خطبة الجمعة : توحيد أم اختلال؟
عبد النبي الشراط
قبل الخوض في موضوع “تقنين صلاة الجمعة بالمغرب” يجدر بنا إلقاء نظرة مركزة عن تاريخ هذه الشعيرة الدينية، التي يسعى المسلم ويحرص على أدائها مرة في الأسبوع بشكل منتظم وبشكل طوعي، لدرجة أن ملايين المسلمين يتسابقون لأدائها من تلقاء أنفسهم، كما أن الجهات التي تنظمها لا تبذل مجهودا يذكر من ناحية نشر إعلانات أو وصلات تلفزيونية تدعو الناس وتحثهم على أداء هذه الصلاة الأسبوعية، فترى الناس يسرعون إليها باكرين للحصول على مقعد أرضي ويجلسون طوعا بالساعات أحيانا في انتظار صعود الخطيب على المنبر ليلقي عليهم الخطبة، فيستمعون إليه بخشوع ويؤدون الصلاة خلفه ثم ينصرفون طوعا أيضا، دون أن تحتاج أي جهة لتنظيم مغادرتهم، فهم يدخلون المسجد طوعا ويغادرونه طوعا.
تاريخ “صلاة الجمعة”
أغلبية المؤرخين ومعهم الفقهاء المسلمون يقرون أن صلاة الجمعة فرضت على المسلمين بعد هجرة النبي محمد من مكة إلى يثرب (المدينة) لكن هناك مصادر تؤكد أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، وأقيمت لأول مرة في مسجد قباء، لكن المسلمين كانوا مضطهدين من طرف المعارضين لدعوة النبي محمد، ولذلك كان يصعب عليهم إقامتها بشكل علني، ومع مغادرة الصحابة مكة والاستقرار بيثرب، صاروا يقيمون صلاة الجمعة، وقد خطب النبي في قومه حوالي عشر سنين، لكن المشكل الذي يواجه المؤرخين والففهاء على حد سوا، هو أنه لم يتم تدوين أي خطبة من خطب النبي التي قد تتعدى خمسة آلاف خطبة، إذ لا يوجد في كتب الفقه الإسلامي والسيرة النبوية وكتب الحديث الستة (الصحاح عند أهل السنة) أي خطبة مدونة ومنقولة عن الرسول محمد، بينما تضم كتب الحديث (صحيح البخاري، صحيح مسلم، وصحاح أخرى) كل تحركات وأقوال وأفعال الرسول، وأحاديث كثيرة نسبت إليه، حتى في حياته الشخصية مع أزواجه، نقلت الكثير من الممارسات والأقوال، (ليس مكانها هنا).

وكل ما يستدل به الفقهاء عن مشروعية فريضة الجمعة الآية رقم 9، من سورة الجمعة ونصها “ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع …” ففي التفسير الميسر نقرأ هذه التوضيحات:
(ياأيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا نادى المؤذن للصلاة في يوم الجمعة فامضوا إلى سماع الخطبة وأداء الصلاة، واتركوا البيع، وكذلك الشراء ….) لكن الآية تحدثت عن ترك التجارة فقط والسعي لذكر الله ولم تتحدث الآية لا عن خطبة ولا أي شيء آخر، لكننا نقرأ أيضا في “المختصر في التفسير” نفس المعنى تقريبا مع اختلاف في بعض الألفاظ (ياأيها الذين آمنوا بالله وعملوا بما شرعه لهم، إذا نادى المؤذن للصلاة من يوم الجمعة بعد صعود الخطيب على المنبر، فاسعوا إلى المساجد لحضور الخطبة والصلاة، واتركوا البيع، لئلا يشغلكم عن الطاعة….) وفي تفسير الجلالين نقرأ: (… بمعنى فامضوا إلى ذكر الله، للصلاة واتركوا “عقد” البيع … أنه خير لكم).
ويتوسع الإمام المفسر البغوي فيربط آية صلاة الجمعة بآيات أخرى مشابهة، ويستدل بأقوال الأولين عن ذلك.
تطور وتسييس
لقد تساءلنا في بداية المقال عن خطب النبي محمد ولماذا لم تُدون كما تم تدوين الحديث، لنأتي إلى عهد الخلفاء الراشدين الذين لا شك اتبعوا نهج النبي في كل شيء، وتم تدوين كلامهم وأقوالهم وأفعالهم وممارساتهم وحروبهم وفتوحاتهم، لكن لا توجد خطبة جمعة مدونة بشكل مفصل إلا بعض الكلمات أخذت عن أبو بكر وعمر وصحابة آخرين نسبت إليهم كمواعظ لهم في خطبة الجمعة، لكن خطبة واحدة كاملة لم تنقل.
