ليلى خزيمة
في 11 من ربيع الأول لكل سنة، تزدان شوارع مدينة سلا بألوان زاهية وتمتلئ بالفرحة والابتهاج في موكب الشموع أو كما يسميه أهل المدينة “دور الشمع” تخليدا واحتفالا بذكرى المولد النبوي الشريف.ينظم هذا الاحتفال الديني والروحي تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. وهو تقليد مغربي أصيل يجسد تشبث المغاربة بأصالتهم وتراثهم الديني والثقافي وتقاليدهم العريقة والمتجذرة.
احتفال بسيد الأنام وتأريخ للنصر
نظمتاحتفالات موكب الشموع أول مرة في عهد الملك السعدي أحمد المنصور الذهبي الذي أعجب باستعراض للشموع شاهده في إسطنبول خلال زيارته لها قبل توليه الحكم رفقة أخيه عبد المالك السعدي. ولشدة انبهاره بالعرض، قطع أحمد المنصور على نفسه عهدا بإقامة مثل ذلك العراض أو أعظم منه في حال توليه العرش. لم يطل الانتظار، فبعد تربعه على العرش، عقب انتصار المغرب في معركة وادي المخازن،استدعى المنصور الذهبي صناع فاس ومراكش وسلا لصنع هياكل شمعية للاحتفال، وأقام أول استعراض للشموع سنة 986 هـجرية الموافق ل 1578 ميلادية بمدينة سلا. وبحكم أن القطب عبد الله بن حسون شارك في هذا الانتصار، كلفه السلطان آنذاك برئاسة الموكب، ليصير منذ ذاك الحين آل عبد الله بن حسون أمناء على هذا الشكل الاحتفالي بعيد سيد الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. يقول منظموا موكب الشموع: «موكب الشموع من السنن الجميلة والحميدة التي تسنها مدينة سلا والشرفاء الحسونيون، والتي تمتد جدورها إلى سنة 1578… الموسم يستهل بعرض شموع يصل وزنها إلى 50 كلغ، باعتبارها شموع تختلف عن الشموع العادية مصنوعة من الخشب السميك ومغلفة بالورق الأبيض ومزينة بأوراق الزهر، حيث أن شكلها يهدف من خلاله إلى الحفاظ على التراث الاسلامي، والهوية والعمارة الإسلامية».
موكب الشموع بهجة للناظرين وسلام للروح
تحتل الشموع في هذه الاحتفالات مكانة خاصة. شموع تختلف عن التي نعرفها ونستخدمها عادة، فهي متنوعة الألوان والأحجام، يصل وزنها إلى 50 كيلوغرام كما سبق الذكر. تصنع وتسبك هذه الشموع على هياكل من خشب، فتأخذ أشكال قبب أو صوامع مساجد أو ما شابه مكسوة بالورق الأبيض ومزينة بأزهار الشمع ذات الألوان المتنوعة من أبيض وأحمر وأخضر وأصفر في شكل هندسي شبيه بشهد النحل. زخارفها مستوحاة من الفن الإسلامي البديع. تطرز وتزخرف هذه الهياكل بالشموع وتكتب عليها عبارات دينية مثل: “الله” و”بركة محمد” وغيرها. تحمل الشموع في موكب بهيج بعد صلاة عصر يوم 11 من ربيع الأول أي اليوم الذي يسبق يوم ذكرى المولد النبوي الشريف، انطلاقا من السوق الكبير قرب دار صانع الشموع في جو من الموسيقى والغناء والاحتفال وقرع للطبول.يجتمع الموكب قرب مقر صانع الشموع ويكون في مقدمته نقيب الزاوية الحسونية ثم “الطبجية” وهم مقدمة الموكب الذين يحملون الشموع بزيهم التقليدي، يتبعهم العازفون. يطوف كل هؤلاء أزقة مدينة سلا حاملين الشموع، تصحبهم الزغاريد وإيقاعات الفرق الصوفية لكناوة، عيساوة، احمادشة، والفرق الفولكلورية فيلالة، عبيدات الرمى، أحيدوس، أحواش والطقطوقة الجبلية.
