ليلى خزيمة
تُعَرف اللغة على أنها من الملامح المميِّزة لأي ثقافة في العالم، وهي أيضا الوسيلة التي يتواصل ويتقارب الناس من خلالها مع بعضهم البعض. ويقدر عدد لغات العالم اليوم بما فيها اللغات المنطوقة ولغة الإشارة إلى 8324 لغة. كما أن هنالك العديد من المفاهيم المتنوعة لفعل اللغة. في كتابه من أسرار اللغة، يدعونا الدكتور إبراهيم أنيس، إلى النظر في اللغة على أنها: «أمر معنوي لا وجود له إلا متصلا بالإنسان، ومن الخطأ النظر إليها على أنها مجموعة من كتب النحو والمعاجم اللفظية»، وأضاف: «أن اللغة لا تورث، بل تُكتسب، لذلك نقول دائما إن اللغة ملك من يتعلمها ولا أثر للوراثة أو الجنس فيها. فلو أخذنا طفلا ولد لأبوين مصريين ورُبِّيَ في بيئة صينية، لنشأ من حيث اللغة كأحد أبناء هذه الشعوب. هم إذن نشأوا يستمعون إلى ألفاظ لغاتهم وتراكيبها وأصواتها، وترك هذا في عقولهم ونفوسهم ما يمكن أن يسمى بـ “الحس اللغوي”، وهذا هو الذي يهدي أحيانا إلى استنباط أمور جديدة لم ترد في المعاجم». وهذه هي حالة لغة سكان جبال الاطلس الكبير بالمغرب، لغة الصفير.
أصنصك، إبداع قبل التكنولوجيا
تسمى في مناطق أخرى من العالم بلغة الطير وفي جبال الأطلس الكبير تسمى ب”أصنصك” أو “توتليت ن أنصاغ”، ويعرفها الجميع بلغة الصفير، لاعتمادها على الصوت كحروف تشكل كلمات وجملا للتواصل بين سكان الجبال. أُدرجت هذه اللغة المتفردة والدالة على نباهة سكان الجبال ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 2017. فلغة الصفير هي أسهل وأسرع طريقة للتواصل عبر المسافات الطويلة والتضاريس الوعرة. وهي وسيلة فعالة لإيصال المعلومة في الوقت المناسب سواء تعلق الأمر باستدعاء أحدهم أو طلب العون أو الإخبار عن حالة وفاة أو دعوة لحفل زفاف أو لجلب أغراض للمنزل وما شابه أو للإعلان عن قدوم زائر. يعتمد سكان الجبال على لغة الصفير هذه لأن مداها يصل ما بين ثلاثة إلى خمسة كيلومترات. يقول الفنان التشكيلي ابن مدينة الراشيدية سعيد نجيمة لجريدة المنعطف: «إن لغة الصفير هي لغة عالمية يستخدمها السكان بالمناطق التي يصعب إبلاغ المعلومة إلى المتلقي بالطرق المتداولة. وهنا في نواحي الراشيدية وبالتحديد بالمناطق الجبلية، الصفير هي اللغة الأكثر تداولا لتسهيل عملية التواصل».
وتوضح الباحثة ومنسقة ماستر التراث المادي واللامادي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، فاطمة الزهراء صالح، بطريقة علمية وعملية لغة الصفير قائلة: «لغة الصفير هي طريقة تعوض لغة الكلام، بحيث تقسم الكلمة الواحدة إلى عدة مقاطع تصفر. إن هذه التقنية تستخدم في المناطق الجبلية الوعرة التي يصعب فيها التواصل. ولغة الصفير جاءت كحل لهذه الصعوبة في وقت كانت منعدمة فيه تقنيات التواصل الحديثة».
أدوات لغة الصفير بجبال الاطلس
ابتكر سكان المناطق الجبلية بالأطلس لغة “أصنصك” منذ عصور لتسهيل التواصل فيما بينهم لبعد المسافة ولوعورة التضاريس ومن أجل الرعي والتحكم في حيواناتهم. ولتكون هذه اللغة القائمة بذاتها مفهومة لكل من يستعملها، يعتمد سكان الجبل على أدوات بسيطة لتشكيلها هي اللسان والأسنان والأصابع والهواء. لكن لغة “أصنصك” حسب الباحثة فاطمة الزهراء صالح لغة معقدة يَجب تعلمها وهو ما فسره كما قلنا سابقا الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه أسرار اللغة.
