بقلم: حسن عين الحياة
لم يعد يفصلنا عن شهر رمضان المبارك سوى أسابيع قليلة، وهو شهر بالرغم من قدسيته وحمولته الدينية، يظل موسما خاصا بـ”الإضحاك” بالنظر إلى حاجة الصائم، بعد الإفطار، إلى الترفيه، كنوع من تحرير النفس من ضغوطات النهار. فمن جهة، تتكدس البرامج التلفزيونية الفكاهية على موائد الإفطار بغزارة، دون أن تلامس حس التفكه عند المغاربة، اللهم بعض الاجتهادات التي تحاول أن تغذي فيهم الحاجة للضحك. ومن جهة أخرى يضطر كثيرون إلى السفر الافتراضي، كنوع من “النوستالجيا” إلى الماضي القريب، للاستمتاع بأعمال كوميدية لفكاهيين بالفطرة، كانوا قد أثاروا فيهم نشوة الضحك.. ومن أبزر هؤلاء الفنانين، أولئك الذين نشطوا في تيمة “الثنائي الفكاهي”، والذين تمكنوا بنباهتهم وسرعة البديهة التي ميزتهم، من ملامسة الواقع المعيشي للمغاربة، سواء من خلال العزف على التناقضات التي يعج بها المجتمع في قالب فكاهي محض، أو عبر الاعتماد على “كوميديا المواقف” التي أصبحت عملة نادرة في الأعمال الفكاهية الآن.. ولعل من أشهر هؤلاء الثنائي “قشبل وزروال” و”الداسوكين والزعري” و”عبد الجبار لوزير وبلقاس” و”بزيز وباز” وغيرهم كثير.
في هذه الورقة، نعزف بدورنا في “المنعطف” على أوتار “النوستالجيا”، فنعود بكم إلى ظاهرة “الثنائي” التي فرخت عديد المبدعين ممن رسموا البسمة على شفاه المغاربة.. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ركن إلى الصمت، يلوك في حسرة تدني مستوى الفكاهة التي أصبحت جاهزة وفارغة من محتواها، ومنهم نزر قليل، ما يزال يصارع طواحين شركات الإنتاج للظهور في التلفزيون حتى يحافظ على ذاك الخيط الرفيع بين الفنان وجمهوره.
“الثنائي الفكاهي” الأكثر قدرة على صناعة النكتة
هم خريجو الثقافة الشعبية في شقها الإبداعي والفكاهي والغنائي.. مبدعون بالفطرة وألمعيون، وفوق ذلك عفويون في صناعة النكتة الهادفة، ومرتجلون بالفطرة لـ”السكيتشات” التي جعلت أجيالا من المغاربة يستهلكون أعمالهم الكوميدية بنَهم، ويتابعون أخبارهم، ويتهافتون على إنتاجاتهم التي كانت تغزو الأسواق في شكل أشرطة (كاسيط)، ويتسمرون أمام شاشات التلفزة حين يظهرون في سهراتها التي كانت تُبَث كل ليلة سبت.. هؤلاء رواد ظاهرة “الثنائي الفكاهي” في المغرب التي انقرضت لعدة اعتبارات، بعضها يعود لسطوة الزمن، وبعضها الآخر تحكمت فيها عوامل “النجومية” ولعنة المال ومكائد السوق وتطلبات الذوق.
الآن بعد تفكك العديد من الثنائيات التي أسست، على امتداد 6عقود خلت، لنوع من الفكاهة التهكمية التي تنهل من ثنائية “العروبي والمديني”، “الكريم والرعواني”، “المرضي والمسخوط”، “السياسي والإنسان البسيط”… أصبح تيمة “الثنائي الفكاهي” في المغرب مجرد ذكرى يعود إليها البعض بنوع من الحنين.
ففي مغرب “الزمن الجميل”، حيث كان للثنائي الفكاهي مكانة اعتبارية في المجتمع، كانت الأسواق تعج بـ”كاسيطات” الثنائي كنجوم للكوميديا في المملكة، ذلك أن بعض”اسكيتشاتهم” كانت تجد من العامة من يحفظها ويقلدها ويرددها، دون أن تفقد تلك القدرة الهائلة على الإضحاك.. ويتذكر كثيرون، كيف تمكن الراحلان “قشبل وزروال” على امتداد 60 عاما، من اعتلاء عرش ظاهرة “الثنائي” في المغرب، بعدما مزجا القصيدة الزجلية بالفكاهة والنكتة والموسيقى المنطلقة من آلتي “لوتار والبندير”.
