حسن عين الحياة
هو واحد ممن ارتبط اسمهم بالصحراء المغربية إبان الاحتلال الاسباني، وأحد الذين قلبوا الطاولة على مدريد بعدما راهنت عليهم من أجل “أسْبَنَة” الصحراء.. كان سيد قومه وشيخ كبرى قبائل “الركيبات” وصاحب كلمة الفصل فيها.. وطني من معدن نفيس، وسياسي من طراز رفيع ورجل دين له مكانة اعتبارية بين قبائل الصحراء المحكومة وقتذاك بقبضة الجنرال فرانكو.. إنه خطري ولد سعيد الجماني الذي تمكن بذكائه ونباهته أن يقلب السحر على الساحر، في وقت حاولت إسبانيا أن تجعله أميرا على الصحراء، حيث ترك الجمل بما حمل، وقدم البيعة، في يوم تاريخي، للملك الراحل الحسن الثاني، فقربه منه، وجعله من كبار الشخصيات المرافقة له.
وبحسب بعض المهتمين بسيرة خطري ولد سعيد الجماني، إن الرجل ظل بمثابة المحور الذي تدور حوله قبائل الصحراء إبان تقلده لمهام قبيلة “الركيبات”.. كان متدينا دارسا لعلوم الحديث وحافظا لكتاب الله، وإن لم تطأ قدماه المدارس الرسمية. هذه الخصائص وفق هؤلاء، أهلته ليكون رمزا صحراويا جامعا بين أمور السياسة والدين، وشخصية كارزماتية دافئة، مميزة بحكمة عميقة وبعد نظر قوي للمستقبل. لذلك تركزت أنظار القادة الإسبان حول الرجل إبان الاحتلال الإسباني للصحراء المغربية، قصد استغلال نفوذه، وبالتالي تعميق وطأتها الاستعمارية في الصحراء.
ازداد خطري ولد سعيد الجماني بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى بسنة (1915) بنواحي مدينة كلميم، وتحديدا بمنطقة “ثلاثاء لخصاص”. قضى سنوات قليلة بين هذه المنطقة وتزنيت، قبل أن تجبر الظروف عائلته الكبيرة للانتقال إلى منطقة بين “واد نون” وشعاب الصحراء المتاخمة للحدود الموريتانية. وعكس كثيرين من أبناء القبيلة، عاش خطري في كنف عائلة نافذة، مما جعله ينعم بطفولة مميزة في حضن والده سعيد الجماني الذي كان وقتئذ شيخا لقبيلة “الركيبات”. لذلك تمتد جذور خطري إلى قبيلة “البيهات””، إحدى القبائل الكبرى المكونة لـ”ركيبات” الشرق، وهو أيضا أحد أحفاد الشيخ سيدي أحمد الركيبي، الذي حملت القبيلة اسمه.
الذين اهتموا بسيرته، يقول إن خطري تحمل المسؤولية وهو مجرد شاب بالكاد تجاوز العشرين من عمره، وذلك مباشرة بعد وفاة والده سعيد الجماني الذي كان داعما له في كل خطواته. هذا المُصاب أزم وضعيته وأفقده السند والقوة اللذان كان يستمدهما من ظل والده الشيخ.. لكن حكماء القبيلة، سيضعون حدا لكل الهواجس التي جثمت بثقبها على الشاب خطري، بعدما تقدموا إليه بطلب خاص، قصد تقلد مهام شیخ القبيلة خلفا لأبيه ومن تمَّ إدارة شؤونها. وتبعا لهؤلاء المهتمين، رفض خطري الطلب في البداية، لكنه سينصاع بعد إلحاح الشيوخ، فأصبح وهو حديث السن (21 سنة) شيخا لقبيلة “الركيبات الممتدة جذورها في العديد من البلدان الإفريقية.
ولأنه أضحى صاحب الأمر والنهي في الصحراء، لم ينس خطري ولد سعيد الجماني علاقته بالقصر.. البعض يقول إنها بدأت مند أربعينيات القرن الماضي، فيما آخرون، فيرون أنها بدأت فعليا في سنوات الخمسينيات، وتحديدا حينما حضر خطري رفقة شيوخ آخرين إلى الرباط لتقديم البيعة للملك الراحل محمد الخامس.
وعن هذا الحدث، قال سيدي مولود ولد سلمى (والد مصطفى سلمى القيادي السابق بجبهة البوليساريو)، وهو بالمناسبة أحد رفاق خطري ولد سعيد الجماني، في حديث سابق جمع بيننا، إننا عندما نتحدث عن خطري فإننا نضع أمامنا شخصية صحراوية قحة، جرى حولها إجماع كل القبائل الصحراوية. ويتذكر سيدي مولود أنه رافق خطري سنة 1956 إلى مدينة الرباط لتقديم البيعة للملك الراحل محمد الخامس مع مجموعة من شيوخ القبائل الصحراوية. ويضيف أن الملك كان آنذاك قد عاد للتو من المنفى، وكان بجانبه الوزير أحمد بلا فريج، وعن الجانب الآخر علال الفاسي. حينئذ طلب من مرافقيه أن ينادوا على الوفد القادم من قبيلة “الركيبات”، ولما مثلوا بين يديه استقبلهم استقبالا حارا، ثم أمر بأن تخصص لهم إقامة خاصة بأحد فنادق الرباط. بعد بفترة وجيزة أرسل لهم محمد الخامس رجلين هما علال الفاسي وأحمد بلا فريج قصد اختيار من سيمثلون بين يدي الملك.. “كنت ضمنهم آنذاك، وقد قال سيدي محمد الخامس: (من هم هؤلاء؟)، فقال قائل: (هؤلاء من قبيلة الركيبات)، وكان ضمنهم خطري ولد سعيد الجماني، ثم قال للشيوخ: (الذي هو أكبر مني سنا فهو أبي، أما الذي في مثل سني فهو أخي والأصغر فأنا أعتبره إبني). يقول سيدي مولود.