فتقنيات الصفير تتطلب دقة بدنية وقوة فيما يخص أجزاء الجسم المستخدمة في آلية اللغة. هذه الأخيرة، لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة حيث يُستخدم فيها لسان وشفاه المخاطبين وحتى الأيدي في بعض الأحيان. وتختلف لغة الصفير اختلافا كبيرا عن اللغة التقليدية، هذه الأخيرة تستخدم تجويف الفم لمزج وتباين العديد من الترددات الصوتية. في المقابل، تقتصر آلية الصفير على إصدار نغمة أساسية واحدة فقط بين 1000 و3000 هرتز. تأتي الدقة الفيزيائية من مهارة الصافرة التي تكون قادرة على تغيير الترددات بسرعات مختلفة وبدء وإيقاف إنتاج الموجات الصوتية. يقول الباحث رشيد رضوان في مقاله العلمي الصفير الأمازيغي المغربي: الصوتيات وعلم الأصوات: «الصفير هو ممارسة تواصل تقليدية مستخدمة في منطقة الأطلس الكبير المغربي لعدة قرون. متواجدة بشكل خاص حتى اليوم، ولا سيما بين الرعاة. لا ترتكز هذه الممارسة الحية على الحبال الصوتية، بل تعتمد على شدة الصفير التي يتحكم فيها شكل الفم لنقل الرسالة. ولذلك فهي سجل متخصص في الكلام يعتمد على تقليد الصوت المنطوق في عملية الصفير». كما جاء في ملاحظات اللغوي جيرار بيشو خلال الدراسة الميدانية التي قام بها حول لغة الصفير الأمازيغية بمرتفعات الأطلس الكبير: «تحترم ممارسة هذه اللغة بروتوكولات خاصة مثل إنشاء التبادلات من خلال الصفير، أي الدعوة لفتح قناة الاتصال، وتحديد هوية المحاور عن بعد وتحديد الموقع، وإجراءات تأمين الرسائل من خلال استنساخ المرسل والإقرار بالاستلام من قبل المتلقي، مع التكرار، إذا لزم الأمر، لجزء كبير من نص الرسالة. تهدف العديد من العمليات إلى إزالة غموض رسائل الصافرة والتغلب على صعوبات الإرسال المرتبطة بتكوين التضاريس. كل هذه البروتوكولات شائعة في معظم لغات التصفير التي تمت دراستها بالفعل».
رجع الصدى، الصوت الكَلِم
يشكل الاستخدام المعقد للغة الصفير بجبال الاطلس، والذي سبق وسائل الاتصال الحديثة بقرون، أداة حيوية للمجتمعات التي تفصلها مسافات كبيرة. يتم استخدامها من قبل الرعاة الذين يرعون قطعانهم في وسط الوديان، أو من قبل القرويين الذين يحتاجون إلى نقل رسائل مهمة. لبلوغ الهدف، تعد الجبال أحد أهم مكونات لغة الصفير. فوجود رجع الصدى بهذه المناطق يتيح نقل الصفير لمسافات بعيدة. وبالتالي وعبر الاجيال، شكل الصفير حلا عمليا ووظيفيا، مما يسمح بالتواصل الواضح والسريع بين مختلف فئات سكان الجبل في تحد جريء للتضاريس ولحالة الطقس. يقول جيرار بيشو في ملاحظاته: «في هذه المناطق، تأكد لنا أن استخدام لغة الصفير أمر شائع بين البالغين والأطفال من جميع الأعمار. إنها جزء لا يتجزأ من النشاط الرعوي، وهي عادة لدى مختلف الأجيال، ويفهمها ويمارسها حتى الصغار، وتعلمها جزء من عملية تعلم اللغة الأم». الشيء الذي يؤكده جوليان مايير في دراسة له تحت عنوان: تَكَيُّف اللغات البشرية مع المعيقات الصوتية للمناطق، مثال طرق التحدث عن بعد: «يتم تكييف الصفير مع القيود الصوتية لهذين النوعين من البيئة (الغابة والجبل). ويمنع المحاورين من الاضطرار إلى السفر لمسافات طويلة للتحدث مع بعضهم البعض (على سبيل المثال، عبر الغابة، من جانب الوادي إلى الجانب الآخر، من جانب إلى آخر بشكل عام، في البيئات المفتوحة، مثل النهر أو الجبل بدون غابة). يمكن أن تصل الاتصالات إلى أبعد المسافات لأن الدليل الموجي للوديان مثل مرآة الماء على الأنهار والبحيرات، يخلق الظروف المواتية للانتشار الصوتي، ولكن أيضا لأن فرص رؤية بعضنا البعض والتحدث تصبح أكبر».
