لقد شهدت سنة 2011 انطلاق حراك شعبي عارم بالعالم العربي، مع تفاوت في درجات العنف والعنف المضاد بين القوى السياسية والمجتمعية المتصارعة. بحيث تسجل هذه السنة، كسنة فارقة، في التاريخ المعاصر للعالم العربي، في الاندفاع الشعبي الواسع لدك مواقع الاستبداد والفساد، ومن أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
انتفاضات شعبية عارمة، لم تقو الأنظمة الحاكمة، بجبروتها، على مواجهتها في تونس ومصر وليبيا واليمن.. فانهارت رؤوس النظام في هذه البلدان كقصور من ورق، دون أن يعني ذلك في شيء أن الطريق أصبحت معبدة نحو الديمقراطية وبناء دولة الحريات والمؤسسات.
فبعد فشل ثورات التحرر الوطني في منتصف القرن الماضي، في استكمال مهامها ببناء الدولة العصرية الديمقراطية وإرساء أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبعد ترهل الأنظمة “القومية” و”الاشتراكية” بارتباط مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، وعولمة الليبرالية، عاشت شعوب المنطقة عقودا تحت حكم أنظمة استبدادية، تكتوي بالتداعيات العالمية لليبرالية المتوحشة، وبتفشي الريع الاقتصادي وهيمنة لوبيات الفساد في مختلف مؤسسات الدولة، مع ما صاحب ذلك من قهر اجتماعي وتوسع لدائرة الفقر والبؤس وتدني على المستوى الثقافي. وتهيكلت بذلك عوائق التنمية وأظملت آفاق الخروج من دائرة التخلف.
في ظل هذه الأوضاع، وفي ظل تراكم الإحباطات وخيبات الأمل الشعبية، أصبحت أي شرارة مؤهلة لإشعال فتيل الاحتجاجات والانتفاضات. وشهدت البلاد العربية الكثير منها في العقود الأخيرة، ووجهت بالنار والحديد وبأشد أشكال القمع. ولم يتوقع أحد قبل مطلع العقد الثاني من هذا القرن أن زلزالا اجتماعيا وسياسيا سيهز أركان أعتى الأنظمة الاستبدادية العربية. وإذا كان هذا يؤكد شيئا، فإنه يؤكد أن الاستقرار السياسي في ظل انسداد آفاق الخروج من دائرة البؤس الاجتماعي ، والانتقال إلى مجتمع العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، يظل استقرارا واهيا وخادعا. فما طبع الانتفاضات الشعبية لما سمي بـ “الربيع العربي”، أنها كانت ، رغم تنوع شراراتها الأولى، انتفاضات شاركت فيها أوسع فئات المجتمع، باندفاع لم يشهد العالم العربي مثيلا لها من قبل. مما يعبر عن ثقل واتساع القهر السياسي والاجتماعي الذي عانت منه هذه الشعوب.
والملاحظ أن الغرب، خاصة الولايات المتحدة والقوى الأساسية في الاتحاد الأوربي، لم يقف بعيدا عن هذا الحراك العربي، بل انخرط في مواكبته والتأثير على مساراته بشكل مباشر كما لم يفعله قط من ذي قبل، متبنيا بشكل شبه كامل ، وبتصريف متدرج ، لمطالب الحراك العربي. فكان ثقله حاضرا وعلنيا، بل ومسلحا مباشرا كما كان الشأن بالنسبة لليبيا.
والواقع أنه لم يعد خافيا، خاصة منذ العمليات الإرهابية للحادي عشر من شتنبر، أن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو يعلن حربه العالمية ضد الإرهاب، شرع بشكل منهجي في السعي إلى احتواء الحركات” الإسلامية المعتدلة” لعزل الحركات الإرهابية وضمان عدم المساس بأمنه ومصالحة الاستراتيجية بالعالم العربي والإسلامي. ومع انطلاق الحراك العربي الشعبي، تكشفت بوضوح العلاقات التي تم نسجها مع هذه الحركات في العالم العربي والإسلامي، وبتنسيق مع بعض دول الخليج.
مع انهيار رؤوس النظام ببلدان “الربيع العربي”، بدأ الاتجاه إلى وضع الدساتير أو تجديدها، لتستجيب للمطالب الشعبية، وتنظيم انتخابات عامة طبقا لقواعد جديدة تضمن التعددية السياسية والشفافية وحرية الاختيار. برز تقدم القوى المحافظة لاحتلال فضاء واسع في الساحة السياسية ، واحتلالها لمواقع المبادرة في هندسة البناءات السياسية الجديدة . وحققت فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية بكل من تونس ومصر، ونفس النفوذ يعبر عن نفسه بكل من ليبيا واليمن مع اعتبار خصوصيتهما السياسية والمجتمعية.
