ليلى خزيمة
حكاية اليوم يا سادة يا كرام، حلوة وجميلة رغم تشابك أطرافها. رقيقة، تذوب لو لامس الفاه جزءا منها. زائرة خفيفة الظل، لا تفوت فضل صلة الرحم في الشهر الكريم. سمراء بلون العسل تفرح الناظر. لا يستغني عنها المغاربة طيلة شهر رمضان. تزين المائدة وترافق الحساء بكل أنواعه. تعشق السمسم واللوز والسكريات. ترمي بشباكها، فتغوي الصغير قبل الكبير. ربما لذلك أطلقوا عليها اسم “الشباكية”.هذه الحلوى الغنية بالنكهات والتاريخ، ليست مجرد حلوى بسيطة، بل هي رمز للألفة والتقاليد، وتحتل مكانة خاصة في قلوب المغاربة وثقافتهم. تصنع من عجينة بنكهة السمسم واللوز، ويتم طيها بطريقة فنية. يتم قليها ثم تغطيتها بالعسل.”الشباكية” هي تحفة حقيقية من فن الطبخ المغربي. وحضورها ضروري خلال شهر رمضان المبارك في المغرب. فهي ترافق الأمسيات العائلية ولحظات المشاركة. ولولادتها يقول البعض قصة عشق مستحيل. وهي ما سنتعرف عليه اليوم في حكاية شهرزاد.
الرواية
تحكي الجدات، أنه في زمن ما، كان هنالك بائع حلويات يتجول بعربته وسط الأزقة وبين المنازل لبيع الحلوى التي يصنعها. ذات يوم، وهو ينادي ببضاعته في أحد الأزقة، لمح فتاة جميلة كانت تطل من خلف شباك غرفتها بأحد المنازل. فأسرته بجمالها من النظرة الأولى. فراح يتردد على الحي بغية رؤيتها. مع توالي الأيام، وقع بائع الحلوى في عشق الفتاة الجميلة، لكن لم يكن قادرا على البوح بذلك الإعجاب ولا بالحديث مع الفتاة. فما الحيلة وما العمل؟ فكر الحلواني في طريقة يعبر بها عن حبه لفتاته. فقرر أن يصنع حلوى مميزة وخاصة، فاهتدى بعد أيام من التفكير لصناعة حلوى سماها “الشباك”، تيمنا بالشباك الذي كانت تطل منه الفتاة. صنع منها ما تيسر وقصد الحي الذي تقطنه تلك الجميلة. لكن المفاجأة،تقول الرواية، كانت صادمة. حيث وجد أن الفتاة أصبحت عروسا وستزف إلى غيره. فعاد مسرعا وحزينا ومكسور الخاطر إلى بيته المتواضع. ووجد بقايا عجين حلوى “الشباك”التي شكلها على شكل أشرطة ما زالت تنتظر استكمال المرحلة الثانية من تشكيلها وطهيها.من غيظه وشدة حزنه، أخذ يُدخِل شريطا في شريط في محاولة منه لتغيير معالم “الشباك” الذي يذكره بفتاته الحسناء. وهو ما جعل تلك الحلوى تأخذ شكلها الحالي المتشابك. فأصبحت الحلوى “الشباكية” معروفة عند القاصي والداني. معشوقة من القظمة الأولى لأنها مصنوعة من لوعة الحب. وبقيت هذه الرواية تحكى عند كل موسم رمضاني تقوم الجدات والأمهات فيه بصنع من يتفق على حلاوتها المغاربة والعالم بأسره.
اكتساب الشعبية
“الشباكية”المغربية، المتأصلة في تراث الطبخ المغربي، تنسج جذورها في الماضي البعيد، حيث بدأت كرمز للاحتفال والمشاركة وهي حلوى تحيي الحواس برائحتها. ويعتبر تجهيزها فنا دقيقا يتطلب مهارة وصبرا. وهو يرمز إلى ثراء تقاليد الطبخ المغربية. يتم إعدادها خصيصا خلال شهر رمضان المبارك، لأنها تجسد المشاركة والكرم، وتجمع العائلات والأصدقاء في لحظات دافئة.
تتكون “الشباكية” من الدقيق والعسل واللوز والسمسم والقرفة واليانسون. وإعدادها فن يحتاج إلى صبر ودقة. يتم تقطيع العجين الناعم إلى مربعات بها شرائط، ويتم تحويل هذه الشرائط إلى أشكال تشبه الوردة. ثم تقلى في الزيت وتغطى بالعسل، مما يوفر قواما مقرمشا من الخارج وطريا من الداخل. بعدها، ترش برقائق اللوز أو بحبات السمسم.
بالإضافة إلى مذاقها الغني، تعتبر “الشباكية”أحد ركائز الأمسيات الرمضانية في المغرب. ترافق الحساء بجميع أنواعه أو أكواب الشاي بالنعناع في لحظة من الألفة.
