ليلى خزيمة
الساعة تشير إلى الثامنة صباحا. عبرنا مدينة الدار البيضاء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. حركة دؤوبة وازدحام كما عهدناه بالعاصمة الاقتصادية النابضة بالحياة. وبوصولنا عند نهاية خط “الترامواي” بمنطقة ليساسفة، دخلنا موقفا للسيارات هو بمثابة جسر يعبر بك من عالم الصخبإلى عالمٍ الصمت فيه عبرة. إنها بداية أحدأكبر سوق للصناعات النباتية بالمغرب. يعرفه البيضاويون وغير البيضاويين باسم “Lemarchédel’osier”.
هنا يصنع ويباع أرفع أنواع الأثاث المصنوع من القصب والدوم والسمار والروطان. صناعات نباتية صديقة للبيئة، حافظ عليها أناس أصبحوا من القلة القليلة بمدينة الدار البيضاءوبالمغرب. هنا التقينا خلال تجوالنا، أحد عشاق هذا الفن العتيق وصاحب الفضل على مجمل الحرفيين بالسوق وبمناطق أخرى بالمغرب، الحاج أحمد الخالدي. شيخ يبلغ من العمر 85 عاما، لكن يشع منه نشاط شاب عشريني. كانت نظراته وسط السكون الروحاني للسوق، تصيح لتقول لنا هل تودون التعرف على حرفتنا وعن منتوجاتنا من الدوم والسمار وغيرها؟
لم نُطِل التفكير، دخلنا المحل وتجولنا وكلنا انبهار بما يمكن أن تجود به الطبيعة وما يمكن أن تتفنن في تشكيله أنامل الحرفي التقليدي. وبنفس النظرة، ابتسم الحاج وسألنا: «آش حب الخاطر؟» وكانت هذه أولَ جملة نسمعها مذ دخلنا السوق. فاستمعنا بعدها إلى أجمل حكاية عشق، عرفتنا على أهمية الصناعات النباتية وطرق الاشتغال على منتوجات الدوم والسمار والقصب.
من قلعة سراغنة إلى الدار البيضاء
بعفوية وطلاقة، بدأ الحاج الخالدي يحكي لنا قصته فعرفنا أن أصله من قلعة السراغنة: «أبلغ من العمر 85 سنة. بدأت العمل بهذه الحرفة عندما كنت صغيرا بمسقط رأسي قلعة السراغنة. كنت أرعى الغنم وأعمل في نفس الوقت في صناعة السلل من “الجريد” والقصب وأذهب بها إلى السوق لأبيعها بثمن بخس لا يتجاوز70 سنتيما آنذاك. بعدما تزوجت، سافرت إلى مدينة سلا ومكت بها مدة سبع سنوات. اشتغلت مع أشخاص آخرين هناك في هذه الحرفة التي أصبحت أتقن خباياها ولا يعجزني أي شكل فيها. في يوم من الأيام، جاء سائح إسباني يقطن بمدينة أكادير للسوق ومعه صورة لتحفة هي في نفس الوقت كرسي ومظلة. جاب السوق بأكمله يبحث عن شخص ينجز له العمل، لكنه لم يجد أحدا. وصل عند صاحب المحل آنذاك، فأجابه نفس إجابة البقية وهي أن طلبه يمكن صناعته من الخشب بينما هو يريده من القصب. عندها توجه لي بالسؤال، فقلت له، إن شاء الله سأجهز لك طلبك. وذاك ما كان. عندما جهزت له الطلب، أخذ يجربه هو وزوجته وأُعجبا بالعمل المتقن الذي قمت به. فسأل عن رب العمل. فأجابه صاحب المحل “أنا” فرد عليه: أنت فقط صاحبالمال، بينما الحرفي الحقيقي هو أحمد. وخلال السبع سنوات، قمت بتلقين أسس الحرفة للعديد من الراغبين في التعلم.بعدها انتقلت أنا وأسرتي إلى مدينة الدار البيضاء بحثا عن آفاق جديدة. بدأت العمل رفقة أخي وحرفي آخر. نصنع كل ما يريده الزبون انطلاقا من صورة أو مجرد نعت أو رسم بسيط. لا يعجزنا ولله الحمد أي شكل».
