صباح الأنباري
الكتابة عن الفنان الكبير يحيى الشيخ دربها طويل وعسير، فان قررت السير على هذا الدرب ستفاجأ بوجود عشرات العثرات الكأداء، وستهبط عليك من جانبيه السيول الفنية الجارفة فالشيخ مثل كتاباته ولوحاته لا يستقر على أسلوب واحد وهو المتنوع في أساليبه الفنية، والمجدد فيها، والمجرب الذي لا يتوقف عن المضي قدما حال وصوله الى هدف ما أو تحقيق رغبة تجريبية ما حسب، بل يسير قدما الى منطقة اجتراح الحقيقة وتأطيرها، فان لم يجدها فانه يوجدها لنا بامتنان الفنان، وسمو الأديب. لقد وجد في مشواره الفني أن اللوحة أحيانا تحتاج الى المزيد من البوح بالكلمات فضلاً عن أدوات الرسم عندما يتوقف بوحها عند حدود هذه الأدوات ضمن تخوم إطارها أو مساحتها المحدودة، لذا آل على نفسه الاستغراق في الشعر أحيانا، وفي السرد أحيانا أخر.
وتراه وهو يجترح البوح بالكلمات يضعها داخل اللوحة ملتصقة بمضمونها، ومتماهية مع صورها، ومتناغمة مع إيقاعها، وأحيانا يضعها خارج اللوحة لغرض اكتمال جماليات الحقيقة المكتشفة تلك التي يصعب علينا رؤيتها إلا إذا استعرنا رؤيته الثاقبة، وهذه ميزة لا يمتلكها إلا القلة.
أقام الشيخ العديد من المعارض ومنح كل معرض عنونته اللائقة، وأحيانا تأتي العنونة من طبيعة المادة المستخدمة في تأثيث اللوحات مثل (لبّاد) بعد أن جعل منه (من الصوف المضغوط) مادة أساسية في لوحات المعرض فضلاً عن استخدامه للألياف الزجاجية في بعضها.
يحيى الشيخ هو ابن الطبيعة الجنوبية، فيها تربى،وفي أحضانها ترسخت رؤاه الفنية، وعندما بلغ مرتبة الإبداع العليا ظلّ وفياً لها فاستثمرموادها الخالصة: اللباد، والأشجار، والسماء والغيوم، وبهجة القمر،والشمسالتي تتوارى عند الأصيل،هذا بالإضافة لحيواناتها الأليفة والبرية، وكائناتها الغريبة، وأساطيرها العجيبة ليظل الترابط المشيمي قائماً بينه وبين تلك الطبيعة الغناء التي تضخ لفنه من حبلها السري ما يعينه على البقاء، والولاء، والرقي وصولاً الى قمةٍ أرادها فقدمت له نفسها على طبق من ذهب.ولهذا لم يكن استخدامه لموادها مجرد رغبة عابرة، أو نزوة فنية جانحة، أو عبث شكلاني لأن الإبداع متأصل فيه يمنحه قوة الإمساك بفكرته ولوحته التي تسمعه ثغاء الأغنام، وترتيل الطيور، ونوح الحمام، وترنم خرير النهر، وإيقاع صوت المطر النازل من سماء لا بد وان تشكّل جانباً علوياً من جوانب اللوحة البكر.
أقول البكر لأنه يضعها في حالة رؤية خاصة تماماًفلا تأخذ في اللوحة شكلها التقليدي، بل يمنحها ما يفوق ذلك فيجعلها على هيئة نقطة، أو مسطح مستعرض، أو خط، أو شريط، أو أي شيء تقترحه الرؤيا فهو يحرص على الموائمة بين المواد المستخدمة فيها وبين موضوعها ليجسّد من خلالهما (مواد الرسم والموضوع) رؤيته التي تجلّت له من خلال بحثه الدائب عن الأسلوب الأمثل والأكمل في بناء اللوحةشكلا ومضمونا.
