الاحتراق كشرطٍ للخلق: في الحاجة إلى الألم

فدوى كدور (+)
في عصرٍ يتقن صناعة الراحة، صار الألم تهمة. نُطالَب أن نبدو سعداء، أن نُخفي هشاشتنا، أن نُقنع أنفسنا بأن السكينة غاية الحياة. غير أن الحقيقة التي تُخفيها مظاهر الرفاه هي أن الاحتراق هو أصل الخلق، وأن كل إبداعٍ حقيقي وُلد من رماد تجربةٍ إنسانيةٍ مؤلمة.
فمن أين يأتي الشعر إن لم يكن من جرحٍ مفتوح؟
وكيف تُرسم لوحة خالدة إن لم تختبر الروح نيرانها؟
الإبداع لا يسكن القلوب المطمئنة، بل ينمو في المساحات المقلقة التي تهزّ الداخل وتوقظ السؤال.
لقد علّمنا العصر الحديث كيف نهرب من الألم بدل أن نفهمه، وكيف نخفي الوجع تحت ابتساماتٍ رقميةٍ زائفة. نعيش إشباعًا متواصلاً لكل رغبة، لكننا نفتقد حرارة المعنى. حتى الحزن صار يُروَّج كمنتجٍ عاطفيٍ فاقدٍ للعمق، تُستهلك دموعه كما تُستهلك الأغاني السريعة.
غير أن الاحتراق الذي أقصده ليس انكسارًا، بل تحوّلًا وجوديًا. هو تلك اللحظة التي يتماهى فيها الإنسان مع ألمه، فينقلب الوجع نورًا، وينبع من الحطام معنى جديد. فكما لا يولد الذهب إلا في النار، لا يولد الإبداع إلا من التجربة القصوى للحياة.
في التراث الصوفي، كان الحُب نارًا تطهّر الروح لتبلغ الصفاء. وفي الفلسفة الوجودية، الألم طريق الوعي. أما في الفن، فكل عملٍ خالدٍ هو رمادُ تجربةٍ اشتعلت ثم أضاءت. لهذا لا يحيا المبدع ليحترق، بل يحترق ليحيا أكثر.
ما يهدد الثقافة اليوم ليس قلة الموهبة، بل غياب الصدق الداخلي. نكتب بلا وجع، نرسم بلا عطش، ونفكر بلا قلق. أصبح الجمال شكلاً بلا عمق، والدهشة إيقاعًا بلا روح. لقد فقدنا حرارة السؤال التي كانت تجعل من النص حدثًا وجوديًا لا مجرد محتوى عابر.
إن الاحتراق الذي أدعو إليه ليس تمجيدًا للألم، بل دعوة للصدق مع الذات. أن نكفّ عن التجمّل، وأن نغوص في أعماقنا دون خوفٍ من انكساراتنا. فكل جرحٍ صادق هو بداية وعي، وكل احتراقٍ حقيقي هو ميلاد جديد.
الإبداع لا ينبت في أرضٍ آمنة، بل في تربةٍ مهدّدة بالزلازل. المبدع الحقيقي لا يكتفي بأن يعرف، بل يريد أن يشعر، أن يُجرّب النار ليعرف طعم النور.
الاحتراق إذًا ليس لعنة، بل شرطٌ للخلق. لأنه من رماد التجربة يولد المعنى، ومن الألم ينهض الفن، ومن التهشم تنبع اللغة التي تمسّ القلب قبل العقل.
(+) شاعرة وفنانة تشكيلية