كان هذا السوق بمنطقة “إفريقيا” بمقاطعة سيدي عثمان. بعدها نُقل إلى منطقة الواحات قبل أن يستقر به الأمر بمنطقة ليساسفة. وهنا يقول الحاج أحمد الخالدي: «باشرت تعليم كل من يود معرفة تقنيات الحرفة وإتقانها دون استثناء. قمت بجلب أشخاص من القرية وأطلعتهم على مهارات الحرفة حتى يتمكنوا من العمل وكسب قوت يومهم. وأصبح من علمتهم في قلعة السراغنة يصنعون ويصدروا منتوجهم مباشرة إلى الخارج بالعديد من الدول الأوروبية والأمريكية. ومن علمتهم هنا أصبح لكل منهم مشغله ومعرضه الخاص به وكل زبنائنا في هذا السوق من المغاربة. وخير مثال هو جاري في المحل. من أصول صحراوية. طرد من عمله. ووجدته يندب حظه. فقلت له تعالى سأعلمك حرفة تعيش منها وتربي أولادك. في البداية استغرب الأمر وقال أن لا دراية له بالحرفة. فقلت له: إن اتبعت تعليماتي وكنت مستعدا ستتعلم. وإن عزفت نفسك عن الحرفة وصممت أذنيك عن تعليماتي، فلن تتعلم. فخاض التجربة وهو الآن صاحب محل. الحمد لله، كنت سببا في تعلم أجيال من الحرفيين لكسب العيش والأجر عند الله».
المادة الأساس
يقوم حرفيو سوق الصناعات النباتية بليساسفة بجلب المادة الأساس من الجريد من سوق ثلاث آيت أوريرت. فسكان المنطقة إضافة إلى رعي الأغنام والماعز يقومون باقتلاع نبات“الجريد” من الأرض وبتكوين خيوط مضفورة، يشتريها منهم الحرفيون ويقوموا برشها بالماء كي تلين. ويستخدمونها لصناعة منتوجاتهم. كما يجلبون لفائف القصب من قلعة السراغنة. أما القصب فيأتيهم من مدينتي فاس ومكناس، بينما يقتنون “الدوم”من مدينة مراكش وثلاث آيتأورير. لكن هذه المواد الأساسية في الصناعات النباتية أصبحت قليلة مقارنة بالسنوات الماضية، مما اضطر الحرفيين بالسوق إلى استيرادهامن الصين وتركيا وتحمل عبئ التكلفة الباهظة مما ينعكس على ثمن المنتوج.
من الوظيفة الأولية إلى تحفة في ديكور المنزل
فيما مضى، أول ما كان يصنع بالدوم والسمار الغطاء التقليدي للأرض المسمى بالحصير وأطباق الخبز وسلة الخضراوات. أما اليوم وبتطور نمط عيش الإنسان، ابتكر حرفيو الصناعات النباتية أشكالا جديدة طورت من هذا الفن العتيق. فأصبحينتجمنه الحقائب النسائية ومختلف المفروشات وأكسسوار الديكور المنزلي التي تعتمدها أفخموأكبر الفنادق: «اليوم، نقوم بصناعة الأفرشة والمصابيح والكراسي. وكلها من مواد طبيعية. لا نستعمل البلاستيك، لا زلنا نحافظ على موروثنا الحرفي. هنالك طلب على المنتوج وأغلب معاملاتنا تكون مع الفنادق والمطاعم، بداية من الأدوات الأساسية إلى الأثاث والإكسسوار وأدوات الزينة.» يقول مصطفى الشامخ أحد الحرفيين بسوق ليساسفة الذين سحرتهم الحرفة. فمصطفى تعرف على الصناعات النباتية سنة 2013: «كنت أعمل قبلها بالصباغة. صاحبت رفاقا لي يعملون بها، فأعجبتني وارتحت لها ووددت في تعلمها. في البداية أحسست ببعض الألم في الأصابع لأنني لم أكن معتادا على بعض الحركات، لكن مع توالي الأيام، تأقلمت ومنهجية العمل، فأصبحت الأمور سلسة. استغرقت عامين لتعلم مبادئ الصنعة ولازلت أتعلم، فلكل يوم متغيراته وفي كل مرة نكتشف أشياء جديدة. في حرفتنا لا نحس بالملل».
قلة اليد العاملة والمنافسة الخارجية
بقدر ما تبهرك روعة المعروضات من الصناعات النباتية في هذا السوق، بقدر ما يحزنك العدد القليل للحرفيين بالمحلات. فاليد العاملة بهذه الحرف آخذت في التراجع رغم وفرة الطلب على المنتوج. «أنا في هذا السوق منذ 30 سنة. علمت أولادي الحرفة موازاة مع دراستهم. وأنا بسني هذا لازلت أعمل وأنتج تحفا فنية من المنتوجات النباتية. لكن للأسف، اليوم قل عدد من يبحثون ويسعون وراء تعلم الصنعة».الحاج أحمد.
يقول يونس الخالدي الصانع التقليدي بتعاونية النصر للمنتوجات النباتية: «بالنسبة لمنتوجات الصناعة النباتية هنا في المغرب، بدأت تنقرض، لأنه ليس لدينا مراكز للتكوين كما هو الحال بالنسبة للحرف التقليدية الأخرى مثل الخشب والزليج والجبص. فالحرفيون ذوي الخبرة هم فقط من يتولون تعليم أبنائهم وأحفادهم. ومن ليس له أبناء يبيع مشغلها أو يكتريه ومن يأخذ المشغل يغير توجهه الحرفي. وبالتالي تتناقص يوما بعد يوم أعداد الحرفيين في الميدان. فللأسف بفقداننا لمراكز للتكوين، فقدنا مبدأ المنافسة وبالتالي تتلاشي الحرفة».
