18, أكتوبر 2024

حسن عين الحياة

منفتحة حد الوضوح ومنغلقة كصندوق أسود لطائرة على وشك السقوط
هي امرأة بمواصفات خاصة قد لا تتوفر في بنات جنسها ممن يشتغلن في الحانات على صناعة النشوة للزبناء .. محبوبة ومنبوذة في الوقت نفسه.. قد تصبح سيدة المكان دون منازع في الليل، وفي النهار هي المَنسية التي علمتها الدُربة خلف “الكونطوار” أن “دوام الحال من المحال”، وأن وظيفتها الأساسية خدمة الزبناء بما أوتيَت من “شطارة” وفنون القول والقدرة على مجاراة إيقاعهم في الحكي والشراب.
إنها سيدة “البار” الأولى التي يصطف أمامها الزبناء بتودد، فتنمحي في حضرتها وظائفهم ووضعهم الاعتباري في المجتمع.. فالكل أمامها سواسية، ولا فرق عندها بين هذا أو ذاك، إلا من يدفع أكثر عند سداد الفاتورة، أو يقدم لها قنينات الجعة التي تتحصل على نصيب من ثمنها عند احتسائها (الفيتشة)..
إنها “البارميطة”.. كائن هلامي عصيٌ على الضبط.. كلما اقتربتَ منه في هذه الحانة أو تلك، تجد نفسك تبتعد عنه بمسافات.. منفتحة حد الوضوح، ومنغلقة كصندوق أسود لطائرة من طراز قديم على وشك السقوط.
“المنعطف 24” تنقب في هذا الصندوق الأسود، وتسلط الضوء على هذه المهنة الخارجة عن أي تصنيف، وتلامس شيئا من حقيقة “البارميطات”، باعتبارهن كائنات غامضة يصعب اختراقها، اللهم النزر القليل الذي يفتح قلبه، تماما كما فعلت بعضهن معنا في هذا الروبورتاج.

“بارميطة” متذمرة توزع الابتسامات على الزبناء..!

