صدر للقاص والروائي المغربي محمد مباركي إصداره السّابع وهو الجزء الأوّل من ثلاثيته “مُهجة” عن مطبعة Rabat- Net بدعم من وزارة الثّقافة. ويتكون هذا الجزء من 40 فصلا ومن 352 صفحة من الحجم المتوسّط. أنجز في هذه الرّواية الشّاعر والنّاقد “الطيّب هلو” دراسة عنونها ب”جمالية النص الروائي في “مُهجة” محمد مباركي”
تعد رواية “مهجة” لحظة روائية عميقة ومهمة في مسار الرواية المغربية، تعود بنا إلى زمن السرد الجميل بكل قوته وعرامته الفنية واللغوية وطاقته التخييلية، كما تكشف عن ضراوة الصراع من أجل البقاء عبر استحضار تاريخ طويل من العبودية والقرصنة واستنزاف البشر.
فعلى امتداد ما يقرب من 352 صفحة تمتد المساحة الورقية للرواية التي اختار صاحبها توزيعها إلى 40 فصلا. أما على مستوى مساحتها النصية والتخييلية فإن هذا العمل يتكئ على تاريخ مزدوج؛ حقيقي بمعطياته ومعلوماته ومتخيل من خلال أحداثه ووقائعه، وذلك في إطار لعبة سردية غاية في الإيهام بالتاريخية والواقعية. وقد أتقن الكاتب هذه اللعبة السردية بتوظيف لغة تاريخية رصينة تحول النص إلى وثيقة. كما أنه استطاع من خلال ذلك تقديم تصور عن أركيولوجيا العنف الذي تشهده بلداننا المعاصرة، فالماضي العنيف بقراصنته وظَلَمَته هو ما أوصل حاضرنا إلى كل هذا العنف والاسترقاق المعنوي والمادي تحت أسماء مختلفة، لكن الأجمل في هذه الرواية أن محمد مباركي طرز بلغة جميلة هذا الوجع وصوره بريشة روائي محترف. ولعل تفسيري لذلك هو أن هذه الروائي يعيش بكل جوارحه مع شخصياته ويستطيع أن يتقمص لغة وثقافة العصر الذي يكتب عنه، خاصة وأنه أستاذ للتاريخ ويدرك لغة العصر الذي يحاوره ويلاعبه روائيا.
المتن الحكائي للرواية:
اختار محمد مباركي موضوع العبودية والاسترقاق في أوساط صقالبة الأندلس في فترة تاريخية غير محدّدة. وتتبّع المؤلّف خلالها أمة صقلبيّة سمّاها “ليزا” من قرية تقع شمال بلاد “الخزر”، وهي الأراضي الواقعة شمال بحر “قزوين”. باعتها أمّها إلى أحد سماسرة نخّاس يهودي يسمّى “نعوم بن شلوم” الذي ربّاها في داره تربية رقيق “العليّة” ثمّ صدّرها إلى الأندلس. اشتراها شخص من مرفأ “دانية”، يسمّى “شعلان بن زهرة الباهلية”، خبر تربية الرّقيق في دار كفيله النّخّاس. حوّل اسمها إلى “مُهجة”. واستغلّها في دار فسق بناها في ربض قريب من الحاضرة الأندلسية، سميّ باسمه. عاشرها، فعلقت منه وأصبحت “أمّ الولد” حسب الشّريعة الإسلامية. ورثت كلّ تركته بعد مقتله على يد أحد عبيده ويسمّى “أفلح” الذي هرب إلى جنوب الأندلس حيث ثورة أشعلها أحد العبيد الآبقين ويسمّى “فانوس”. هذه الثّورة التي سيرفع صاحبها شعار تحرير كلّ العبيد على اختلاف أصولهم وألوانهم ومللهم.
نعمت “مهجة” بحياة الحرّية، وتزوّجت من “أبي الفضل زيّان”، وهو إمام مسجد قريب من منزل اشترته في وسط الحاضرة. أحبّ الإمام المرأة حبّا جنونيا أعماه عن ماضيها البغيض. عاش الزّوجان في سعادة دون إنجاب الولد.
ترقى “أبو الفضل” إلى منصب قاضي الحاضرة، وعاد من “بياض” القوم في الأندلس. يجالس الأمير وكبراء الدّولة… أوعز له أحد أصدقائه بالزّواج من امرأة ثانية تنجب له الولد.
أخبر “أبو الفضل” زوجته “مهجة” بنيته في الزّواج، رفضت الفكرة من أساسها وطلبت منه أن يطلّقها ويسفّرها إلى أهلها في بلاد “الخزر”. وذلك ما وقع. سافرت المرأة راكبة سفينة “المها” الأندلسية، لكنّ القراصنة اعترضوها وسط بحر “الرّوم”.
تقنيات الكتابة الروائية:
عبَرَت الرواية مسارات متعددة, وارتهنت في بعض هذه المسارات إلى التاريخ الذي بدا إطارا جامعا للرواية، إذ ساهمت المعطيات التاريخية في نشأة الرواية وتكونها، لتنتقل بعد ذلك إلى رصد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لمرحلة زمنية مهمة من التاريخ الاجتماعي والإنساني من خلال علاقات الحب الجارفة، حيث عجت بالمواقف العاطفية، في انسيابية جمالية بعيدا عن أي إقحام قسري وإكراه للرواية على تحمل هذه المواقف أو تلك، لتصل إلى مرحلة معالجة الانكسارات والكشف عن الخيبات، بسبب العقم أو الاسترقاق والسبي أو المكيدة والوشاية.
