إلغاء الدبلوم: كيف تدمر الامتحانات حياة ملايين الطلاب العرب؟
عبد العزيز الخطابي
في قلب النظام التعليمي العربي، يقف الدبلوم كوحش يلتهم أحلام الشباب ويُثقل كاهل العائلات، محولاً سنوات الدراسة إلى كابوس ينتهي بجروح نفسية عميقة وإسراف مالي لا يُحتمل. تخيل طفلاً في الخامسة عشرة من عمره، يُجبر على مواجهة امتحان يحدد مصيره، بينما يُنفق والداه آلاف الدولارات على دروس خصوصية ليبقى في سباق النجاح. هذا ليس سيناريو خيالي، بل واقع يعيشه ملايين الطلاب في دول مثل المغرب، الجزائر، تونس، ومصر. اليوم، يدعو هذا التقرير إلى إلغاء فوري لمرحلة الدبلوم، وإعادة صياغة النظام التعليمي نحو بساطة تعيد الكرامة لكل طفل، دون تمييز أو شهادات متراكمة تُقسم المجتمع. لماذا يجب أن يكون الدبلوم نهاية الطريق للكثيرين، بينما يمكن بناء نظام يجعل كل فرد أملاً ثميناً بحد ذاته؟
الدبلوم ليس مجرد ورقة شهادة؛ إنه قنبلة موقوتة تُفجر الصحة النفسية للأجيال الشابة. في الدول العربية، يُعتبر هذا الامتحان بوابة الدخول إلى الثانوية العامة، لكنه يحول حياة الطلاب إلى سلسلة من الليالي الساهرة والتوتر المستمر. تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023 يكشف أن أكثر من 30% من المراهقين في الدول النامية يعانون من اضطرابات القلق والاكتئاب المرتبطة بالامتحانات الوطنية، ويتصدر الدبلوم قائمة هذه الاختبارات المدمرة. في دراسة أجرتها جامعة محمد الخامس بالرباط عام 2022، أفاد 40% من الطلاب الذين رسبوا في الدبلوم بأعراض اكتئاب سريري، مع ارتفاع بنسبة 25% في حالات الانتحار بين المراهقين خلال موسم الامتحانات. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ إنها قصص حقيقية لطلبة يشعرون بالعجز التام، حيث يُعامل الفشل كحكم بالإعدام على أحلامهم. العائلات تشارك في هذا العذاب، إذ يُصبح النجاح رمزاً للشرف، مما يُضخم الضغط إلى حد يُهدد تماسك الأسرة بأكملها.
لكن الضرر لا يقتصر على النفس؛ إنه يمتد إلى الجيوب، حيث يُجبر النظام الترقوي من الدبلوم إلى البكالوريا العائلات على إسراف يُفقرها. في مصر والمغرب، يصل الإنفاق على الدروس الخصوصية والمراكز التأهيلية إلى 20% من الدخل المنزلي للطبقة المتوسطة، وفقاً لتقرير البنك الدولي لعام 2024. هذا الإنفاق ليس اختيارياً؛ إنه ضرورة للبقاء في السباق، حيث يُشترط النجاح في الدبلوم للوصول إلى الثانوية. دراسة اليونسكو في تونس عام 2023 تُظهر أن 65% من الآباء أنفقوا أكثر من 5000 دولار سنوياً على تحضير أبنائهم، غالباً ما يلجأون إلى الاقتراض أو التخلي عن احتياجات أساسية. النتيجة؟ فجوة اجتماعية أعمق، إذ ينجح أبناء الأثرياء بفضل الدعم المالي، بينما يُحرم الفقراء من فرص متساوية. هذا النظام لا يبني مستقبلاً؛ إنه يُعزز اللامساواة، محولاً التعليم إلى سلاح طبقي يُدمر الأحلام قبل أن تُولد.
أما الصناعات الربحية التي تتغذى على هذا الفوضى، فهي أكبر دليل على فشل النظام. من مراكز الدروس الخاصة إلى الكتب التحضيرية والتطبيقات المدفوعة، يُقدر حجم سوق التعليم الخصوصي في السعودية بمليارات الدولارات سنوياً، كما يُفيد تقرير غرفة التجارة السعودية لعام 2024. هذه الاحتكارات لا تهتم بالتعليم الحقيقي؛ إنها تستغل الخوف من الرسوب، محولة القلق العائلي إلى أرباح هائلة. النظام الترقوي، الذي يُقسم الشهادات إلى طبقات – مدارس ممتازة للنخبة مقابل عادية للكثرة، وجامعات نخبوية مقابل أخرى “بلا قيمة” – يُنتج مجتمعاً مقسماً لا يقيس الفرد بقيمته الذاتية، بل بدرجة امتحان. كل شخص في هذه الأمة مهم وثمين، وكل طفل هو أمل عائلته الوحيد؛ فلماذا نُصنع تميزاً زائفاً يُهدر الإمكانيات؟ دراسات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تُثبت أن الدول ذات التعليم الموحد، مثل كندا، تحقق توظيفاً أعلى وابتكاراً أكبر، لأنها تركز على المهارات لا الشهادات.
الحل واضح وبسيط: إلغاء الدبلوم فوراً، واستبدال النظام الهرمي بمرحلة ثانوية واحدة موحدة تليها جامعة واحدة دون تصنيفات. هذا لا يعني التخلي عن الجودة، بل إزالة الجدران الاجتماعية التي تُقسم الطلاب. الثانوية ستكون شاملة، تركز على القراءة، الحساب، والتفكير النقدي، مع برامج اختيارية تُشجع الإبداع بدلاً من الحفظ. أما الجامعة، فستكون مفتوحة للجميع بعد الثانوية، مدعومة ببرامج للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة. أمثلة ناجحة تُلهمنا: فنلندا ألغت الامتحانات المبكرة منذ عقود، مما رفع سعادة طلابها وتصنيفها العالمي. في سنغافورة، أدى النظام الموحد إلى قفزة في الابتكار، بينما في البرازيل، خفض إصلاح 2017 معدلات الترك المدرسي بنسبة 15%. في السياق العربي، حيث يصل معدل الرسوب في الدبلوم إلى 50% في الجزائر، يمكن البدء بتجارب تجريبية في مناطق محددة، مع إصلاحات تشمل تقييمات مستمرة داخل المدرسة، دعماً نفسياً مجانياً، وتدريباً للمعلمين على التركيز بالإبداع. حملات توعية مجتمعية ستغير النظرة، محولة التعليم من سباق إلى رحلة مشتركة.
إذا لم نُلغِ الدبلوم الآن، فمتى؟ هذا الإصلاح ليس رفاهية؛ إنه ضرورة لإنقاذ أجيال من الجروح النفسية والإسراف، وبناء مجتمع يُقدر كل فرد كثمين بحد ذاته. القادة التعليميون في الدول العربية مدعوون للعمل الجريء، مستلهمين النجاحات العالمية، ليصبح التعليم جسر تقدم لا سجن ضغوط. الوقت ينفذ، والأطفال ينتظرون.