ما أكثر الحانات في مدينة عملاقة مثل الدارالبيضاء، وتحديدا في أحيائها الراقية، كوسط المدينة والمعاريف وأنفا وعين الذياب… وما أكثر مرتاديها، ممن يفضلون احتساء الخمور تحت الأضواء الخافتة وانبعاث الموسيقى الصاخبة، التي تزداد حرارتها كلما وجدت أجسادا أنثوية تتمايل على إيقاعاتها. لقد وجدت هاته الأجساد نفسها مجبرة على اقتحام هذه العوالم الليلية التي لا يلجها عوام الناس.. إذ أن أغلبن “بارميطات”، أو نادلات يوزعن المشروبات الكحولية على الطاولات، أو نديمات يلجن هذه الفضاءات خصيصا لتنشيط جلسات الزبناء، رجالا ونساء، ولكل واحدة منهن قصة مؤثرة، تتفجر بالألم، وتحكي عن دخولها الأول لهذه الفضاءات الحبلى بالانكسارات.
في إحدى حانات وسط المدينة، دخلت “البارميطة” ماجدة (اسم مستعار) متأخرة بربع ساعة عن دوامها الذي ينطلق من السادسة مساء إلى الثانية صباحا.. بدت متعبة وعليها علامات الإرهاق. ورغم ذلك، أمطرتها “البارميطة” التي ستترك لها مكانها بشتى النعوت القدحية، وقالت لها بعد لوم شديد: “كان ينبغي أن تأتي على الأقل قبل نصف ساعة حتى نراجع الحساب، والآن سأضطر للمكوث هنا ساعة أخرى”.
وعزت ماجدة التي تبلغ من العمر 32 سنة، سبب تأخرها إلى كونها رافقت ابنها الصغير إلى المستشفى بعدما تعرض لوعكة صحية، وعوض أن تظل معه، أوصلته إلى منزل والدتها، وأسرعت إلى الحانة. لكن زميلتها لم تبالي بظروفها، فاشتكتها إلى صاحب الحانة الذي لم يتردد بدوره في تأنيبها عن التأخير، قبل أن يهددها بالطرد، إن هي تأخرت مرة أخرى، ولو بدقيقة.
فتحت ماجدة قنينة جعة من نوع “هينيكن”، وشربت محتواها دفعة واحدة، ثم استلت سيجارة من علبة موضوعة بين قارورات الخمور المثبتة على رفوف الحائط خلف “الكونطوار”، يبدو أن زبونا ما نسيها ليلة أمس، ودخنت ملء رئتيها، بينما عينيها الذابلتين، تفيضان دمعا.. ومع ذلك، أخذت توزع القنينات على الزبناء.. فهذا عملها، وينبغي لها، كما قالت في حديثها إلينا، أن تترك كل شيء وراءها حتى يمر “سربيسها على خير”.
كانت توزع الابتسامات على الزبناء الذين يفضلون احتساء الجعة والخمر أمامها في “الكونطوار”، لكنها في الوقت نفسه متذمرة إلى أقصى حد. “صاحب الحانة لا يبلي بنا نحن العاملات.. يريد جمع المال فقط، ولا يدري أننا نحن، (البارميطة) والنادلات، هن اللواتي يمتلكن شيفرة الزبناء، ومن أجلنا يأتي هؤلاء للتسلية”. تقول ماجدة، وتضيف “تغيَّبت ربع ساعة فقط، فهددني بالطرد.. بالنسبة له، ينبغي على (البارميطة) أو النادلة، أن تترك مشاكلها خلف ظهرها، وأن تؤمن بأنها مجرد آلة لتحريك النشوة في هذا البار.. يريدكِ أن تكوني مبتسمة دائما، وأن تجاري إيقاع السكارى حتى يشربوا أكثر.. ويدفعوا أكثر، وفي نهاية المطاف، هو المستفيد الأكبر في هذه العملية”.
لكن كيف يستفيد؟ تجيب ماجدة وهي تحتسي بنهم قارورتها الرابعة من الجعة: “كنخدمو معاه بجوج دريال.. وكنديرو كلشي.. لكن أبسط حق ديال الشغل ماديروش معانا.. راه حنا خدامات وكَاع ما مديكلارين في لاسينسيس.. واش ومستافد ولا ولا..؟”، تتساءل ماجدة، قبل أن تضيف أن أغلب “البارميطات” في حانات الدارالبيضاء، غير مُصرحات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.. وحينما تطالب الواحدة منهن بحقها، تجد نفسها خارج الحانة.. “لذلك، لا تستقر “البارميطة” في “كونطوار” واحد، فالمحظوظة منهن، تعمر فيه لثلاثة أشهر أو ستة كأبعد تقدير”، تقول ماجدة.

“البارميطة” وأسرار “الفيتشة”