ويجوب الموكب أهم شوارع المدينة مرورا بساحة الشهداء بباب بوحاجة حيث المنصة الرسمية، ليواصل طريقه إلى دار الشرفاء لتنظيم حفل تقليدي يلقى إقبالا كبيرا، ولاسيما من لدن النساء والأطفال وإقامةمأدبة عشاء يدعى لها جميع المشاركين، ليلتحق الجميع بزاوية مولاي عبد الله بن حسون.يليه، ليلا، حفل تقليدي أصيل يسمى “رقصة الشمعة”، ويكون على نغمات الموسيقى الأندلسية ثم تليه عملية إيقاد الشموع على نغمات السماعوالأمداح النبوية. وتستمر الاحتفالات على هذا النحو أسبوعا كاملا.
تشارك في هذا الحفل البهيج فرق موسيقية تراثية عدة من بينها فرق عيساوةوكناوة وعبيدات الرمى والدقة المراكشية والطقطوقة الجبلية وفي بعض الأحيان تشارك فرق بعروض أفريقية يؤديها مهاجرون من جنوب الصحراء عبر رقصات متنوعة. إلا أن هذا التنوع لا يلغي التقليد والصبغة الدينية والموروث التاريخي لموكب الشموع كما يقول عبد المجيد الحسونينقيب الشرفاء الحسونيين: «يشارك الناس في دور الشمع ليس لأنه كرنفالا وإنما محبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم». فللموكب وللطريقة الحسونية أدبيات ترتكز على التربية الروحية التي تعتبر الجمال مدخلا إلى ارتقاء الروح والذوق. كما أن الهدف من الاحتفال هو اكتشاف القيم والأخلاق المحمدية وأن الإسلام وسطي تنويري ودين محبة وإخاء ووئام.
تتنوع مظاهر الاحتفال في موسم الشموع بسلا ما بين المواكب الدينية ومجالس العلم، وتدارس القرآن، وقراءة الأمداح النبوية، وسرد السيرة النبوية الشريفة وغيرها من الأنشطة الدينية. فيفسح المجال للعلم والاستفادة وللفرح والاحتفال.
القطب مولاي عبد الله بن حسون
«زاوية الشريف ذي القدر المنيف مولاي عبد الله بن حسون تاج الشرفاء قطب العارفين وقدوة السالكين». هذا ما كتب على باب زاوية سيدي عبد الله بن أحمد بن الحسن الخالدي السلاسي السلاوي الشهير بابن حسون. ولد هذا الأخير بمدينة فاس سنة 1515 وتوفي بمدينة سلا 1604. يعتبر الشيخ بن حسون سلطان المدينة والأولياء بسلا ويقترن اسمه بموكب الشموع الذي دأبت الزاوية الحسونية على تنظيمه احتفاء بعيد المولد النبوي الشريف.
يمتد النسب الصوفي له إلى الإمام الجزولي. فقد أخذ عن الشيخ عبد الله الهبطي الذي أخذ مباشرة عن الشيخ الغزواني “مول القصور”.ويرى الناصري في كتابهالاستقصا، أن عبد الله بن حسون أخذ أيضا عن الإمام الغزواني “مول القصور” الممتد نسبه العلمي والصوفي إلى الشيخ الجزولي عبر الإمام التباع.
ويعد عبد الله ابن حسون أحد الأعلام البارزين في عصره علما وسلوكا وأدبا. فقد جمع بين العلوم الفقهية والصوفية والعقلية حتى أصبح قطبا من أقطاب الطريقة الشاذلية. في كتاب السياسة والمجتمع في العصر السعدييقول إبراهيم حركات أن ابن حسون تتلمذ بجامع القرويين على يد عبد الواحد الونشريسي، وعبد الرحمن بن إبراهيم الدكالي، وأبي الحسن علي بن هارون، وعبد الوهاب الزقاق وأحمد الحباك. لينتقل بعدها عبد الله بن حسون إلى معهد المواهب بالجبل الأشهب بمنطقة الهبط قرب الشاون، وهناك أخذ الطريقة الجزولية عن الشيخ عبد الله الهبطي وفق نفس المصدر.
