ليلى خزيمة
“إكودار” جمع لكلمة “أكادير” وهي كلمة أمازيغية تعني الحصن المنيع. تراث معماري مغربي أمازيغي عريق، لعب أدورا أمنية واقتصادية واجتماعية في حقب خلت، ولازال هذا المعمار يؤدي وظيفته المصرفية إلى الآن في بعض المناطق. سمي بهذا الاسم لأن تشييد“إكودار”يتم في غالب الأحيان في مواقع محصنة تحصينا طبيعيا ومنيعا، خصوصا في مناطق مرتفعة يصعب اقتحامها ويسهل الدفاع عنها، وذلك لتوفير أقصى درجات الحماية لممتلكات الناس ضد المخاطر الخارجية من لصوص وهجمات المجموعات القبلية.ويطلق عليها كذلك كلمة “إيغرم” بالأطلس الكبير الأوسط والشرقي والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي للمغرب من تازناخت إلى تافيلالت. وكلها تدل على نفس معنى الحصن أو المخزن الجماعي أو القرية أو المنزل المحصن أو القصبة، كما تدل عموما على أي جدار كيفما كان حجمه ومادة بنائه ووظيفته.
تاريخ إكودار
يشير بعض الباحثين الجغرافيين وكذا بعض الألواح المُنَظِّمة لتدبير هذه المخازن الجماعية، إلى أن بداية إكودار تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي وما بعد، إلى حدود بدايات القرن العشرين. ويعتبر “أكادير نوجاريف” بالأطلس الصغير بإقليم تارودانت، أقدم حصن معروف إلى الآن في المغرب حسب مصدر مكتوب وموثق، إذ يرجع تاريخ كتابة اللوح المنظِّم له إلى سنة 1498م. فبعض البحوث تشير إلى أن وجود إكودار يعود إلى القرون الأولى للعصر الوسيط، حيث سادت خلال تلك الحقبة بعض فترات غياب الأمن والاحتلال الإيبيري للسواحل المغربية، هذا بالإضافة إلى فترات الجفاف والأوبئة والأزمات الطبيعية العصيبة التي عرفتها مناطق انتشار هذه المخازن الجماعية. كل ذلك جعل السكان يلجؤون إليها ليحتموا بهافي مناطقهم في استقلالية شبه تامة، واضعين أنظمة عيش واستغلال وتسيير متكاملة ومنسجمة مع طبيعة الظرفية ونمط العيش.
أنواع إكودار
“أمتضي”هيالمخازن الموجودة في أعلى القمم الصخرية وهي من أقدم الأنواع. يتم نحتها داخل كهوف في أجراف صخرية عالية، يصعب الوصول إليها إلا عبر سلاليم عالية أو عبر الحبال. ويكون هذا النوع على شكل ممر أفقي داخل الكهف تنفتح على جانبيه عدد من الحجرات المختلفة الحجم. وينتشر هذا النوع أساسا في مناطق ورزازات وفي السفوح الشمالية للأطلس الكبير ومنطقة طاطا.
“إيفري عماد الدين”، مخازن جرفية يتم تشيدها على واجهة الأجراف الشديدة العلو والانحدار. وتنتشر أساسا في مناطق الأطلس الكبير الأوسط، وفي مناطق تاليوين بإقليم تارودانت وجبل سيروا. ويمكن الولوج إلى حجراتها عن طريق أدراج خشبية أو حجرية أو عبر مجموعة من الجسور الحجرية والممرات الخشبية.
“تيسكموضين”مخازن خاصة بالواحات. لا تُشَيَّد في مناطق حصينة طبيعيا بل تبنى وسط القرية. كما يكون هذا النوع من إكودار محدود المرافق الجماعية، إذ يتميز بتداخله وتلاحمه مع المسجد الذي يتم بناؤه جنبا إلى جنب مع “أكادير”. كما يكتفي السكان بالحد الأدنى من أجهزة تدبير هذه المخازن.
هندسة المكان
تعد إكودار فضاءات جماعية تضم اثنان إلى أربعة أبراج خاضعة لحراسة دقيقة، حيث لا تتوفر إلا على مدخل واحد، مفتاح بابه في عهدة حارس يحمل لقب “لامين”، وهو اسم يحمل دلالات عميقة تحيل على الأمن والأمانة.