في ذات الوقت تراجعت القيادات الشبابية الديمقراطية الحداثية التي تزعمت الحراك الشعبي في المنطلق، إلى الخلف، ولم تعد قادرة على تعبئة وتأطير الشارع. بينما أخذت القوى المحافظة والأشد محافظة موقع المبادرة في التعبئة وبقدرات كبيرة، بشكل منفرد، وحول شعاراتها ومطالبها الخاصة.
وإذا كانت القوى السياسية الديمقراطية الحداثية، التقدمية والليبرالية ، تحاول صد هذا الزحف على مواقع القرار، فإن حجم تنظيماتها وضعف نفوذها وسط المجتمع لايسمح لها بالمواجهة وقلب ميزان القوى فوريا. مما يجعل القوى المحافظة ، التي تعززت بخروج تياراتها المتشددة إلى العمل السياسي العلني، قادرة على الانقضاض على المكاسب الديمقراطية للحراك العربي لاستغلالها وتكييفها لخدمة مشاريعها السياسية المحافظة والأشد محافظة، واستغلال الآليات الديمقراطية لإرساء أنظمة لاديمقراطية في أبعادها المجتمعية .
لقد استفادت هذه القوى في اتجاهها إلى الهيمنة على الساحة السياسية في البلدان العربية من عوامل متعددة :
غياب قوى سياسية ديمقراطية حداثية مهيكلة ومؤثرة في المجتمع، والمتواجد منها، متهم بعضها بالمشاركة في لعبة الديمقراطية الشكلية للأنظمة السابقة، خاصة في تونس ومصر.
استثمارها لرصيدها في معارضة الأنظمة السابقة، ونجاحها في التغلغل إلى مختلف الأوساط الشعبية، بخطابها السياسي الديني والأخلاقي والشعبوي مستغلة حالة التخلف الثقافي، وإرساء تنظيمات سياسية واجتماعية فاعلة بالقرب من فئات واسعة من المواطنين.
الدعم السياسي والمادي الذي تتلقاه من الغرب، بطريقة مباشرة أو عبر جسور إقليمية بالشرق الأوسط. الدعم الذي يتوخى منه الغرب الحفاظ على مصالحه الأمنية والإستراتيجية، والحفاظ على التوازنات الإقليمية التي يرعاها بالمنطقة ، وفي صلبها وجود وأمن إسرائيل.
و أضحى واضحا، أن هناك مد لقوى تيارات الإسلام السياسي بالعالم العربي والإسلامي، وزحف قادم لتياراتها المتشددة في العديد من البلدان . مد يلوح معه في الأفق انتقال الصراع، من صراع سياسي ضد الأنظمة الاستبدادية من أجل الديمقراطية، إلى صراع سياسي مجتمعي بين القوى الديمقراطية الحداثية، وبين القوى المحافظة الأكثر تشددا، والتي لا تخفي سعيها إلى تصفية المكتسبات المجتمعية الديمقراطية الحداثية، وإرساء أنظمة مجتمعية تقطع مع القيم الكونية المعاصرة للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. وهو صراع يتداخل فيه السياسي والاجتماعي والديني والثقافي والأخلاقي. مما يرخي على الصراع بالكثير من الغموض والالتباس.
وبذلك يدخل العالم العربي والإسلامي إجمالا، مرحلة سياسية تاريخية، لاينحصر فيها الصراع على صراع سياسي حول السلطة فحسب، بل صراع حول قيم مجتمعية . مما ينذر بأنه سيكون صراعا طويل المدى، يلقي على عاتق القوى الديمقراطية الحداثية في المجتمعات العربية والإسلامية مسؤوليات كبرى ومهام تاريخية.
إن الثورة من أجل نظام ديمقراطي قد تتحول، ظرفيا ، إلى الانقلاب إلى ثورة مضادة لقيم الديمقراطية، وبشعارات وآليات شبه ديمقراطية.
وفي ظل تعقيدات هذه الظروف السياسية، الوضع مرشح ببلدان “الربيع العربي”، لانزلاقات تهدد الأمن والاستقرار. اللااستقرار الذي يغذي النعرات الطائفية، والحركات الانفصالية. مما يزيد تعقيدات الأوضاع السياسية ، تعقيدات إضافية.
( من تقريرالمؤتمر الوطني الرابع لجبهة القوى الديمقراطية -27/28/29 أبريل 2012 )