يرتبط تاريخ “الشباكية”ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب. فهي تعكس تأثير الحضارات المختلفة التي مرت عبر البلاد. يبقى الأصل الدقيق لهذه الحلوى محاطا بحجاب التاريخ. ومع ذلك، تقول بعض الروايات أنها كانت موجودةمنذ العصور الوسطى. على مر الأزمنة، تطورت “الشباكية”، وأدمجت التأثيرات المطبخية للوافدين والتجار الأجانب، مع الحفاظ على جوهرها. وفي عصرنا هذا الذي تتعايش فيه الحداثة والتقاليد، تحافظ “الشباكية” على وظيفتها كتعبير أصيل عن فن الطبخ المغربي، ودعوة إلى اكتشاف تراث ومذاق استثنائي.
الرمزية
“الشباكية” أو “المخرقة” أو “كريوش” كما يطلق عليها البعض، بنكهاتها المتشابكة وقوامها الغني، تحتل مكانة خاصة في بانوراما المطبخ المغربي. إن هذا التراث الذي تم تناقله بشغف ودقة من جيل إلى جيل، هو أكبر من أن يكون مجرد حلوى بسيطة. فهو يعكس ثقافة المطبخ الذي يحتفي بالعيش المشترك والضيافة وثراء التقاليد.
“الشباكية” هي أيضا مرادف للتضامن. فقبل أسابيع من بداية شهر الصيام، تجتمع النساء، خاصة في الأحياء الشعبية، في منزل ويقضون ساعات عديدة إن لم تكن أياما في تحضير هذه الحلوى بكمية كافية لتوزيعها على مدار الشهر. فهي لا تحظى بالتقدير لنكهتها الحلوة والمميزة فحسب،بل محملة بالرمزية وترتبط ارتباطا وثيقا بالمناسبات الخاصة.
فخلال الشهر الفضيل، تصبح “الشباكية” المغربية ضرورية. ترافق وجبات الإفطار. فتجلب الحلاوة والراحة بعد ساعات طويلة من الامتناع عن الأكل. ثرائها وغنى مكوناتها يساعد على تنشيط الجسم والعقل.
على طاولات الأعياد،وفي حفلات الزفاف والعقيقة وغيرها من لحظات الفرح، تحتل “الشباكية” مكانا شرفيا، مما يرمز إلى مشاركة حلاوة الحياة والأوقات السعيدة.
مُحافِظة في حداثتها
تختلف وصفة الحلوى “الشباكية” قليلا من منطقة إلى أخرى. مما يوضح تنوع المطبخ المغربي. فهي تتضمن بعض الاختلافات والتعديلات في التوابل المستخدمة أو في تقنية التشكيل، حيث تجلب كل منطقة توقيعها الخاص على هذه الحلوى الشهية. لكن وصفة “الشباكية” المغربية، تبقى دائما محتفظة بجوهرها.
وإذا كانت التقاليد لازالت حية ولازال المغاربة يحافظون عليها ويتمسكون بها، فإن روح الابتكار هي أيضا متواجدة. فالطهاة وعشاق المطبخ المغربي يقومون بإعادة ابتكار مختلف الأطعمة والمأكولات ومن بينها الحلوى “الشباكية”.فيجربون مكونات جديدة أو نكهات مبتكرة في احترام لروح المنتوج التقليدي. هذه الابتكارات هي التي تغني التراث وفن الطبخ المغربي، وتجعله أكثر دينامية.
حمل لواء الاستمرارية
في ظل عالم يتطور باستمرار، تتعرض التقاليد أحيانا لخطر الاندثار في مواجهة الحداثة.لذلك، يمثل الحفاظ على فن الشباكية المغربي ونقله تحديا ثقافيا كبيرا. هذاالفن المطبخي المغربي الغني بالنكهات والخبرة، يتطلب التزاما مشتركا لضمان استمراريته. ففن تحضير “الشباكية”، هو كنز عائلي ومجتمعي يتوارثه المغاربة جيلا بعد جيل. لكن هناك عدة تحديات يمكن أن تغير من ملامحه. وللحفاظ على هذه المعرفة التقليدية، من الضروري تشجيع الأجيال الشابة على تعلم وتعزيز التقنيات التقليدية لإعداد “الشباكية”. لذلك،فالمطبخ السياحي ومنصات التواصل الاجتماعي توفر فرصا جديدة لعرض “الشباكية”وتراث المطبخ المغربي، لأنها وسائل تعتمد على إشراك السكان المحليين والزوار في فن المطبخ المغربي على حد سواء. فمع تزايد شعبية المطبخ المغربي حول العالم، أصبحت الحلوى “الشباكية” سفيرة للنكهات والأطعمة والتقاليد المغربية، لتعرف الجمهور العالمي بثراء الثقافة المغربية.
لدى، فالحفاظ على فن تشكيل وطهي “الشباكية”المغربية ونقله لم يعد مجرد وظيفة الحفاظ على الوصف،بل أصبح الامر يتعلق بالحفاظ على جزء من الهوية والتراث المغربي الحي. وبفضل الجهود الجماعية للتعلم والتكيف والابتكار، ستظل “الشباكية” رمزا نابضا بالحياة لفن الطبخ المغربي. فإذا كان الكسكس الطبق الأول ليوم الجمعة عند المغاربة، فالحلوى “الشباكية” طبق رئيسي في شهر رمضان.