وغير بعيد عن هذه الحانة، تعمل سوسن هي الأخرى “بارميطة” في بار يتميز عن الأول بجودة خدماته.. مُكيَّف ونظيف. تنبعث منه موسيقى هادئة، فضلا عن تقديمه وجبات متنوعة (الطابَّة) للزبناء الذين يبدون أوفياء لهذا المكان الأشبه بعيادة نفسية.
كانت الحانة مكتظة عن آخرها، ولا مكان لزبون آخر في “الكونطوار” الذي تبدو سوسن (اسم مستعار) سيدته بدون منازع.. تضحك مع هذا، وتشرب الجعة مع ذاك، فيما زبون آخر يدعوها لتشرب معه من قارورة “الروج” التي فتحتها للتو، لكنها، تغمزه كي ينتظر حتى تفرغ من زبونها الذي أهداها 6 قارورات جعة من نوع “هينيكن”.. الكل في “الكونطوار” يخطب ود سوسن. فهي شابة في الثلاثينيات من عمرها، ترتدي تنورة قصيرة، فيما صدرها المكتنز شبه عاري.. وما يضفي عليها الإثارة الأكثر، هو تلك السيجارة التي لا تفارق شفتيها. والتي تبدو أنها من إكسسوارات العمل.
عندما تحدثنا إلى سوسن عن طبيعة عملها، قالت بسخرية إن الفرق بينها وبين طبيبة نفسية هو “الشهادة”، ثم أطلقت ضحكة هستيرية، وأردفت قائلة: “كلنا في هذه البار مرضى.. نأتي بهمومنا من المنزل ومقر العمل إلى هنا لنصبها مع كل جرعة.. لقد علمني (الكونطوار) أن لكل زبون قصة جرته إليه، وما يلزمني هو خدمته، وتحديدا الإنصات له والتحدث معه والترفيه عنه، حتى يستكين.. وهي خدمة بمقابل طبعا.. فهو يشرب كثيرا وهذا لصالح الحانة، ثم يهديني قارورات جعة لأشربها أيضا، وكما تعلم، لديَّ نصيب في كل قارورة (الفيتشة)”.
وفي بوحها المتواصل، قالت سوسن إنها لم تعد تشترط على صاحب الحانة ضرورة احترام قانون الشغل.. فقد تعلَّمت الدرس من تجاربها السابقة، ذلك أنها كانت وفق تعبيرها، كلما طالبت بتقليص ساعات العمل أو الانخراط في الضمان الاجتماعي، يتم طردها لتجد نفسها عالة على والدتها وشقيقتيها في البيت. وبالتالي، عليها القبول بالأمر الواقع. لكن ما السبب؟ تجيب سوسن “أنا خدامة بـ80 درهم للنهار، وعندي نهار راحة فالصمانة.. يعني كنخدم 26 يوم.. إذن كنشد فالشهر 2080 درهم.. هاذ الخلصة مكنقربش ليها، حيت كندخل فالنهار (من 6 مساء إلى 2 صباحا) بين 500 و1000 درهم”.
بالنسبة لسوسن التي كانت صريحة للغاية، إنها تشرب في “الكونطوار” بين 10 و20 جعة كهدية من زبنائها.. وتتحصل على 10 دراهم عن كل قارورة تشربها، فضلا عن “البوربوار” الذي يبتدئ من 5 دراهم إلى 100 درهم، وذلك بحسب كرم الزبون. لكن هل ما تجنيه “البارميطة” فالليلة الواحدة تحتفظ به لنفسها؟

هكذا أصبحتُ “البارميطة”

انتقلنا إلى حانة أخرى، والتقينا بنوال (اسم مستعار) وهي “بارميطة” سابقة في الأربعينيات من العمر، تشتغل مؤقتا نادلة. بالنسبة لها إنها لجأت إلى “البار” وهي في سن مبكر، وقد دفعتها ظروفها العائلية بإحدى مدن الشمال إلى مغادرة المنزل بعدما اكتشفت أنها حامل من رجل تنكر لها، لتجد نفسها تائهة في الدارالبيضاء. وتحكي في حديثها إلينا أنها تعرضت في البدء لشتى أنواع الاستغلال، قبل أن تلج الحانة مكرهة كنديمة تنشط جلسات الزبناء، من أجل ابنتها التي تكفلت بها إحدى جاراتها.. “كنت فالأول كندير كلشي باش نخلص لكرا ونشري لحليب وليكوش لبنتي وندوَّر مع جارتي للي شادة ليا البنت.. لكن شوية بشوية بديت كنخدم سرباية فالبيران حتى وليت بارميطة”. تقول نوال، وتضيف أن من مساوئ هذه المهنة أن صاحب الحانة يقتسم معكِ الأرباح ولا يقتسم معكِ الخسارة.. ففضلا عن الأجر الهزيل الذي تتقاضاه “البارميطة” في الشهر، فهي تعتمد كثيرا على “الفيتشة” و”البوربوار”، وبالتالي “إلى سْلت ليك كليان وماخلصش، خاص البارميطة تخلص فبلاصتو.. مايتعاتقش معاها مول البار ولا الجيرون”، تقول نوال، وتضيف، أنه بعد انتهاء الدوام في الليل، يجب على “البارميطة” والنادلات أن يجمعوا ما حصلوا عليه من “البوربوار”، بحيث يأخذ منه صاحب الحانة نسبة معينة، متفق حولها، فيما يتم اقتسام الباقي بين “البارميطة” والنادلات و”الفيدورات”.