لكننا نجد أن خطبة الجمعة تم إرساء قواعدها وشروطها وتفاصيلها وأسبابها بالكامل في عهد الحكم الأموي حيث صارت خطبة الجمعة مفروضة فرضا، مع إطالة زمنها، وكانت صلاة الجمعة تؤدى بالإكراه لسببين:
الأول: كان يُلعن فيها صهر النبي الإمام علي بن أبي طالب من قبل الخطباء عامة، لدرجة أن أحد شيوخ الشام وكان طاعنا في السن تساءل ذات يوم عن الجرائم التي ارتكبها علي ليستحق كل هذا اللعن أسبوعيا على المنابر.
الثاني: كان صلاة الجمعة عبارة عن مراقبة المعارضين لحكم معاوية بن أبي سفيان ومن خلفه من بعده، حيث كان كل الذين لا يأتون للمسجد للصلاة يوم الجمعة يسمون منافقين ومشركين وكفار، وكانوا يقتلون فورا وتحرق بيوتهم عليهم باستثناء إذا كانت هذه البيوت تضم أطفالا ونساء فإن المخالفين من الرجال يُقتلون أو يُحرقون على مرأى من الجمهور.
واستمر الحال في عهد بني أمية على هذا الحال حتى تولى “عمر بن عبد العزيز” الحكم فأمر بعدم لعن علي وآل بيت النبي على المنابر.
وعلى مر العصور وإلى الآن استخدمت صلاة الجمعة كأداة فعالة لنصرة الحاكمين والدعاء لهم على المنابر والدعاء على أعدائهم، وما زالت صلاة الجمعة مسيسة بكل أشكال وأنواع التسيس بالرغم من أن المخالفين للحكام يُمنع عليهم “تسييس الدين” أو استغلاله للدعوة لأفكارهم ونشر آرائهم، بينما يسمح للحاكم بذلك.
التقنين على عهد الوزير أحمد التوفيق
وصفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية فيما سمته “خطة تسديد التبليغ” وجاء في مقدمة هذه الخطة بأنها “تسعى إلى تقليص الهوة الفاصلة بين فضائل الدين وبين أعمال كثير من الناس البعيدة عن تلك الفضائل…” وكان من ضمن هذه الخطة “التسديدية” توحيد خطبة صلاة الجمعة التي أثارت الكثير من ردود الأفعال كان أغلبها انتقادا للخطة، حيث يرى المنتقدون أن توحيد الخطبة لا يقلص من دور الخطيب في نشر فضائل الدين، وأن الخطيب يجب أن يخاطب المصلين بما يراه من صلة بأحداث المجتمع إذ يطرح المشكل ثم يسلط الضوء عليه دينيا بهدف معالجته وإرشاد الناس نحو الطريق الصحيح، بينما يرون في “التوحيد” عقبة أمام اجتهاد الخطباء والسطو على اختصاصهم في تبليغ هذا الدين حسب حاجات كل مجتمع من المجتمعات. لأن المشاكل الاجتماعية تُعالج حسب كل منطقة وكل جهة، وحسب احتياجات الناس بما يراه الخطيب مناسبا، هناك مجتمعات تعرف ظاهرة انتشار المخدرات على سبيل المثال، بينما في مجتمع آخر تكون الأولوية للحديث عن ضعف الإيمان أو ظاهرة الإجرام والسرقة الخ… وبالرغم من أن المجلس العلمي الأعلى أصدر فتوى تفيد بأن توحيد الخطبة اختياري بالنسبة للخطيب، لكن وزارة الأوقاف ما زالت تفرض خطبتها على الأئمة الخطباء، وهو ما سبب الملل للكثير من المصلين لدرجة أن بعضهم لم يعد يذهب للجمعة بسبب خطب أحمد التوفيق المفروضة، وهو ما قد يعاكس “خطة تسديد التبليغ” التي ابتدعها الوزير التوفيق.
وبخلاف ما سعى إليه المجلس العلمي الأعلى وجعل توحيد الخطبة اختياريا فقد سعى “التوفيق” غير الموفق إلى توقيف عددا من خطباء الجمعة ومعاقبة بعضهم بسبب مخالفتهم لخطته، كما أن بعض الخطباء قدموا استقالاتهم طوعا، لأنهم يرون في “الخطة” فرض الرقابة على آرائهم وتقليص دورهم في تبليغ الدين لعامة الناس وخاصتهم انطلاقا من رؤيتهم الدينية.
خلاصة القول، إن توحيد خطبة الجمعة أضر كثيرا بدور رسالة المسجد وقلص رواد المساجد يوم الجمعة، وهو ما يجب التراجع عنه، وترك حرية للخطيب في اختيار خطبته في إطار الثوابت التي يتوافق عليها المغاربة أجمعين.