أصنصك، لغة متعددة الأشكال والاستعمالات
لغة الصفير في جبال الأطلس لا تقتصر على التواصل بين الأهالي فقط، بل يعتمدها الرعاة كذلك في تواصلهم مع قطعان الغنم وفي التعليمات التي يوجهونها إلى كلاب الرعي. وتختلف لغة الصفير بين الإنسان والحيوان عن لغة “أصنصك” بين الأشخاص. وفي هذا الصدد أوضحت الباحثة الأكاديمية فاطمة الزهراء صالح، أن طريقة تواصل الراعي مع ماشيته وكلابه تتم عبر إشارات فقط وليس كلمات. فيستخدم الراعي حركات تكون مألوفة عند الحيوان الذي يفهم معناها، وتترجم على شكل صفير. على العكس من ذلك، فلغة تواصل الأشخاص فيما بينهم تكون عن طريق كلام بجمل مفيدة تصفر وليس حركات. وهي ليست مجرد عملية صفير عشوائية، بل هي أداة تواصل لها بنيتها ونغمتها التي تجعل منها لغة متكاملة. يقول جوليان مايير: «بشكل أكثر عمومية، يُسَهِّل الكلام المصفر تنظيم الحياة اليومية ونقل جوانب معينة من التقاليد الشفهية. في الواقع، إنه يجعل من الممكن نقل الأخبار، والإبلاغ عن خطر أو حالة طوارئ. تستخدم لغة الصفير للتحدث ليلا، وللتحدث سرا في حضور الغرباء… أخيرا يتم استخدامها أحيانا في شكل شعري أو طقسي لمرافقة لحظات مهمة في الحياة. كما نلاحظ أن لغة الصفير متجذرة داخل المجتمعات ذات الكثافة السكانية المنخفضة نسبيا والتي تعيش في مناطق معزولة، كما هو الحال في قرى الوايابي في منطقة الأمازون أو القرى الأمازيغية في جبال الأطلس».
وعن نظام وتركيبة لغة الصفير في جبال الأطلس مقارنة مع مثيلتها الاسبانية، يقول جيرار بيشو: «إن شيفرة لغة الصفير الأمازيغي غير نغمية، ويتضمن نظام حروفها الصوتي البسيط عددا محدودا من حروف العلة أو شبه حروف العلة. ومن ناحية أخرى، فإن نظام الحروف الساكنة للأمازيغية المنطوقة أكثر تعقيدا من النظام الإسباني» ويضيف: «في جميع الأماكن التي أتيحت لنا فيها الفرصة لإبداء ملاحظات إيجابية، فإن ممارسة الصفير ليست هامشية أو تافهة، فهي مدمجة في النشاط الرعوي… إنها لغة في حد ذاتها: نظام استبدال الكلام عن طريق تعديل المقاطع المنطوقة… ويرتبط هذا الشكل من اللغة، في بعده الإنساني والاجتماعي، ارتباطا وثيقا بأسلوب حياة وتقاليد رعوية مما يمنحه أهمية ثقافية وتراثية».
أصنصك هي أبجدية سكان الجبل، يحورونها حسب المخاطب أكان من أهل البشر أو خطاب موجه لماشيتهم التي تتقن الاستماع والتفسير والانصياع لأوامر وتوجيهات لغة الصفير. تفرد يلغي المسافات وتأثيرات عوامل المناخ ويغني عن التواجد. فكان ولازال أهم وسيلة للتواصل دون الحاجة إلى شبكة وتغطية وكهرباء أو بطارية. فأبدع سكان الجبل ودبروا أمورهم بتقنية مبتكرة بعيدا عن التطور التكنولوجي قبل ثورة هذا الأخير. وهي لغة تمكن الأفراد من الشعور بالانتماء لمجتمعهم وتعزيز روابط العلاقات الاجتماعية، كما تعكس جزءا هاما من الهوية الثقافية للمجتمعات الأمازيغية المغربية. وبتمرير لغة الصفير من جيل إلى جيل، يتم الحفاظ على التراث اللامادي القيم وعلى التنوع اللغوي والثقافي للمغرب. لذلك دأبت الوزارة الوصية على تكثيف الجهود لضمان استمرار عمليات التوثيق والتعلم والتعزيز. كما تقوم بتشجيع الأبحاث والمحاولات التي تعمل على تعليم لغة الصفير والمشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تعزز استمرارية هذا النوع من التواصل. مما يساهم في الحفاظ على هذا العنصر الثقافي القيم وتمكين الأجيال القادمة من الاستمرار في استخدامه ونقله للأجيال اللاحقة.