حِيَل “البارميطات” للحصول على المال من “الكليان”

أحيانا يخيِّم الركود على حانة ما، بسبب هجرة “الكليان” نتيجة زيادة في أثمان الخمور، أو بسبب سوء الخدمات، أو شُح صاحب “البار” في تقديم “الطابَّة” للزبناء.. وهنا تلجأ “البارميطة” وفق نديمة جربت اغلب المهن في “البار” إلى بعض الحيل حتى تضمن مدخولها الليلي.
وبحسب النديمة، إن “البارميطة”، منذ ولوجها “الكونطوار”، تضع نصب عينيها مبلغا معينا ينبغي أن تحصل عليه بشتى الطرق، خاصة وأنها تشتغل مقابل أجر شهري هزيل وفي ظل انعدام أبرز حقوق الشغل. فهي في الغالب تكون المعيلة الوحيدة لأسرتها.. وبالتالي عليها أن تسدد مصاريف الكراء و فاتورة الماء والكهرباء، وأيضا مستلزمات الأطفال إن وجدوا، وتطبيب والدتها فضلا عن المأكل والمشرب.. لذلك “حتى واحد من لكليان تاع الليل ماكيعقل عليها بنهار”.. وهنا عندما تلج “البارميطة” الحانة، سواء في دوام النهار أو الليل، تعتبر نفسها محاربة من أجل لقمة العيش. ولا ضير أن تلجأ إلى بعض الحيل للحصول على المال من “الكليان”، تقول النديمة.
إحدى هذه الحيل، تركيز “البارميطة” على زبون معين في “الكونطوار” وتفتح قلبها له، وتجاريه في إيقاع الحكي والشراب وربما تغني له وترقص على الموسيقى الشعبية التي يفضلها.. فجأة تنادي على حارس الحانة (الفيدور) وتطلب منه أن يتبع زبونا آخرا غادر خِلسة دون أن يسدد فاتورته الباهظة (مثلا 700 درهم). وفي الغالب، تقول النديمة، إن الشخص الهارب لا وجود له أصلا، ولا يعدو أن يكون مجرد وسيلة لاستدراج عطف الزبناء.. وهنا تذرف الدموع للتأثير على “الكليان” الذين يعرفون مسبقا “أنها خاصها تخلص فلوس الشراب فبلاصة للي هرب ليها”، خاصة وأن صاحب الحانة لن يخصم المبلغ أثناء الحساب. في هذه الحالة، تضيف النديمة، يلجأ الزبون الأول إلى تسديد الفاتورة نيابة على الهارب المفترض، أو “كيتفاردو جوج ولا ثلاثة لكليان” في المبلغ، فتضمن “البارميطة” مدخولها الليلي بدم بارد، لكن مع استعمال الحيلة طبعا.
ومن الحيل أيضا، أن تقفل “البارميطة” خط هاتفها.. وحين تلج “الكونطوار” يسألها “الكليان” الأوفياء لها عن سبب قفلها للخط، بعد مهاتفتها، فتخترع قصة تقول من خلالها إن أحدا ما سرق هاتفها بالليل، أو سقط منها فانكسرت شاشته وهو قيد الإصلاح مقابل 800 درهم، فتجد من يشتري لها هاتفا آخر، أو يمنحها ثمنه، أو على الأقل أن يؤدي ثمن الإصلاح، مقابل أن تسهر معه في حانة أخرى.
وبحسب النديمة، إن إحدى “البارميطات” اشتهرت بكونها تحيي عيد ميلادها كلما انتقلت للاشتغال في حانة معينة، حتى أنها تنظم لها في السنة أكثر من 10 أعياد ميلاد.. وفي ذلك قصة أخرى.
تقول النديمة، إن هذه “البارميطة” تدعو زبنائها قبل أسبوع إلى عيد ميلادها الذي غالبا ما يكون يوم الجمعة أو السبت.. ولأنها جميلة جدا، ومكتنزة، يكتظ الزبناء خلال هذا الحفل على “الكونطوار”.. فتسقي هذا وتغني للآخر وترقص لذاك، فتنهال عليها الهدايا حتى من الزبناء الذين يتحلقون حول الطاولات البعيدة عن فضائها المخصص.. “أنا براسي درتها.. ولكن في عيد ميلاد حقيقي.. وكانت الهدايا إما فلوس ولا ذهب ولا بورطابل.. إيوا تخيل هاذ البارميطة شحال غتصور إلى دارت 10 أعياد الميلاد في عام واحد”، تقول النديمة.

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version