*الصافي مومن علي
ان الهدف من طرح هذا السؤال هو محاولة تركيز جوابه على اساس صلب وثابت ، بدل أي جواب اخر مؤسس على رؤية سطحية هشة.
لذلك اعتقد ان الوصول الى هذا الهدف ، رهين بادراك مفهوم لغة الارض.
فما هي اذن لغة الارض ؟
إذا كان مدلول هذه اللغة بالنسبة لعلم الطوبونيميا يقوم علىدراسة أسماء الأماكن والمواقع لمعرفة مصدرها اللغوي، أو علاقتها بعقيدة دينية أو مرحلة تاريخية معينة ، ، فإنه بحسب علم القانون والسياسة ، يعني بالضبط اللغة الوطنية ، أي اللغة المرتبطة بالوطن.
واللغة الوطنية بهذا المعنى تنقسم الى قسمين هما :
1)- اللغة الوطنية الطبيعية.
2)- واللغة الوطنية المكتسبة.
فاللغة الأولى أي الطبيعية هي ما يمكن أن يطلق عليها فعلا لغة الأرض الحقيقية ، على اعتبار أنها هي التي أنجبها شعبها في الأرض التي اتخدها وطنا له ، ومن تم فهي بالنظر لارتباطها العضوي بالأرض التي ولدت فيها ، تقوم بنفس دور ملامح الإنسان، أي تشكل السمة الجوهرية التي تميز هوية شعبها ووطنها عن هوية بقية الشعوب والاوطان ، بدليل أن أرض شبه الجزيرة في الشرق الأوسط على سبيل المثال، بعدما تولدت فيها اللغة العربية، أصبح لها كيان مستقل ، يعرف لدى الجميع بأرض العرب والعربية ، أي : L’ARABIE ، كما تصفها بذلك خرائط الأطلس الجغرافي واللسني المعتمدة دوليا ، ونفس هذه الخرائط تطلق أيضا على أرض شمال أفريقيا الواقعة غرب مصـــر، بلاد البربر والبربرية ، أي: LA BERBERIE ، لآرتباط هذه الارض بالأمازيغية وبالامازيغ ، كما تطلق كذلك على أرض إيران ، بلاد الفرس والفارسية ، أي: LA PERSE، ثم على أوطان المعمور الأخرى اسم اللغة االطبيعية التي انبثقت منها.
أما اللغة الوطنية المكتسبة فهي التي تنتمي الى وطن آخر، غير أنه لأسباب دينية أو اقتصادية أو ثقافية أو كلها مجتمعة ، تدفع شعبا معينا الى تبنيها واضفاء صفة اللغة الوطنية عليها.
وإذا ما شئنا تطبيق هذا المفهوم السياسي والحقوقي على اللغتين الوطنيتين الأمازيغية والعربية المنصوص عليهما في الفصل الخامس من الدستور، منتهجين في هذا التطبيق المنهاج الموضوعي العلمي المستند على الواقع الجغرافي والتاريخي والاجتماعي لشعبنا ، فيمكن القول أن الدستور نص على ترسيم اللغة الأمازيغية باعتبارها اللغة التي خلقها المغاربة في وطنهم ، بعدما اتخذوه موطنا دائما لهم ، وقد عبر جلالة الملك محمد السادس في خطاب أجدير، عن هذه العلاقة العضوية القائمة بين مجتمعنا وبين اللغة الأمازيغية ، بعبارة محكمة وحكيمة ، جامعة مانعة مفادها : ” ان الأمازيغية ملك لجميع المغاربة بدون استثناء”.
اما اللغة العربية فقد أنجبتها كما هو معلوم أرض الجزيرة العربية ، غير أن المغاربة بعد اعتناقهم للدين الإسلامي ، ثم بعد استقلالهم عن الخلافة العربية في المشرق ، وقيامهم بتاسيس دولهم وامبراطورياتهم الخاصة ، التي يحكمون بها أنفسهم بأنفسهم، تبنوها وأضفوا عليها صبغة اللغة الوطنية.