“تفجج يا الحبيب في أرض المغرب.. هز عينك وتصيب المناظر كلها هي.. من تما زيد يا الحبيب وزور مولاي بوشعيب.. هز عينك وتصيب للا عيشة البحرية”.. اليوم، بمجرد ما ينطلق هذا المقطع الغنائي عبر الأثير، حتى تحلق الذاكرة الجماعية لجيل من المغاربة في سفر افتراضي داخل جغرافية المملكة، وترتسم في الأذهان تيمة الموسيقى الرعوية الآخذة في الانقراض، ذلك أنه من خلال دبدبات الجِرس البدوي و”نقرات” البندير و”دندنات” لوتار، كان الثنائي “قشبل وزروال” يحضر بثقله في أرشيد الذاكرة، فاسحا للروح حيزاً للتفكه والاحتفال.
ويعتبر بعض المهتمين بالكوميديا في المغرب، أن الثنائي “قشبل وزروال” الذي حافظ على مظهره بـ”الجلباب والطربوش الأحمر” يعتبر الحجر الأساس الذي انطلقت منه ظاهرة الثنائيات في المملكة، باعتباره شكل من حيث تيمته الغنائية ذات النَفَس الفكاهي الخاص امتدادا لفن الحلقة، ذاك الفضاء الفرجوي التلقائي الذي تخرجا منه أول مرة بمنطقة الشاوية، لتأتي بعد ذلك مرحلة التقليد والمحاكاة، بحيث استلهم كثيرون بعدعهما تجربة هذا الثنائي، لتأسيس تجاربهم الخاصة.
ويعود بعض الباحثين المهتمين بظاهرة الثنائي، إلى وجود ثنائي آخر، سابق في الوجود والاشتغال، قبل تجربة “قشبل وزروال”، ويتعلق الأمر بـ”اللوطة وبعاو”، وهو ثنائي قادم من منطقة دكالة، يجسده رجلان، يتبادلان أدوار المرأة والرجل. هذا الثنائي ظهر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، بحيث كان يقدم عروضه في إطار الحلقة ويتهكم على المستعمر وسطوته على العباد في البلاد. وهنا، تقول المعطيات المتوفرة لدينا، أن هذا الثنائي، كان بمجرد ما ينهي عروضه في الأسواق حتى يتم اعتقالهما من وسط الحلقة من قبل دوريات المستعمر، لتقوم من هذا الفضاء الفرجوي انتفاضة تندد بالتدخل الفرنسي. وبالرغم من الأصول “الدكالية” لهذا الثنائي، إلا أنه أصبح بحكم شهرته، يقدم عروضه في العديد من المدن المغربية أبرزها الدار البيضاء والرباط.
فورة الثنائيات… من “قشبل وزروال” إلى “الهناوات”
الآن يحتفظ الخزانة الفنية المغربية في جانبها الفكاهي، بعدة تجارب أسهمت من خلالها عدة ثنائيات في خلق نوع من الفرجة المعتمدة على صناعة الضحك، عبر السخرية والتهكم والكوميدي السوداء.. فإلى جانب “اللوطة وبعاو”، هناك الثنائي “قشبل وزروال” و”القدميري وبوشعيب البيضاوي” و”الداسوكين والزعري” و”قرزز ومحراش” و”بلقاس وعبد الجبار الوزير” و”بزيز وباز” و”خديجة أسد وعزيز سعد الله” و”عاجل وفلان” و”بنبراهيم والناصري” و”التيقار” و”السفاج ومهيول” و”الصداقة” و”الزيك والزاك” و”الهبال” و”الهناوات” وثنائي 90 وآخرون.
وإذا كان بعض المهتمين يعتقدون أن بروز هذا الكم الهائل من “الثنائيات” الفكاهية، استفاد من تراجع فن الحلقة في المغرب، فإن الفنان محمد ظهرا الذي أسس مع الفنان عبد خالق فهيد “ثنائي الصداقة”، يرى في حديثه مع “المنعطف” أن ظهور “الثنائيات” بهذا الكم، يعود بالأساس إلى “فتور” أداء بعض الفرق المسرحية خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، العامل الذي أدى ببعض الفنانين إلى تأسيس تجربة الثنائي لضمان الاستمرارية والتواجد في الساحة الفنية.
