ليلى خزيمة
تُعد التقاليد المغربية العريقة في صناعة حلويات العيد سليلة المطبخ الأندلسي. فقد نقل أهله الذي هاجروا إلى المغرب منذ القرن الثالث عشر الميلادي نكهاته الخاصة ووصفاته الشهية إلى الحواضر المغربية التي استقروا بها.
وصناعة الحلويات في المغرب، احتفالية نسائية سنوية للقاء والاجتماع على صناعة قطع الحلوى وتعليم الصغيرات هذه الحرفة. فتفتح المغربيات في الأحياء الشعبية بيوتهن قبل حلول العيد بأيام، وينخرطن وسط أجواء حماسية وأحاديث مرحة، في إعداد العجائن المكونة في الأغلب من اللوز والفستق والتمر والجوز وغيرها من الفواكه الجافة التي تستعمل بكثافة في الحلويات المغربية. وتخصص أفران الأحياء الشعبية خلال الأيام القليلة التي تسبق عيد الفطر، وقتا وافرا لأطباق الحلويات التي يأتي بها الصبية من بيوت أمهاتهم من أجل إنضاجها على نار الفرن التقليدي الهادئة.
لكن، أمام ضغط الحياة وإيقاعها السريع، تعجز العديد من النساء العاملات عن صناعة حلويات العيد في بيوتهن، لما يتطلبه ذلك من جهد ووقت في تنميق قطع الحلوى وتزيينها وتحضير مكوناتها وطهوها بعناية خاصة. لذلك فتحت العديد من المحلات لتلبية حاجة المغاربة.
وفي هذا المجال، اختصت عائلة مغربية بتصنيع الحلويات التقليدية منذ أوائل القرن الماضي. فاحتفظت بتاريخ وعراقة الموروث المغربي بدءا من الفضاء التي تشكل فيه أنامل الحرفيين هذه الحلوى إلى المنتوج النهائي. فالدار عبارة عن منزل مغربي تقليدي بزخارف الجبص والزليج والخشب المنقوش. عراقته من عراقة التراث المغربي الأصيل. وهو خط تحريري تبنته العائلة لتبقى وفية للموروث الثقافي المغربي.
رب صدفة خير من ألف ميعاد
يقول حكيم بنيس:«أمثل الجيل الرابع للداروأعمل على إدارتها منذ 12 سنة. عندما قدم جدي الأول من مدينة مكناس إلى مدينة الدار البيضاء سنة 1938، لم يكن من ضمن مشاريعه أن يفتح متجرا لبيع الحلويات. بل اشترى هذه الدار ليستقر بها هو وزوجته. وبالفعل ذاك ما كان. اقتنيا المنزل وسكنا فيه لسنوات. بعدها ولتحصيل مداخيل جديدة للعائلة وكسب بعض المال، بدأت جدتي التي كانت ماهرة في الميدان في صنع الحلويات المغربية التقليدية “الغريبة” و”البهلة” من داخل منزلها، وجدي يبيعها للجيران وبعدهم السياح. ومع مرور الوقت، اشتهر نوعيْ الحلوى ولَقِيا إقبالا واسعا. فبدأ الزوجين ينوعان ويقترحان أشكال ونكهات جديدة، لكن دائما فيما يدخل ضمن التقليدي المغربي مثل “كعب الغزال” و”المعلكة” وغيرها.
في البداية، عمل جدي الأول وجدي لا غير في هذا المشروع العائلي، بعدها وعندما داع صيت المنتوج، استخدما ثلاث أشخاص آخرين. وبتوالي الأجيال، أصبح العدد يتزايد حسب وفرة الطلب من خمسة أفراد إلى عشرة إلى أن وصل الآن خمسة وثلاثين شخصا. هناك من يعمل منذ 30 سنة في المشروع. عملوا مع جدي وأبي والآن يعملون معي. أغلبيتهم لم يكن له دراية بالميدان. جاؤوا لطلب العمل، فتبناهم المشروع وقمنا بتلقينهم سر الصنعة وتكوينهم ليصبحوا متمرسين وقادرين على الإنتاج. هناك من يشتغل هو وأبناؤه هنا وإخوته. نعمل جميعا كعائلة واحدة والجو جد مريح والدليل على ذلك هو تواجد أفراد لأكثر من 30 سنة وتواجد عائلات بأكملها. الحمد لله نساعد بعضنا البعض ونتعلم من بعضنا البعض وهذا ينعكس إيجابا على جودة منتوجنا.
كنا نود توسيع المشروع وفتح نقط بيع بأحياء أخرى، وبالفعل قمنا بذلك، لكن للأسف نظرا لعدم تواجد من يدير هذه المشاريع من العائلة، تم إقفال هذه النقط والاكتفاء بالمقر الرئيسي الذي أسسه جدنا الأول.