وهذه المنافسة تكون على مستوى المنتوج في حد ذاته. فالمغرب يستورد المنتوج من الصين وتركيا ليباع هنا بأثمنة زهيدة: «مثلا كرسي بالمادة الأساس واليد العاملة تكلفنا 1500 درهم، في حين أن المستَوْرد من الصين وبجودة عالية يباع بنصف الثمن. السر هو أن الصين لديها المادة الأساس بكثرة بينما نحن نستوردها من عندهم. كما أن لدينا مُوَرِّد واحد في المغرب للمواد الأولية يوجد بمدينة فاس. لذلك نطلب من الدولة أن تساعدنا بدعم تكلفة المادة الأساس.» يعلق يونس الخالدي. نفس الأمريؤكده مصطفى الشامخ: «ما يُصنع بالمادة الأولية المحلية، يكون ثمنه في متناول الجميع. فمثلا المصابيح لا يتعدى ثمنها 200 درهما. بينما ما يعتمد على المادة الأساس المستوردة، فيكون ثمنه أكثر من ذلك لأن المادة الأساس في الأصل تباع لنا بثمن باهض. مثل الروطان الذي يصل ثمن الكيلو غرام الواحد منهإلى 250 درهما وعندما نصنع مصباحا من هذه المادة قد يتراوح ثمنه ما بين 800و 1200 درهم حسب الحجم.»
الافاق والاستمرارية
خلال حديثنا مع الحاج الخالدي أخبرنا أنه مثل المغرب بمعرض للصناعة التقليدية ببرلين بألمانيا لثلاث سنوات: «عندما كنت أشارك في المعارض كنت أصنع ثلاث نسخ من الشكل الواحد. أعرض المادة الأولية وبداية العمل والعمل في منتصفه والمنتوج مكتملا وأقوم بورشات أمام الزوار وأطلعهم على العملية من الألف إلى الياء. لأنني حرفي ولست صاحب أموال أشتري لأعرض. هذا الأخير لا يستطيع فعل ذلك. في كل مرة كنت أبيع كل ما أذهب به من منتوجات. لكن للأسف، المعارض اليوم أصبحت فضاء للتجار وليس للصناع التقليديين. أي أن التاجر يشتري المنتوج الجاهز لأن لديه أموال ويعرضه بالمعارض ولو أنه لا يفقه شيئا في الحرفة. بينما يبقى الحرفي مجهولا. هذا هو الفرق بيننا. هم ليسوا حرفيين بل أصحاب أموال فقط».
وضمانا لاستمرارية الحرفة، أنشأت منذ 10 سنوات بالسوق ثلاث تعاونيات منها تعاونية النصر التي ينضوي تحت لواءها العديد من الحرفيين من بينهم الحاج الخالدي للحفاظ على المهارات. فالطلب كثير على المنتوجات النباتية عالية الجودة من الدوم والسمار ومن هم من فصيلتهم خصوصا من طرف الفنادق والمطاعم، لكن اليد العاملة تبقى قليلة. يقول يونس الخالدي: «أنا من خريجي معهد الفنون الجميلة. بعد حصولي على شهاداتي، قررت العمل في حرفة والدي أنا وإخوتي خريجي الجامعات والحاصلين على شواهد عليا كذلك. نعمل ونسوق لمنتوجاتنا كل حسب تخصصه. وبحكم تخصصي قمت بتطوير منتوجنا ليستمر ويدوم. وشاركت في أحد البرامج التلفزيونية التي تُعنى بالصناعة التقليدية وفزت بالمرتبة الأولى في صنف الصناعات النباتية. الآن سمعنا أن هذا السوق سيتم إعادة تهيئته. نتمنى أن يكون لكل منا مشغله الخاص حتى يتمكن من تعليم وتشغيل أكبر عدد من الحرفيين. فنحن نقوم بتعليم غير المتمدرسين في سن 12 أو 14 سنة ليتمكنوا من كسب العيشومنهم من اكترى محلا وأصبح حرفيا يصنع منتوجا ويسوقه. ونقوم بتعليم المتمدرسين في فصل الصيف كذلك. كل هذامن أجل الاستمرارية».
أنهينا جولتنا وغادرنا، تاركين السوق في نفس حالة السكون التعبدي التي وجدناها عند وصولنا. كل حرفي منعكف على قطعه الفنية، يشذب تارة القصب ويشكل تارة الدوم على إطار حديدي أو يشكل بين هذا وذاك ليقدم ما أبدعته أنامله للزبون وابتسامة الرضى تعلو محياه. فالعمل عند هؤلاء حرفيي الدوم والسمار والقصبأبلغ من الكَلِم.