21, نوفمبر 2024

خزيمة ليلى

في الوقت الذي قالوا عنه أنه في طور الانقراض وأن من يتقنون الحرفة ماتوا أو أخذ منهم الدهر عتيا، وأن الأسر والعائلات أخذتهم دوامة التقليد الأجنبي، أخرج رأسه من قمقم كل هذه الافتراضات، ليقول دون الهمس ولو بحرف، أنه كان فقط يجدد شبابه ويعيد قراءة مجتمعه،ليُخرج الصيغة المناسبة لمراجعة أبجديات الحياة.

فرنه لا زال كما هو، بالحي الذي يقطنه، لم يعد يجمع الحطب المتراكم في جنبات الزقاق، ففي كثير من المدن لم يعد هنالك زقاق بل أحياء بأزقة واسعة، مكنته من إعادة إصلاح هيئته.

لازالت رائحة الخبز الساخن تداعب أنف الكبير والصغير، لازال يستقبل “الوصلة” وهي تتراقص بين يدي الشيخ والطفل والمرأة والفتاة، فرحة بلقائه اليومي أو ربما الأسبوعي.

ما تغير في هيئته هو من يعتني به ويديره ويمتع الأهالي بالروائح الزكية سواء كانت خبزاأو طبق سمك أو دقيقا محمصا لصنع “سلو” في رمضان أو حلوى.

مشاهدات الأسبوع استمتعت بلقاء واحد من الشباب الذين سخروا أنفسهم لخدمة أهل الحي وإطعامهم خبزا ساخنا زكية الرائحة كل يوم كما في الماضي.

حب وعطاء

عبد الله شاب في الثلاثينيات من عمره، اختار أن يغادر مسقط رأسه قلعة السراغنة ليستقر بالعاصمة الاقتصادية. منذ كانصغيرا، اعتاد عبد الله على الاشتغال بطهي الخبز بالفرن التقليدي كأجير.

لذلك قرر أن يَفْرِد جناحيه ويعمل بمشروعه الخاص… قدم إلى الدار البيضاء، واكترى فرنا تابعا لحمام بحي من أحيائها التي لا هي شعبية ولا راقية، ساكنتها من الطبقة المتوسطة.

من خلال حديثنا معه واستفسارنا عن هذا الاختيار قال عبد الله: «منذ صغري وأنا أرى أهالي قريتنا يعجنون الخبز ويطهونه في الفرن التقليدي عند أحد سكان الحي “با صالح”.

كنت أوصل كل “وصلة” تهيؤها نساء حينا…مات الرجل وحل محله ابنه، وعندما كبرت شيئا ما أصبحت أساعده في العمل. ولكسب قوت العيش، قررت أن أفتح مشروعي الشخصي، وحتى لا أضيق على عامل فرننا في القرية، قدمت إلى مدينة الدار البيضاء لأن فرص العمل فيها أكبر.

فاكتريت هذا المكان الذي ترينني فيه».

الحي كما قلنا تقطنه فئة متوسطة، أغلبهم يعمل طوال اليوم ولا يعودونإلا في المساء، لذلك استغربنا لهذا الاختيار، ليشرح لنا عبد الله دافعه واستراتيجيته في العمل: «صحيح أن أغلب من يقطن في الحي يعمل طوال النهار، لكن عند بحثي عن المكان المناسب، لاحظت أن الجميع هنا مشتاق إلى “خبز الدار البلدي” الذي تنبعث منه تلك الرائحة الزكية.

كما أن بالحي موظفون متقاعدون ونساء لا يعملن، فقررت أن أخوض المغامرة وأنجز مشروعي هنا. عشر سنوات مرت على أول يوم بدأت فيه وأعداد الزبائن تتزايد باستمرار.

أصبح فرني محطة أساسية في الحي، حتى النساء العاملات عندما يرجعن في المساء يحضرن خبزهن ويأتين به لي لأطهوه.

وقبل أن أغلق فرني في عطلة عيد الأضحى لأذهب لزيارة عائلتي بقلعة سراغنة، الجميع يسألني، متى ستعود وهل ستطول مدة غيابك عنا. أصبحت لدي عائلة أخرى أكبر من خلال فرني.

أغلق الحمام التابع له بسبب قلة الماء لمدة، لكن فرني بقي مفتوحا».

نظام العمل المحكم

يبدأ عبد الله العمل منذ الساعة الثامنة صباحا. يفتح فرنه ويوقد “بيت النار”. بعد اشتعالها واحتراق الخشب المادة الأساس التي تعطي نكهة خاصة لكل الأطعمة المطهية بالفرن التقليدي، يقوم بتنظيف هذا الأخير، ليصبح في تمام الساعة العاشرة جاهزا لاستقبال عجين الخبز.

سُيول من “الوصلات” توضع على الرفوف كل يوم وفي كل دقيقة.

الشخص العادي لن يستطيع التذكر والتفريق بين خبز هذا وخبز ذاك، لكن عبد الله يستطيع شأنه شأن كل العاملين بأفران “الحومة” التقليدية.

وعن سر تمكنهم من ذلك قال: «المسألة ليست بتلك الصعوبة…فهنالك طرق عدة للتعرف على خبز كل عائلة، أولها الأواني.

فلكل عائلة أواني خاصة بها تحمل كل واحدة منها علامات مميزة، سواء كانت نقوشا أو ألوانا خاصة أو بقعة صباغة تضعها العائلة للتعرف عليها. كذلك غطاء الخبز، فلكل عائلة ثوب معين.. ثانيا التوقيت الذي أصبح روتينا يوميا.