المادة الأساس
النجاح، بالإضافة إلى مهارة الحرفيين، راجع إلى جودة المكونات الأساسية. وفي هذا السياق، تتنوع مصادر جلبها. فمثلا “المسكة الحرة” نشتريها من اليونان، “ماء الزهر” من فرنسا، “القرفة” من المغرب، “اللوز” من أمريكا وبالتحديد منطقة كاليفورنيا، الدقيق مغربي، الزبدة من نيوزيلاندا.
الجميع يعلم أن التغيرات الاقتصادية تؤثر على جميع الميادين خصوصا بعد الجائحة. فقد ارتفعت أسعار المواد الأساسية، وبالتالي، تضطر المشاريع إلى الرفع من سومة المنتوج وهذا مشكل نتعرض له مع مرور السنين وأتمنى أن تستقر الأوضاع. فنحن نسعى دائما للحفاظ على نفس الجودة والاشتغال بأحسن المكونات. وهذا يتطلب أكثر من الجهد حب العمل والمهنة.
الحس المهني
في سائر الأيام نعمل بشكل مستمر ومع ذلك فهو مريح نوعا ما. لكن بمجرد اقتراب شهر رمضان، ترتفع وثيرة العمل ويصبح الطلب متزايدا وتكون على عاتقنا مسؤولية تلبية الطلبات سواء المباشرة او الرقمية بنفس الدقة والحكمة. ولولا الشغف والحب والحس العائلي الذي يجمع كل مكونات الدار لما كان من الممكن التغلب على التعب وكثرة العمل. فالإنتاجية تتضاعف حتىأربع مرات عن المعتاد. فصفوف الزبناء تمتد لمسافات طويلة في الزقاق وينتظرون لساعتين وأزيد لاقتناء ما يودونه.وهذا اعتراف لنا بالحب وبالجودة ومكافأة لنا نشكرهم عليها.
العمل كعائلة بتفاهم وحب هو مصدر قوتنا وكما ترون نعمل كما في البيت. فالدار لا تشبه العمل في شركة أو مشغل. كل من يلجها يحس بالراحة ويستشعر المودة التي تجمع كل الأفرادمن حفاوة الاستقبال.
إرث الاجداد
لم نغير شيئا في طريقة اشتغالنا. لازلنا نعمل كما في أربعينيات القرن الماضي. نفس النكهات ونفس الخلطات التي اعتاد عليها زبناؤنا. وصفة “سلو” كما هي لم تتغير، وصفة “كعب الغزال” و”عقدة اللوز” كذلك. حافظنا على إرث الأجداد ولم نغير فيه. حتى الزبناء عندما يأتون ويتذوقون المنتوج يجزمون على أنه لم يتغير وحافظ على نكهته. وهذا بالنسبة لنا توقيع ودمغة تمثلنا كدار مختصة في صناعة الحلويات المغربية التقليدية لما يقارب 86 سنة.
كما قلت جدي أبي هو الذي بدأ مع زوجته المشروع، لكن من طوره ليصبح دارا مختصة في صناعة الحلويات المغربية التقليدية، فهو جدي الحاج عبد الرحمن والذي نوع في التشكيلة التي نقترحها على الزبناء. بعده جاء والدي السيد عمر بنيس ليطور أكثرالمنتوج ويضيف شقا آخر يختص بالمملحات والمأكولات المغربية التقليدية بنكهتها الأصلية حتى يبقى دائما في إطار النهج الذي تبنته الدار منذ تأسيسها مثل “لمحمر” و”الكوارع”و”الدوارة” و”الدجاج لمقلي”و”بسطيلة” وغيرها. والآن، حملت المشعل وأعمل هنا لما يزيد عن 12 سنة. في البداية، كان مساري الدراسي بعيدا جدا عن هذا الميدان. بعدها، بدأتأتقرب شيئا فشيئا من الميدان، فوجدت أنه غني جدا ويعلمك مهارات جديدة كل يوم. فهو مدرسة للحياة تتعلم فيها باستمرار وتنهل من معارفها سواء على مستوى العلاقات أو الحرفة أو المعاملات أو خدمة الزبون. وأنا أعشق الميدان بشكل كبير.من بين ما طورته كجيل رابع للمشروع هو تقنيات البيع عن بعد من خلال مسطحات ومنصات للبيع من بينها وسائل التواصل الاجتماعي. فنقترح على الزبناء لائحة مختارة ومتنوعة من منتوجاتنا ليقوم بطلب ما يشتهيه عبر هذه المنصات ونتكلف بتحضيرها وإيصالها له في الوقت الذي يحدده. فشعارنا دائما هوالجودة، الذوق والاستمرارية».
تاريخ وتأريخ
ولأهمية الحلويات في المطبخ المغربي، تم التأريخ له في العديد من الكتب جملة وتفصيلا لما يزيد عن ألف سنة كحلوى “كعب الغزال” وحلوى “المقروط” اللتين احتفظتا بنفس التسمية. ومن بين هذه الكتب، كتابأنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة، وكتابالطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين، وكتاب فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان. هذا الأخير، هو كتاب من القرن 13 لابن رزين يؤرخ لصور الطعام في الأندلس والمغرب بداية العصر المريني.