وقال الفنان ظهرا إن انتعاش ظاهرة الثنائي الفكاهي جاء على حساب الضعف الذي اعترى المسرح خلال تلك السنوات، العامل الذي أنجب العديد من الثنائيات، كـ”خديجة أسد وعزيز سعد الله”، “بنبراهيم والناصري”، “ميلود الحبشي وعائشة ما هماه” وهلم جرا من الثنائيات.
كما أن تجربة “الثنائي الفكاهي” استفادت أيضا، بحسب الممارسين، من السهرات العمومية التي كانت تقام في أقاليم المملكة. فانطلاقا من أواسط ثمانينيات القرن الماضي، انتعشت “الثنائيات الفكاهية” من خلال برنامج “سباق المدن” الذي كان يعرض في كل المدن المغربية، بحيث تخرج منه الثنائي “الصداقة” و”السفاج ومهيول” و”التيقار”، هذا بالإضافة إلى أن بعض الثنائيات كانت لا تشتغل إلا من خلال الأعمال المباشرة في الأسواق العمومية من خلال “الحلقة” أو عبر تسجيل “أشرطة الكاسيط” كالثنائي الهناوات وثنائيات أخرى لم تجد لها طريقا معبدة للظهور على شاشة التلفزة. لكن لماذا تراجع “الثنائي” حتى وصل مرحلة الانقراض؟
الكوميدي محمد ظهرا: عودة الروح للمسرح ساهمت في تراجع “الثنائي”
يعتقد بعض الفكاهيين ممن نشطوا في الثنائيات، (فضلوا عدم ذكر أسمائهم) أن تراجع ظاهرة الثنائي تعود في عمومها إلى انفصال عنصرا “الثنائي” عن بعضهما البعض، وذلك بسبب ما وصفوه بالغرور وطفو الجانب المادي، أو تفضيل أحدهما الانفصال الطوعي لخوض تجربة فردية في عمل مسرحي أو تلفزيوني.
الكوميدي محمد ظهرا، يرى أن عدة أسباب كانت وراء تهديد الثنائي الفكاهي بالانقراض، مشيرا إلى أن الثنائي إذا استفاد من فتور المسرح خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، فإن انقراضه كان بسب عودة الروح للمسرح المغربي.. وأضاف ظهرا أن الثنائي كان ينشط بقوة في المهرجانات، وكان يردد كثيرا “السكيتشات” نفسها هنا أو هناك، دون تجديد للخطاب أو ابتكار للمواقف الكوميدية التي تساير المرحلة، اللهم بعض الثنائيات التي كانت تبتكر موضوعات جديدة حتى تحافظ على مكانتها عند الجمهور.. لذلك، يقول الفنان ظهرا “إن فورة المهرجانات التي تضاعفت وثيرة تنظيمها في المملكة خلال السنوات الماضية، كانت سببا في تراجع الثنائي، بحيث تجد مهرجانا يضم أزيد من 60 ألفا من الجمهور، أغلبهم لا يتواصل مع الفكاهي”. مضيفا أن هذا الفكاهي لا يسعى إلى تقديم كوميديا جوفاء أو تهريج مجاني، وإنما يبتغي من خلال وصلته الفكاهية أن يوصل رسالة معينة، في حين تجد أغلب الجمهور الحاضر حج إلى المهرجان من أجل الرقص فقط، باعتباره جمهورا موسيقيا بالدرجة الأولى”.. هنا بحسب ظهرا، أخد الفكاهي عامة والثنائي بشكل خاص في التراجع تدريجيا.. فضلا عن سبب آخر، يفرض نفسه بقوة، وهو وفاة أحد عناصر الثنائي أو هما معا”.. للأسف، يقول الفنان ظهرا، رحل كثيرون، وكانوا بمثابة مدارس في الكوميديا دون أن يتركوا خلفا من شأنه الحفاظ على تيمة الثنائي الفكاهي، اللهم بروز بعض الثنائيات الشابة الحالية التي تحاول التأسيس لتجربتها.