هذا ومما تجدر الإشارة اليه في هذا الصدد ، أن كتب التاريخ تشهد كلها على حقيقة حاسمة هي أن ملوكنا جميعا ، بدءا في الماضي بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي ، ملك دولة أوربة ( الدولة الادريسية) ، مرورا بيوسف بن تاشفين، وعبد المومن الموحدي، وابو عنان المريني ، واحمد المنصور الذهبي ، ومولاي اسماعيل العلوي وغيرهم ، الى الملك محمد السادس في العصر الحاضر، كانوا جميعا أحرارا مستقلين في اختيارهم اللغة العربية عن طواعية وطيب خاطر، مما يجعل هده اللغة تتسم حقا بالصفة الوطنية ، لتمتع المغاربة في اختيارهم لها بسيادتهم وبحريتهم الكاملة ، الغير المشوبة بأي إكراه عسكري ، أو اية قوة مادية اخرى كيفما كانت.
ومن هنا نستنتج أن دستورنا الحالي صادف الصواب فعلا بترسيمه الأمازيغية والعربية ، مدركين حق الادراك بأن ترسيمه للأمازيغية قد فرضته ضرورة حيوية ، تتمثل في المحافظة على الشخصية الطبيعية للشعب المغربي ، المنسجمة مع ارادة الله في خلقه للشعوب والالسن ، لحكمة لايعرفها الا هو عز وجل ، في حين أن ترسيمه للعربية فرضته ضرورة سياسية ، تتجلى في امتلاك المغاربة للارادة الحرة في اتخاذ القرار السياسي المنسجم مع تحقيق مصالحهم العليا.
وبعد ، فإن كانت هذه المقدمة قد عرفتنا على الفرق الموجود بين اللغة الوطنية الطبيعية ، وبين اللغة الوطنية المكتسبة ، فانها تقودنا كذلك الى معرفة حقيقة هامة ذات صلة بالبعد الحقوقي والسياسي للغة الوطنية الذي نتدارسه ، وهي ان لغة الارض الطبيعية بالخصوص تتميزعن نظيرتها المكتسبة ، بخاصية فريدة هي ارتباطها الوثيق بالحقوق الطبيعية للشعوب.
ذلك ان حق الحياة مثلا ، الذي يعتبر الحق الطبيعي الأول لجميع الكائنات الحية ، إن كان بالنسبة للإنسان العادي يكمن في روحه ، فإنه بالنسبة للشعوب يكمن في لغاتها الطبيعية الخاصة ، استناذا الى قاعدة عامة من قواعد القانون الطبيعي تقضي بان الشعوب تحيا بلغاتها الاصلية ، وانها تموت حتما اذا ما قررت العيش بلغة اخرى ، هذه القاعدة التي اكدت التجربة صحتها ، من خلال الشعوب السومرية والبابلية والفينيقية وغيرها ، التي دخلت في عداد الامم المنقرضة بسبب استبدالها لغاتها الطبيعية بلغات اخرى ، وليس بسبب تعرضها لكارثة طبيعية او لفعل ابادة جماعية .
وما من شك أن وعي شعبنا اخيرا بالاحكام الامرة لهذا القانون الطبيعي ، هو ما جعله ينص في الدستور على ترسيم الأمازيغية باعتبارها لغته الطبيعية التي تكمن فيها روحه وحياته.
هذا وكما يرتبط حق حياة الشعوب بلغاتها الاصلية حسبما تبين ، يرتبط بها ايضا حقها الطبيعي في التطور والنماء ، من منطلق ان الشعب الذي لايبني حضارته بلغته الطبيعية يظل على الدوام موصوفا بالبدائية وبالبداوة ، ودلك على الرغم من انتاجه في حياته ارقى الحضارات بلغات اخرى ، ولعل اكبر دليل على صحة هذه القاعدة ايضا هو الشعب المغربي ، الذي رغم مساهمته الفعلية الكبرى في بناء كل الثقافات والحضارات التي عرفتها منطقة البحر الابيض المتوسط ، فانه ينعث دائما بالشعب البدوي الذي لم يخلف اية حضارة او ثقافة راقية ، مما جعل بعض الكتابات التاريخية تسخر منه بقولها : انه الشعب الذي لم يرث من اجداده سوى حلق الرؤؤس واكل الكسكس ولبس البرنوس.
