في معنى الدين والتدين: الخطاب الديني واحد، لكن المتدينين أفسدوا الدين
تأملات في رسالات الله الثلاث…
يوسف زيدان
يتفرق الناسُ إلى شيع ومذاهب يدَّعى كل منها الحقيقة المطلقة لنفسه، ويصير كل قومٍ بما لديهم فرحين .
تلقَّى موسى التوراة من سيناء، وسلَّمها ليهوشع بن نون الذى سلَّمها للشيوخ الذين سلَّموها للأنبياء الذين سلَّموها لرجال الكنيسة الكبرى، وكان المأثورُ عنهم :
«تريثوا فى الحكم، ربُّوا طلاباً كثيرين، اجعلوا التوراة سياجاً.. العالمُ قائمٌ على ثلاثة أمور: التوراة، والعبادة فى الهيكل، والمعروف.. ليكن بيتك مفتوحاً على الرحب، وليكن الفقراء كأبناء بيتك، ولا تكثر الحديث مع المرأة.. اجعلْ لك أستاذاً، واكتسبْ لنفسك صديقاً، وليكنْ ظنك فى الناس حسناً.. ابتعدْ عن جار السوء، ولا تصاحب الشرير ولا تيأس من العدالة.
أَحِبَّ العمل، واكره السيادة، وابتعدْ عن السلطة.. كنْ من تلاميذ هارون، محباً للسلام، وساعياً وراء السلام، ومحباً للناس مرغِّباً إياهم فى الشريعة.. اجعلْ لتوراتك وقتاً محدَّداً، تكلَّمْ قليلاً واعملْ كثيراً، واستقبلْ أىَّ إنسان ببشاشة.. لا تنفصل عن الجماعة، ولا تثق بنفسك إلى يوم وفاتك، ولا تحكم على صاحبك حتى تكون بمكانه.. لتكن كرامة صاحبك عزيزة عليك مثل كرامتك، ولا تكن سريع الغضب، وتُبْ عن خطاياك قبل وفاتك.. مَنْ يدنِّس المقدسات، ويستخف بالأعياد، ويُخجِل صاحبه على الملأ، وينقض عهد أبناء إبراهيم عليه السلام؛ فليس له نصيبٌ فى الآخرة.
الضحك والطيش يقودان للزنى.. عندما تصلِّى لا تجعل صلاتك جامدة، وإنما اجعلها رحمةً وتوسلاتٍ لله تبارك لأنه رؤوف رحيم، كُن متواضعاً، لأن نهاية الإنسان إلى الدود.. المولودون مصيرهم الموت، والموتى مصيرهم البعث، والأحياء مصيرهم للحساب، ليعرف الإنسان أنه (تعالى) الإله الخالق، وهو البارئ، المدرك، القاضى، الشاهد، المدعى، وهو الذى سوف يحاسب. (تبارك وتعالى) ليس عنده ظلم، ولا نسيان، ولا محاباة، ولا رشوة، لأن الكل له. واعلمْ أن الكل للحساب، وأنك رغماً عنك خُلقت، ورغماً عنك وُلدت، ورغماً عنك تحيا، ورغماً عنك تموت، ورغماً عنك سوف تُحاسب أمام ملك الملوك، القدوس، تبارك وتعالى».
تلك هى المبادئ والوصايا والحكم التى صاغها حاخامات اليهود الأوائل، وجمعها المتأخرون منهم لتكون المبحث التاسع من القسم «الرابع» من المشنا (المثناة) التى هى أساس التلمود اليهودى، وهو القسم المعروف بسفر (نزيقين) وهى كلمة عبرية، تعنى بالعربية: الأضرار (والتعويضات الواجبة نتيجةً للأضرار).
ولو أعدنا قراءة العبارات السابقة، مع تعديلٍ بسيطٍ لا يتعدَّى وضع كلمة «الإنجيل» بدلاً من كلمة «التوراة» الواردة بين السطور، لصارت هذه الوصايا والحكم مناسبة لأن تكون تراثاً مسيحياً، لا يهودياً. وإذا وضعنا كلمة «القرآن» بدلاً من «التوراة» أو «الإنجيل» لصارت هذه النصوص كأنها تراث إسلامى تخفق له قلوب المؤمنين.
إذن، فالخطاب الدينى حين يتعلَّق بروح النص الأصلى، فى اليهودية والمسيحية والإسلام، لا يكون من الممكن التفرقة بين هذه الديانات الثلاث عدداً، الواحدة جوهراً.. ولكن الخطاب الدينى، فى أحيان كثيرة يتعلَّق بهموم ومطالب دنيوية، فيخرج بذلك من حيِّز (الدين) إلى نطاق (التدين) وينسى ملكوت السماء ويطلب المجد الدنيوى وبريق الصولجان الذهبى .
ثم يتفرق الناسُ إلى شيعٍ ومذاهب يدَّعى كل منها الحقيقة المطلقة لنفسه، فقط، ويسلب الآخرين اليقين.. ويصير كل قومٍ بما لديهم فرحين، مدافعين عن الحق الذى يعتقدون، وباسم هذا الحق يقتلون، وبدعوى تمثيل الله فى الأرض، ينتهكون عِرْضَ وأرضَ عباد الله فى الأرض.. فينعكس بالتدين ما أراده الدين.
من صفحة الكاتب والمفكر يوسف زيدان