وكان الولي الصالح والفقيه والقطب مولاي عبد الله بن حسون معروف الجلالة عند المولى أحمد المنصور الذهبي الذي أهداه البقعة التي أنشأ بها زاويته ودار سكناه. فقد حل بمدينة سلا التي كانت مهددة بالاحتلال البرتغالي ليرابط بها ويدرس بجامعها الأعظم ويعمل على نشر الطريقة الشاذلية. عبأ الولي الصالح ساكنتها من أجل الدفاع عنها وعن حوزة الوطن. فصار له بهذه المدينة علماء صوفية حملوا لواءه وأذاعوا فضله ومنهج إصلاحه. وحرص الفقيه عبد الله بن حسون على مواصلة الاحتفال بهذه الذكرى النبوية الطاهرة، حيث كان يرأس هذا الاحتفال، وكذا الاحتفالات التي كانت تقام بزاويته طيلة الأسبوع تخليدا لذكرى الرسول الكريم. فكان يأتي لحضور موسمه بزاويته من حواضر البلاد وبواديها علماء وأولياء وأهل السماع وأرباب الزوايا كالشرقاويةوالفاسيةوالدلائية والناصرية. بعد وفاته، تشبث أهل داره وأتباعه بهذا التقليد الروحي، واستمروا في الاحتفال بذكرة مولد خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته الكرام بموكب الشموع.
عائلات موكب الشموع
توارثت بعض العائلات السلاوية العريقة تطريز هودج الشموع من جيل إلى جيل لأكثر من خمسة قرون. يُحتفظ بهياكل الموكب طوال السنة في ضريح مولاي عبد الله بن حسون ويتم سحبها منه قبل شهر من ذكرى المولد النبوي الشريف، لترسل إلى منزل صانع الشموع لتطريزها وزخرفتها. منذ البداية اختصت بهذا العمل عائلات عدةكعائلة أوبيا التي ظهرت منذ 450 سنة وعائلة المير وعائلة الحسيني وعائلة المرنيسي وعائلة العياشي وبعدهم عائلة حركات وعائلة شقرون وعائلة بلكبير. أخدت هذه الأخيرة صنعة الشموع عن الأم المرحومة الحاجة شقرونة، حيث يتم صنع الشموع انطلاقا من شمع خاص يأتي من “الشهدة”. تتم تصفيته وخلطه بالألوان وبعد تحضيره وتفريغه، يُسلم للمعلم الذي يصنع منه الشكل الذي يتوافق وطبيعة الموكب والموسم.
أما هياكل الشموع، فكانت قديماأثقل وكان يصل طولها إلى 7 أمتار، وتلصق بها الشموع بما يسمى”التفركة”، وهي عصى متفرعة في المقدمة.وكما أن هناك عائلات لها صيت في صنع وصياغة شموع الموكب، هنالك عائلات وأسر معروفة بإتقانها عملية حمل هياكل الشموع والرقص بها مثل عائلة أولاد بنزايرة، وعائلة الحصينيين، وعائلة بنزوينة، وعائلة السمامرة، وعائلة الحريضي، وعائلة أولاد الحيمر. فلكل صنعته التي يتفنن في اتقان أبجدياتها.
يقول عميد الشرفاء الحسونيين عبد المجيد الحسوني أن: «هذا الحدث يعكس الاهتمام الخاص الذي يوليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بالتراث المادي واللامادي للمملكة»، وأن: «الهدف من هذه الاحتفالية هو التعريف بالقيم والمبادئ الإسلامية، وتشجيع جيل الشباب على الوعي بالتقاليد الأصيلة للمغرب».