لقد طرق على أبواب إبداعه الكثيرُ من النقاد والمتابعين فدبجوا بأقلامهم ما يلقي الأضواء على تجربته الفنية الأصيلة، ولقد وجدت نفسي ككاتب لنوع مغاير من المسرحيات (المسرحيات الصوامت) التي تشتغل على الحركة أمام لوحات فيها مقاربة مع هذه المسرحيات، ففي بعض لوحاته التي خصها بالحركة واشتغل على تقنياتها الدرامية ما يدعم زعمنا هذا، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نتناول اهم تلك الحركات مثل حركة الانقلاب المتمثلة في لوحةٍ اقتصر تأثيثها على كرسي، وشرائط غيوم، ورجل في حالة شقلبة عنيفة أوحت لي شخصياً على الأقل إن بقاء الحال من المحال كما يقال فلم يعد الرجل محتفظا بكرسيّه بعد ان قذفت به قوة ما وأسقطته عن عرشه وحرمته من لذة الجلوس والاستمتاع الطويل.
هذا هو ظاهر اللوحة أما باطنها فيتركه الشيخ لتأويل المشاهد على وفق ثقافته ورؤيته للأمور من زاوية قد تتفق مع الفنان وقد تختلف معه.
المهم عند الشيخ هو تحريكه لذهن المتلقي من خلال متابعته حركة صاحب الكرسي الذي انقلب عليه الوضع فطار عن عرشه مبتعدا وفاقدا لأبهته وإغراءاته التي لا تقاوم.
مع هذه اللوحة والحركة يمكن أن تصاغ عشرات القصص التي تحكي لنا عن العروش وسقوطها. ومنها بعض المسرحيات الصامتة التي كتبتها ذات مساء صيفي مستهدفا تلك العروش، وظلمها، وظلامها المهيمنين على حياة البشر.
في لوحة أخرى نرى الحركة المتعاكسة لشخصين:الأول يرتقي السلّم الى الأعلى، والآخر يهبط من عليه الى الأسفل.
الأول وصل الى حافة الهاوية فلم يبق بينه وبينها إلا خطوة واحدة، والثاني وصل الى قمةٍ لم يبق بينه وبيها إلا خطوة واحدة.
الأول ذاهب الى الهاوية السحيقة وعند بلوغه لها أوقف الشيخ حركته ليحذره من مغبة السقوط في الهاوية، وهذا ما أخبرتنا به اللوحة، أما الثاني فلم توضح اللوحة الى أين سينتهي المطاف به.
وبدا لنا أن الشيخ قد ترك لنا ما يوحي انه ذاهب الى حيث تذهب الطيور في سماء اللوحةعند طيرانها العبثي.
ومما أراد الشيخ الإشارة إليه هو الخسارة المتوخاة للاثنين (الصاعد والهابط) ولهذا الصق باللوحة كلمته التي تتصدرها حقيقة: (ما خسرناه) ويضيف متسائلاً: (وإذا خسرنا البلاد؟ في الأرض متسع للطيور!) ويختم قائلاً: (كنا مشغولين باكتساب البلاغات والحكم وكنا نطير بها عبثا…)
السؤال الذي يطرح نفسه على ذائقتنا: هل يمكن للوحة الاستغناء عن الكتابة؟ وهل يمكن للكتابة الاستغناء عن اللوحة وحسب ذائقتنا أيضا نقول من السهل جدا أن تنفصل اللوحة عن الكتابة وليس عسيرا انفصال الكتابة عن اللوحة شرط أن يكون المتلقي مدربا على فك الرموز وتأوليها مع أن اللوحة محدودة في ترميزها ومقتصرة على ثيمات محددة بالبشر، والطير، والسلم وربما هذا ما جعلنا نؤكد في تعليقنا على الفسيبوك أن يحيى الشيح لا يحتاج الى كلمات تضيء لوحاته لأنها تضيء نفسها بنفسها.
وما استنتجناهمن هذه اللوحة هو أن الحالتين (الصعود والهبوط) تؤديان الى العبث وهذا بحد ذاته هو ما جعلنا نكرر القول إن الحياة التي نحياها لا تجترح غير العبث هدفا لها على درجة عالية من الخسارة.
وان علينا الانتباه بردة عالية من الوعي لهذه الحقيقة الماثلة.