كل عائلة لها توقيت معين حسب نمط الحياة التي اعتادت عليه، إما في الصباح أو بعد الزوال أو المساء وهذا التوقيت الأخير يكون غالبا للنساء اللواتي تشتغلن ولا ترغبن في حرمان عائلاتهن من متعة رائحة الخبز وطراوته.

شيء آخر، هو أنه عندما يأتي كل واحد بعجينه، فهو لا يضع “الوصلة” ويذهب، بل نتجاذب أطرافالحديث ونتعرف على بعضنا أكثر فأكثر ونتقاسم هموم ومشاكل الحي ونسأل عن الجيران في حالة ما تغيب أحدهم عن موعده. هذا التفاعل الاجتماعي اليومي يساعدني في التعرف على خبز كل واحد وعلى درجة التحميض التي تناسبه.

هناك كذلك نوع الخبز الذي يختلف من عائلة إلى أخرى من خلال الإضافات سواء كانت “بلبولة” أو رشم معين أو أن الخبز مجهز مباشرة على “الطاوة” أو عليه بعض الأعشاب المُنسمة، وما إلى ذلك. فلكل عائلة طريقتها الخاصة بها في تحضير الخبز».

الفرن التقليدي يلبس حلة أكثر أمانا

أصبح هذا الفرن التقليدي مصمما بطريقة أكثر حداثة، تمكن المكلف بإدارته من تفادي العديد من المخاطر.

فلم تعد هنالك تلك الحفرة التي ينغرس فيها العامل والتي تحكم عليه بالتعرض المباشر للهيب النار المشتعلة بالداخل.

في الماضي، كانت العملية وكان الفرن ملتصقا بما يسمى باللهجة المغربية “الفرناطشي”. كلمة عند سماعها وكأنها قادمة من عالم آخر، وهي كذلك، فعالم “الفرناطشي” لا يشبه أي مكان آخر..أول خصوصياته، تواجده تحت الأرض وفي غالب الأحيان دون درج آمن يسهل عملية النزول والصعود.

بل العامل فيه يستعين بكومة الحطب للدخول والخروج، وعند أول حادث يبقى هذا العامل محتجزا ولا يقوى أحد على مساعدته، حتى دخانه لم تكن هنالك فواهة كافية لتسريبه وتخفيف الأذى على “مول الفرناطشي”.

أما الفرن التقليدي/ العصري، فأصبح اليوم جزءا من مبنى فوق الأرض، وإن كان في مستوى منخفض قليلا، فهو مجهز بسلالم ينزل منها ويصعد العامل والزبون.

أرضيته وجدرانه مرصصة “بالزليج”، تضمن السهولة في التنظيف. أما “بيت النار”، فهي عبارة عن علبة ضخمة لها باب حديدي مربع أو مستطيل يفتح ويغلق بآلية محكمة وهو على مستوى العامل به، ضمانا لسلامته وعدم تعرضه المباشر للنار.

كما أن لفرن ” الحومة” اليوم نوافذ.

أما عن العاملين فيه، فبعدما كان الفرن التقليدي يتكون من المعلم و”الطراح” و”الكناس”، أصبحت العملية تقع على عاتق شخص واحد، كما هو الحال بالنسبة لعبد الله.

بل عندما تجد أشخاصا كثر، يكون الفرن قد تعدى مهمة طهي الخبز للعائلات إلى عجن “خبز الدار البلدي”وطهيه لمن ليس لديهم إمكانية القيام بالعملية في بيوتهم إما لضيق الوقت أو لعدم القدرة أو أي سبب آخر.

كما يراعي في هذه العملية احتياجات ساكنة الحي، فيصنع خبزا دون ملح، وآخر بالدقيق الصلب لا غير، وآخر بخليط من أنواع الدقيق، والقائمة طويلة. فرننا التقليدي، أصبح يواكب تطورات عصره دون الانسلاخ عن جلده.

أصدقاء من كل الاعمار وفسحة لصلة الرحم

في هذا المكان الدافئ بكل ما للكلمة من معنى ظاهر ومجازي، يلتقي الطفل ذو السبع سنوات والشيخ ذو الستين، الموظف وصاحب المحل التجاري، لا يفرق بين هذا وذاك.

فالصغار يساعدون “با الحاج” على حمل “وصلته” والشيخ الكبير “يرضى” على الصغار ويجلسهم بالقرب منه ليحكي لهم حكاية سريعة لا تتجاوز مدتها زمن طهي أقراص الخبز التي أحضرها.

عندما كنا في مشاهداتنا لفرن “الحومة”، لاحظنا كما قال عبد الله سابقا،أن نساء الحي يأتين إليه لخبز العجين، فلا تغادر أيا منهن المكان على الفور، بل تبقين لتجاذب أطراف الحديث والاتفاق على مشاريع مستقبلية وضرب موعد قريب للتزاور والاستفسار عنأخبار الجيران.

مثلهن مثل الرجال والشبان والاطفال، كل حسب اهتماماته وسنه.

اليوم كما الأمس، لم يكتف هذا فضاء التراثي بالوظيفة التي أقيم من أجلها، بل أصبح رمزا للتواصل الاجتماعي والعائلي ونقطة التقاء بين الجيران وأهل الحي وعلامة على الهوية المغربية التي تنضح بروح الثقافة والغنى المعرفي والتراثي.

اترك تعليقاً

للإتصال بنا :

مدير النشر : امال المنصوري

amal@24.ma

سكريتير التحرير : احمد العلمي

alami@a24.ma

رئيس التحرير : عبد اللطيف بوجملة

boujemla@a24.ma

Exit mobile version