ظل خطري ولد سعيد الجماني على علاقة دائمة بالقصر.. هذا الطرح أكده حفيده إبراهيم الجماني في تصريح له، بالقول إن الاتصالات بين جده والقصر بدأت منذ كان الملك الراحل الحسن الثاني وليا للعهد في خمسينيات القرن الماضي، مؤكدا أنهما التقيا في مدينة طرفاية، واستمرت الاتصالات بينها عن طريق وسيط ظل بمثابة حلقة الوصل بينهما..
وعن هذه العلاقة، قال بعض المقربين من خطري، إنه في سنة 1957، كان جيش التحرير قد شكل نواته الأولى، فامتد نداؤه إلى قبائل الصحراء. ولأن خطري كان سيد قومه، انخرط في هذا “التنظيم” دون تردد، ليكون دخوله ممهدا لانخراط الشيوخ والشباب الذين كانوا تحت إمرته في الصحراء. لكن، بحسب هؤلاء، سرعان ما زاغت سكة هذا “الجيش” عن مبادئه الأولى التي انضم من أجلها الشيخ خطري وأتباعه، خاصة بعدما قرر بعض قادة جيش التحرير في الصحراء الإعداد لانقلاب على القصر.. هنا يقول إبراهيم الجماني في إحدى تصريحاته عن هذا الحدث، إن جده لم يكن مقتنعا بأفكار جيش التحرير التي كانت تسعى إلى المس بالنظام الملكي.. بل وقف ضد هذه الأفكار رفقة مجموعة من الصحراويين، مما تسبب له في خلافات مع قادة “التنظيم”، قبل أن يصبح مستهدفا من قبلهم. آنذاك، يضيف ابراهيم الجماني، فر خطري الذي كان خاضعة لحراسة مشددة، بعدما تنكر في زي نسائي، ولم يجد نفسه إلى وهو خارج الحدود، فأبطل مخطط هؤلاء.
انتخب خطري رئيسا للجماعة الصحراوية، كما كان عضوا في “الكورتيس” الإسباني (البرلمان الإسباني)، وقد كان ذلك مدخلا للصراع مع الإسبان. ولعل أحد تجليات هذا الصراع، تقول بعض المراجع، هو حينما استقبل الحاكم الإسباني الجنرال فرانكو بحضور كبار المسؤولين خطري ولد سعيد الجماني في مدريد. كان ذلك ثمانية أشهر قبل انطلاق المسيرة الخضراء، وكان فرانكو يهدف من وراء اللقاء إلى إقناع الشيوخ الصحراويين، بأن يكونوا إلى جانب إسبانيا.. وقتها وجه سؤالا محددا للجماني حول ردة فعله إذا ما قام المغرب بدخول الصحراء عنوة في محاولة لاسترجاعها، وهل سيدعم القوات الإسبانية لترجيح كفتها على القوات المغربية. حينها رد الجماني بأن الصحراويين غير معتادين على محاربة إخوانهم المغاربة، فغضب فرانكو وأنهى اجتماعه قائلا: “يعني بأنه لا يمكننا المراهنة عليكم إلى هذا الحد”، فكان جواب الجماني حاسما: “بالتأكيد سيدي الجنرال”، فرد فرانكو بغضب: “انتهى الاجتماع”.
خلال سنة 1975، وبينما كان الملك الراحل الحسن الثاني يستعد لتنظيم المسيرة الخضراء، كان خطري ولد سعيد الجماني يعد بدوره خطة لقلب الطاولة على إسبانيا التي راهنت عليه ليكون حاكما على الصحراء.. إذ في سرية تامة، حلق خطري من الصحراء إلى إسبانيا.. مكث هناك قليلا قبل أن يعود للمغرب، وتحديدا إلى رحاب القصر الملكي لتقديم البيعة للملك الراحل الحسن الثاني.
وبحسب سيدي مولود، إن الملك الراحل استقبل خطري استقبالا لا يليق إلا بالأبطال، لا سيما وأن الصحراء كانت لا تزال حينها خاضعة للنفوذ الإسباني.. وقتها نزع الحسن الثاني سلهامه وألبسه لخطري ولد سعيد الجماني، ثم قال له بالحرف: “خطري.. جيتي لابس الدراعية الصحراوية.. وهاك السلهام المغربي”.. وبحسب بعض المهتمين بقضية الصحراء المغربية، إن هذا الحدث البارز الذي نقله التلفزيون، غير موازين القوى بين المغرب وإسبانيا وقتذاك، خاصة وأنه كرس مفهوم البيعة التي ظلت تربط سكان الصحراء بالجالس على عرش المغرب.