نصل مع الكاتب إلى مرحلة من التشظي، حيث نكاد نقول إن كل شخصية شكلت مسارا خاصا بها داخل المسار العام، وقد لملم الكاتب هذه الشظايا الخاصة بلحمة فنية قوية لا تترك مجالا للفجوات والشقوق، كما ساهم هذا التشظي في سبر العمق النفسي، سواء الواعي أو اللاواعي لكل شخصية من الشخصيات الرئيسية.
وحتى لا يتيه مني القول سأنطلق في تحليل “مهجة ” من مسائل متداخلة تنسج ما أسميه “جمالية النص الروائي” لأكشف من خلال تداخلها عن بعض أوجه جمالية هذه الرواية وهي :
1- خدعة اللعب : حين يشتت الكاتب أحداث الرواية ويتلاعب بكل عناصرها بدءا من اختيار بناء خطي تبدأ فيه الحكاية من نقطة وتمتد إلى خاتمتها إلى إدراج محكيات صغرى مما يدفعها إلى أن تكون ذات بنية تناسلية.
2- اعتماد لغات متعددة: إذ تغرق في القرب عبر استعمال لغة سردية خالصة وتمعن في البعد عبر لغة شعرية مفعمة بالانزياح وغارقة في التناص خاصة التناص الشعري والقرآني، حيث يوظف الكاتب هذه النصوص بانسيابية عجيبة تكاد تخفى على القارئ. ويبقى السؤال الأخطر هنا: هل كان الكاتب يقصد إلى ذلك ويعيه، أم أن لغته المشبعة بالمحفوظ وإدمانه على القراءة هما اللذان صبغا لغته بذلك لتغدو بهذه الشعرية المنسابة الجميلة؟
3- ـ لعبة الشك وفقدان الثقة: إذ يحرص السارد على زرع فخاخ الشك منذ بداية الرواية ويثير القلق عند القارئ وعند شخصيات الرواية، مما يركز نسبة التشويق في النص ويزيد من منسوب المفاجأة، ويجعل القارئ غير قادر على التنبؤ بما ستؤول إليه الأحداث فيضطر إلى الوقوف على شفير الوهم في أكثر لحظات الرواية إشراقا بالحقيقة وعلى شفير الشك حينما تبدو الرواية أكثر يقينا .. بل حتى عندما ينتهي القارئ ويوشك أن يفك حزام السلامة وينزل عن متن الرواية يداهمه قول الخادمة لسيدتها :” إنهم القراصنة”.
ولعل هذا القول الذي ختم به الروائي روايته كان قوي الدلالة على انفتاح الرواية على أجزاء لاحقة.
3 ـ جدل الإنسان والمكان :
يفتح الكاتب أمامنا الباب مشرعا لاستقصاء هذه العلاقة الوشيجة بين المرأة والمكان، ف”مهجة” ومنذ عنوانها المركب، رواية يتماهى فيها المكان والشخصية حيث تأخذ الشخصية خصوصية المكان ويأخذ المكان الصورة التي تمنحه الشخصية. إن استقصاء المدن والنساء في الرواية يتعذر على مثل هذه الورقة، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التنوع يساهم في التشظي ويمنح الفرصة للفراغ. فلكل مدينة قصتها الصغرى ولكل امرأة حكايتها. وهذا ما فسح المجال واسعا أمام القارئ ليملأ الشقوق وهو على حذر تام من الفخاخ المنصوبة والتي تجعله في أحايين كثيرة يربط الرواية باحتمال أن تكون منقولة من تاريخ حقيقي، لكن أي بحث في هذا المسار لن يحقق المطابقة وسيكون فشل القارئ إذاك ذريعا. وهذا في حد ذاته جزء من خدعة الحكاية, حيث “صِدْقُ الجزء قد يسقطنا في وهم تصديق الكل”.
في الختام :
كثيرة هي الجوانب التي تستحق الانتباه في هذه الرواية، لكن ما قدر لهذه الورقة من حجم لا يسمح باستيفائها حقها جميعا.
أقرر في ختام هذا المقال أننا , ونحن نقرأ رواية ” مهجة” للكاتب المغربي محمد مباركي, انتابنا إحساس بأن أجيالا من كتاب الرواية العربية يقفون وراء هذه الرواية، ليس كنصوص غائبة ترسخت في ذاكرة الكاتب ولاوعيه, وهو القارئ النهم لمتون الرواية العربية، وإنما كظلال متداخلة, تشحن الرواية بالشحنات النفسية, ظلال تحسها ولكن تعجز عن القبض عليها، حيث كلما داهمك أحدها أخفاه عنك أخر , ففي كل مقطع تحس نفسك ترحل جهة رواية ما، لكن بمجرد توهمك بإمساك خيطها تهرب منك لتقول : “أنا مجرد خلفية باهتة لرواية ممتعة اسمها مُهجة.”