إلى مسقط رأسه بتالكردوست في الجنوب، كان الطفل عمر، بحسب المهتمين بمساره الفني، كثير التنقل بين منزل والدته وخاله، وأيضا كثير التواجد بأزقة الحي الذي ولد فيهللنهل من تنوعها الثقافي، باعتبارها فضاءات،تضم وقتذاك، أسرا أغلبها هاجرت من مختلف مناطق المغرب للعمل في الدار البيضاء، وبالتالي، حملت معها مورثها الثقافي، خاصة ما يتعلق بالجانب الموسيقي والغنائي المتعدد، من كناوي وهواري وسوسي وجبلي وعيطة، وغيرها من الانماط الغنائية… وهكذا، ستكون لهذه الأزقة التي كانت تتحول كل يوم أحد، الذي هو يوم عطلة للعمال، إلى ما يشبه مهرجانا مصغرا، دورا أساسيا في الكشف عن موهبة الطفل عمر، وأيضا صقلها، ليصبح على ما هو عليه اليوم.
ومن يرى الفنان الكبير عمر السيد اليوم، يغيب عنه أن الرجل الذي يحمل سر الغيوان حاليا، عاش حياة صعبة في طفولته ومراحل شبابه، وأن إصراره على التغيير هو من جعله يحقق نجاحا باهراً رفقة الكوكبة الغيوانية المميزة بعصامية العربي باطمة وثقافة بوجميع، وبوهيمية باكو وحكمة علال يعلا.
وإذا كان لكل واحد من هؤلاء عالمهالخاص، الذي وفد من خلاله إلى المجموعة الغيوانية، فإن لعمر السيد عالما خاصا، وماض فريد بعض الشيء بالنظر إلى المهن التي زاولها في مرحلة شبابه، والتي تترك انطباعا على أن من امتهانها لا يمكن أن يكون فنانا مطلقا.. لكن بالنسبة لعمر السيد الذي عاش في الحي المحمدي، واحتك برواد الحلقة، وتشبع منذ طفولته بالموروث الثقافي المغربي، خاصة الأمازيغي، لابد له أن يكون فنانا بالفطرة، وأن المهن التي زاولها، لا قدرة لها على قبر ميوله الفني وموهبته.
لقد وجد عمر السيد نفسه وهو قاصر، أمام إكراه الخروج المبكر للعمل، وبالتالي جرب العديد من المهن الصعبة.. ففي حوار سابق لي معه، قال إنه كان يبيع “الكاربون” الذي كان يستعمل كوقود للإنارة، حيث كان العديد من سكان الدار البيضاء سنوات الخمسينيات وحتى الستينيات سبعينيات القرن الماضي ينيرون بيوتهم وأيضا محلاهم التجارية وعرباتهم المحملة بالسلع بواسطة مادة الكاربون. كما اشتعل في معمل عُرف بـ”وزين الليمون”. وهنا يقول عمر بلسانه الدارجي: “خدمت في لوزين تاع الليمون، وكنت مَجْهَدْ في التَّسْتاف ديال الصنادق، وكانوا العيالات في الوزين كايلقبوني بـ”بارطاكيس”، وذلك لأن الناس كانوا في ذاك الوقت قاد شاهدوا فيلم “سبارطاكيس”،حيث كان بطل الفيلم “كيرك دوغلاس” مميزا بـ”حفرة” في ذقنه مثلي تماما”.
بعد الشركة الخاصة بتوزيع الليمون، اشتغل عمر السيد بميناء الدار البيضاء كمياوم، “كنت كانمشي أنا وصاحبي لواحد لبلاصة سميتها “الجوطونة” في المرسى تاع الدار البيضاء، وكنا كنشدو السربيس من الثامنة ليلا إلى السابعة صباحا، باش نكونو من ضمن العمال الأولين للي شادين السربيس، ديك الساعة كايعطونا الجوطونة باش نخدمو.. كنا كانهزو لحديد والخناشي وعدة مواد أخرى، وكنا نشتغل من الصباح إلى الخامسة مساء مقابل 156 ريال لليوم”.
وبحسب عمر السيد، إنه في حال عدم حصولهم على “الجوطونة” التي تخول لهم الاشتغال، يتوجهون إلى الشاطئ لمزاولة مهنة أخرى، مقابل درهمين، وهي ملأ الشاحنات بالرمال التي تستخدم كموالد للبناء. وماكان يهمه وقتها هو البحث عن لقمة عيش حلال فقط.
لقد كان هذا اعتراف جميل من رجل عاش خلال بداياته الأولى الفقر في أعلى درجاته.. لكن إصراره على تغيير الأوضاع، دفعه إلى ولوج المسرح في سن مبكرة، من خلال فرقة “رواد الخشبة”.
والواقع وقف عمر السيد نفسه، إن أغلب عناصر مجموعة ناس الغيوان مارسوا المسرح في البدايات الأولى، فهو مكان رفقة المرحوم بوجميع ينتميان لرواد الخشبة، بينما العربي باطمة فكان نشيطا في فرقة “الهلال الذهبي”.. ولعل هذا الانتماء المبكر لأب الفنون هو مما مكنه من لقاء الطيب الصديقي، المعلمة البارزة آنذاك في سماء الفن المغربي، حيث شارك رفقة العربي باطمة، بوجميع وعدد من الفنانين في مسرحية “الحراز”، والتي كانت الانطلاقة الفعلية لتأسيس النواة الأولى لمجموعة ناس الغيوان، الظاهرة الغنائية التي حولت خماسي يعيش على هامش المجتمع (بوجميع، باطمة، السيد، باكو وعلال) إلى نجوم كبار، ما تزال إنجازاتهم تشد إليها أسماع الملايين في شتى بقاع العالم.
الذين عايشوا عمر السيد، يعرفون أنه مرهف الحس، وأنه شديد التعلق بالحمار، كحيوان بمواصفات خاصة، أهمها الصبر، ولهذا تجد السيد يدافع عن هذا الحيوان أينما حل وارتحل، وحينما تسأله لماذا هذا التعلق، يجيب بعبارته الشهيرة “القضية في الطاقية”.
ذات مرة(في عام 2008) ضربنا موعدا لإجراء حوار صحافي، وكان اللقاء بحي بوركون بالدارالبيضاء.. كان عمر السيد يسوق سيارة مرسديس خضراء اللون وقد حضر في الموعد، وطلب مني مرافقته، لقضاء بعض حوائجه قبل التوجه إلى منزل بالبرنوصي، حيت تجتمع بعض العناصر الجديدة لمجموعة ناس الغيوان. وهناك سنجري الحوار الصحافي. لكن حدث أن اكتشفت في الرجل، ما ردده كثيرون عنه.. فبينما نحن في الطريق، لمح عمر السيد حمارا في الشارع.. توقف فورا، وتوجه إلى “محلبة” واقتنى خبزتين أو ثلاثة (المحراش).. قطَّع الخبز إلى قطع متوسطة، ثم مسك بفم الحمار، وأخذ ما يكفي من الوقت لإطعامه.. والأكثر من ذلك لم يبالي بمن حوله. بعهدها مسح بيده على جبهة الحمار، وتمتم ببضع كلمات، وعاد إلى سيارته.إنه موقف يدل على نبل إنسان ،وعمق فنان امتطى صهوة المسرح فبلغ رفقة مجموعته الغيوانية العالمية.