تحتوي إكودار على غرف جد صغيرة، تشكل خزانة منيعة للحفاظ على أثمن الأشياء التي يمتلكها أفراد القبيلة مثل عقود البيع والشراء، وعقود الزواج، والمجوهرات، وعقود إثبات الملكية العقارية، وكذا بعض المواد الغذائية من قبيل الحبوب والتمور والتين المجفف والعسل والزعفران، والزيت وغيرها. يقول الأستاذ الباحث خالد ألعيوض إن إكودار: «تم تشييدها منذ قرون خلت فوق قمم صخرية. وهي تتكون من ثلاثة إلى أربعة أدوار مقسمة إلى غرف صغيرة من نفس المقاس، يتم الولوج إليها عبر باب صغير مصنوع من الخشب. وهي في ملكية رب الأسرة الذي يسهر بشكل منتظم على الترميم والعناية بها كلما دعت الضرورة إلى ذلك». كما يضم إكودار غرفة خاصة بالحارس “لامين”، إضافة إلى مكونات أخرى ذات صلة بالحياة اليومية للجماعة من ضمنها غرفة خاصة باجتماع أعيان القبيلةللتشاور ومناقشة شؤون الجماعة وما يتصل بتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية للجماعة أو القبيلة، وطاحونة تقليدية،وحيز مكاني خاص بمعتنقي الديانة اليهودية من أفراد الجماعة.
في فترة التوترات الاجتماعية والسياسية وغياب الأمن وسيادة الحرب، تتحول المخازن الجماعية إلى ملاجئ آمنة للسكان، حيث يتم الاحتماء بداخلها أيام الحروب والفتن. لهذا نجد بها مخابئ ومرابط للحيوانات وأحيانا مسجد صغير، وفضاء للمواشي يكون بين السور الخارجي، المكون من النباتات الشوكية، والسور الداخلي المبني بالحجر أو الطين المكبوس،وصهاريج (مطفيات) لجمع وخزن مياه الأمطار. وكلها مرافق جماعية يُلجأ إليها في الفترات الصعبة والخطيرة. كما تكون مكانا للمبادلات التجارية ولبعض الصناعات كالحدادة والتعدين وصناعة الحلي والأسلحة أو إصلاحها. وقد تكون هذه المخازن ملكا جماعيا لسكان قرية واحدة، أو لمجموعة من القرى المتجاورة أو لقبيلة بأكملها. ففضاءات إيكودار تجسد، بالإضافة إلى أدوراها الأمنية، معاني التعاون والتضامن والتماسك الاجتماعي خصوصا في الفترات الصعبة من تاريخ المجموعات التي تشيدها، منها فترات الجفاف والمجاعة أو فترات الحروب والصراعات.
تعد هذه المخازن الجماعية مظهرا من مظاهر القوة والصمود عند القبائل، باعتبارها حصنا آمنا لخزن ممتلكاتها وأقواتها وقلاعا حصينة ومنيعة يحتمى فيها خلال فترات الحروب والفتن.
تصميم إكودار يكون على شكل مربع تعلو زواياه أبراج للمراقبة، أو على شكل مستطيل بدون أبراج، وقد يتخذ شكلا هندسيا آخر كالدائري، وذلك حسب المناطق والمناخ والطبوغرافيا، وما تتوفر عليه الجماعة التي تبنيه، من مواد البناء ومن إمكانات مادية وبشرية.
يتم الدخول إلى المخزن عبر بابين، باب خارجي وآخر داخلي. يتميز الباب الخارجي بكبر حجمه، وينفتح على بهو داخلي يُستعمل كمكان للراحة والانتظار، وهو عبارة عن ممر تمتد على جانبيه مقاعد حجرية وتثبت على جدرانه قطع خشبية تستعمل لتعليق الأسلحة. وعلى مقربة من البهو توجد حفرة عميقة ومستديرة الشكل تستعمل لدق وحفظ مادة البارود الذي يستخدم كذخيرة للأسلحة.
تتكون إكودار في العادة من عدة طوابق، قد تصل إلى خمسة. وتُقسم كل طبقة إلى غرف مفتوحة نحو الداخل تسمى بالأمازيغية أحانو. هذه الغرف هي التي توزع على المستفيدين أُسَرا وعشائر، وفيها يضعون ممتلكاتهم ويغلقونها. كما تشمل في بعض الأحيان مكونات أخرى كغرف لبعض الحرف مثل تصنيع الأبواب وإصلاحها وصناعة الحلي وغيرها، كما نجد في حالات أخرى ناحلات العسل.
تستعمل عادة مواد أولية محلية لبناء إكودار، خصوصا الحجارة والتراب المدكوك المخلوط بالحصى والتبن، اعتمادا على تقنية اللوح أو تقنية الآجر المجفف أو اللبن، ويلجأ إلى الأخشاب خاصة في الأبواب والأسقف والعتبات والسلاليم التي تستعمل للوصول إلى غرف الطوابق العليا لفضاءات إكودار، ومواد ثانوية أخرى مثل الجير الذي يستعمل ممزوجا بالطين لشد الحجارة فيما بينها أو ممزوجا بالتراب كملاط خارجي على سطوح الجدران وفي إعداد الطبقة المقاومة للأمطار على مستوى سطح البناية.
تدخل الحجارة في تشكيل أجسام الجدران التي يصل سمكها إلى 50 سم. فهي توضع مباشرة على سطح الأرض الصلبة، دونما حاجة للأسس المغروسة في الأرض. فترتب طبقات وصفوف أفقية من الحجارة المتوسطة الحجم والمعدة نسبيا، لتُثَبَّت بأخرى أصغر منها أو بتربة طينية. كما تدخل الحجارة في بناء عتبات الحجرات والشرفات.