ولا غرو ايضا ان وعي شعبنا بارتباط حقه الطبيعي في التطور والتقدم بلغته الاصلية ، أي الامازيغية هو ما ادى به الى التنصيص في الدستور على تنميتها ، وعلى ادماجها في جميع مجالات الحياة العامة.
أما حق الملكية الذي يعتبر هو أيضا من الحقوق الطبيعية الثابتة ، فإن كان يتجلى لدىالأفراد في ملكية العقارات والمنقولات ، فإنه بالنسبة للشعوب يتجلى في ملكيتها لارض وطنها ، وأول ما يظهر فيه تجلي هذه الملكية ، هو قيام الشعوب بتغطية كل شبر من مواقع واماكن وطنها ، بأسماء لغتها الطبيعية ، تعبيرا منها على حيازتها الفعلية والقانونية لملكية أرض وطنها ، ومن هنا يبدو ان احتفاظ جل مساحة وطننا بالأسماء الأمازيغية ، يعتبر دليلا قاطعا على قيام الشعب المغربي بمزج لغته الطبيعية بتراب وطنه ، وذلك قبل أن يمزجها بدمه دفاعا عنها في مختلف مراحله التاريخية كما تؤكد ذلك كتب التاريخ.
بيد أنه بعدما تعرض المغاربة لتخديرالفكر الايديولوجي العصبي الاموي في الماضي، ثم للبعثي في العصر الحاضر، فقد تهافتوا بشكل كبير على الاستعراب الذاتي ، فلم يقتصروا على تغيير انسابهم وانتماءاتهم المحلية فحسب ، بل قاموا – مع الاسف – بتعريب الكثير من مواقع وطنهم خدمة لهذا الفكر التوسعي ، الذي كان يهدف الى مسخ ملامح وطننا الطبيعية للقضاء على هويته المتميزة ، غير أن ما يثبت صحوة شعبنا من هذا التخدير، هو قيام عاهلنا بالعودة الى إطلاق الأسماء الأمازيغية على بعض المدن والمشاريع العمرانية الجديدة ، مثل مدينة تامســنا في الربــاط ، ومدينة تامنصورت في مراكـــــش، وكذلك قيام حكومتنا الحالية بتمزيغ واجهات بعض الوزارات والمؤسسات الادارية، غير ان ما يثبت انتشار هذه اليقظة هو قيام بعض التجارباضفاء الهوية الامازيغية على مؤسساتهم التجارية ، وكذا رجوع العديد من المواطنين الى تسجيل مواليدهم في دفاتر الحالة المدنية باسماء امازيغية.
وهكذا ونظرا لثبوت ارتباط اللغة الاصلية بذات الشعوب وبحقوقها الطبيعية الازلية ، فذاك ما يجعل الامم الواعية بذاتها ، تعتبرها من مقومات كيانها ، وبالتالي من مرتكزات سيادتها الوطنية القائمة على الاركان الاساسية التالية :
– سيادة الوطن.
– سيادة الكيان.
– سيادة اللسان.
والحق ان ملوكنا السابقين اذا كانوا واعين تمام الوعي بسيادة وطنهم ، وسيادة كيانهم ، فانهم مع كل اسف ، لم يكونوا مدركين لسيادة لسانهم الطبيعي ، الامر الذي جعل سيادتنا الوطنية – لفترة تاريخية طويلة – ينقصها احد اركانها الهامة ، أي سيادة اللسان.
ومن هنا فمن الاكيد ان قيام دولتنا في عهد الملك محمد السادس بترسيم الامازيغية في الدستور، يدخل بدون شك ، في اطار استدراك ذلك النقص المزمن ، تصحيحا للتاريخ من جهة ، واستكمالا لسيادتنا الوطنية ، القائمة على كل اركانها الثلاتة ، من جهة اخرى .
*محام بهيئة الدار البيضاء
*عضو المكتب الوطني للجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي