حسن عين الحياة
بسوق “شطيبة” الذي يحتل مساحة واسعة بحي مبروكة بسيدي عثمان في الدارالبيضاء، كان هناك فضاء مُترب شاسع، أصبح الآن عبارة عن حديقة خضراء.. هذا الفضاء الذي انتعشت فيه “الحلقة” كفن شعبي، ظل إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي احتفاليا بامتياز، وباذخا من حيث تناسل الثقافات الشعبية والروافد المغذية للتراث الشفهي، لكنه الآن، أصبح “يتيما” يعيش على ذكرى “الحلايقية” الكبار، ممن ألهبوا ألباب الناس بالقصص والأساطير والتفكه بسخرية لاذعة من الواقع المعيشي آنذاك.
بعد صلاة العصر، كان الحلايقية يتسابقون على احتلال الأمكنة المناسبة لتقديم الفرجة، كل يجتهد بطريقته الخاصة في جمع الناس من حوله، قبل أن يصبح كل واحد منهم يتجه لمكانه دون مزاحمته للآخر، وإن كانوا لم يتفقوا على ذلك، وحدها التلقائية عنصرا مكملا للاحتفالية، ما دام أن لكل واحد من هؤلاء الحلايقية جمهوره الخاص، ومن أبرزهم: خليفة وخلوق وولد قربال.
بسوق شطيبة أيضا، كان هناك أحد أكبر الحلايقية بالمغرب “خليفة” رجل بارع في الحكي وساخر من طراز رفيع، إلى جانب ولد قربال الذي أبدع قصائد زجلية غاية في الروعة، ناهيك عن عازفي لوثار، ممن يبيعون أشرطة (كاسيط) تضم إبداعاتهم الخاصة، هؤلاء للأسف انقرضوا دون أن يتركوا خلفا من شأنهم مواصلة مسيرة الرواد، لتضل إبداعاتهم محنطة في الذاكرة الشعبية فقط.. إلى جانب هؤلاء، كان خلوق، بآلة لوتار يطرب الجماهير، وحده مكبر الصوت، يهيمن على باقي الحلاقي المجاورة.. نقرات لوتار مميزة عند هذا الحلايقي، إلى جانب ضرب البندير من قبل مساعديه، حيث كان ينشد قصائد عبارة عن قصص حول الدنيا والآخرة، والمرضي والمسخوط، من قبيل: “بسم الله بها نبدا.. في هاذ لقصيدة فائدة.. نحكيها ليوم غدا سوا للناس المرضية.. المرضي يبدا يتعقل.. من بداه الشهر اللَّول.. ميمتو سارا تولول ربي يحفظو ليا..”. وبعد إتمام القصيدة “الوترية”، يخبر الناس أن بإمكانهم الإنصات لها حتى في منازلهم، من خلال اقتناء شريط من تسجيله، بثمن 10 دراهم، بعد ذلك ينتقل إلى إنشاد بعض الحكم ومقاطع ساخرة: “وحيت باها مفلس.. مشا الكوزينة ونعس، خلا بنتو كالتونس مع المكي ولد رقية”.
وللإشارة فقط، فقد كان هؤلاء الحلايقية، خاصة من يتوفر على وسيلة نقل، يطوف على كثير من الساحات بالدار البيضاء، ومنهم من يسافر إلى حيث الأسواق الأسبوعية، حيث تجدهم بسبت تيط مليل، وخميس مديونة، والأحد ولاد فرج وأربعاء العاونات وثلاثاء سيدي بنور وجمعة اسحايم وأسواق أخرى.