أما الأسقف، فتوضع بعد إتمام تشييد الأسوار وذلك بِرَصِّ الأعمدة الخشبية في عرض الغرف بشكل مواز لبعضها البعض، ومتباعدة بحوالي نصف متر. بعد ذلك، تفرش حصائر من أخشاب متوسطة الطول على الأعمدة الأولى في الاتجاه المعاكس لسد الفراغات المتروكة. تدك من فوق هذا البساط طبقة من التراب الطيني الممزوج بقليل من الجير، على مستوى الطابق العلوي، ثم توضع طبقة رقيقة مقاومة لمياه الأمطار.
أهمية إكودار في تسيير معيشة القبيلة
لعبتإكودار أدوارا مهمة باعتبارها بنوكا لتخزين المؤونة والحبوب، خاصة الشعير، والأغراض الثمينة، في الفترات التي تشهد فيها القبائل الجفاف أو الحروب، إلى جانب دورها الدفاعي. وجرى توطينها في أماكن مرتفعة منيعة، يسهل منها صد الهجمات الخارجية، فضلا عن التشميس، أي إمكانية ولوج الشمس إليها طيلة النهار، درئا لفساد الحبوب على الأخص.
علاوة على كونها تشكل مخزنا للمحافظة على الممتلكات الثمينة والمواد الغذائية، فهي أيضا تشكل ملجأ للاحتماء من الأخطار المحتملة التي تحدق بالجماعة، فضلا عن كونها تشكل أقدم نظام بنكي عرفته الإنسانية.
وتكتسب إكودار أهمية أكبر في المواسم التي يكون فيها المحصول الزراعي جيدا، ولا يمكن فتح الغرف التي يحتوي عليها “أكادير” إلا بحضور “لامين” الذي يتولى أيضا فتح أبوابها الصغيرة وفق نظام معين، وذلك حتى يتأتى ضمان التهوية اللازمة للغرفة، بما يسمح لها بالحفاظ على المواد الغذائية المخزنة دون أن يلحقها أي تلف، وبما يسمح كذلك للقط أو القطط، التي يطوعها “لامين”، بالدخول للمخزن لمطاردة الفئران التي قد تلحق الضرر بالممتلكات المخزنة في “أكادير”.
إكودار، مصرف قبل البنوك
يخضع تدبير إكودار لنخبة من الأشخاص يشكلون “مجلس” القرية أو القبيلة، ويدعى بالأمازيغية “إنفلاس”. يتولى المجلس مهمة وضع ميثاق أو عرفشفوي أو مكتوب يسمى “إزرف”، يتم تدوينه على لوح خشبي، يحدد من خلاله حقوق وواجبات كل منخرط في هذه المنظومة الجماعية.مما يكسب إكودار هيبة وهالة من الاحترام، إذ لا يجرؤ أحد على ارتكاب ما لا يليق داخلها أو خرق عرف من أعراف تسييرها. يقولخالد ألعيوض: «يجب التعامل مع المخازن الجماعية كمنظومة قيم وعلاقات وأعراف، سهر على إبداعها الإنسان المغربي الأصيل بقيمه التضامنية وتدبيره للندرة، وأيضا بإتقانه فن البناء، وذلك لكون هندسة بنائها رائعة جدا،تتماشى مع التشريعات التي أبدعها، خصوصا القوانين العرفية التي نحتاج اليوم إلى إعادة قراءتها، لأن فيها كنوزا قانونية نحتاجها حتى في عيشنا المشترك اليوم».
وإذا كان “انفلاس” هو مجلس التدبير والتسيير والتقرير والتنفيذ، فإن “لاميننو أكادير” هو الذي يتولى مراقبة “أكادير” طيلة النهار ويضمن سيره العادي وفق ما تنص عليه القوانين المنظمة له. في حين، يقوم حراس مكلفون بالسهر على حمايته ليلا من أي اعتداء محتمل. وبقدر ما أن تسيير “إكودار”يكون بشكل جماعي، بقدر ما أن غرف التخزين تكون خاضعة لنظام الملكية الفردية لكل رب أسرة، يبيع ويشتري ويورث ويصلح غرفته كما يشاء.
لا يقتصر دور “إكودار”على التخزين والاحتماء زمن الحروب، بل هو كذلك مكان تجمع أهالي القرية. ففي“أكاديرآيت كين” مثلا، لازالت تُعقد مراسم الاحتفال بالزفاف، والأعياد والمناسبات الدينية، واللقاءات الاجتماعية. يقول خالد ألعيوض إن:«تصنيف المخازن الجماعية تراثا عالميا يرفع المغرب ضمن البلدان العريقة بثقافتها وتقاليدها وأعرافها ونظمها وطرق تدبيرها، وهذا ليس بعزيز على المغاربة في وقت مازال الإبداع والذكاء المغربيين مستمرين إلى اليوم».