من وهم الاستفتاء إلى واقعية الحكم الذاتي… دبلوماسية ملك تصنع الإجماع.
في السياسة كما في الحياة، ليست المنعطفات الكبرى مجرد لحظات قرار، بل هي ثمرة رؤية بعيدة المدى وصبر استراتيجي. وهكذا كان حال القضية الوطنية الأولى، التي قادت فيها الدبلوماسية المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، تحولاً عميقاً من منطق الاستفتاء الانفصالي الذي كان يهدد وحدة التراب الوطني في نهاية التسعينيات، إلى منطق الحكم الذاتي الواقعي الذي أصبح اليوم يحظى بتأييد ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة وأقوى القوى العالمية المؤثرة.
منذ أواخر التسعينات، حين كان خيار الاستفتاء يقدم على أنه الحل “الديمقراطي” للنزاع المفتعل حول الصحراء، أدركت الدولة المغربية مبكراً أن هذا المسار لم يكن سوى فخ سياسي يفتح الباب لتقسيم الوطن. فاختارت المملكة، بقيادة رشيدة، أن تُبدع في الحل بدلاً من أن تساق إليه. ومنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، بدأت مرحلة جديدة عنوانها الانتقال من منطق التنازل إلى منطق البناء، ومن الدفاع إلى المبادرة.
تجلت أولى معالم هذا التحول في طرح مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، التي لم تكن مجرد وثيقة تفاوضية، بل رؤية متكاملة لدولة موحدة في ظل التنوع، تجمع بين السيادة الكاملة والجهوية المتقدمة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتوقف الدبلوماسية المغربية عن تحقيق المكاسب الميدانية والرمزية، سواء في مجلس الأمن أو في القارة الإفريقية أو في المحافل الدولية.
اليوم، في سنة 2025، نعيش حصيلة ربع قرن من العمل الدبلوماسي الهادئ والممنهج، فأزيد من ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعتبر الحكم الذاتي قاعدة واقعية وجدية للحل، وكل القوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا، باتت تعترف صراحة بمغربية الصحراء. وليس هذا كله بل أن فتح أكثر من ثلاثين قنصلية في العيون والداخلة وهولازال متواصلا أصبح دليلاً ميدانياً على الاعتراف الفعلي بسيادة المغرب.
وكل هذا تحقق دون صخب ولا انفعال، بل بمنهج ملكي رزين يجعل من الدبلوماسية امتداداً للرؤية التنموية والإفريقية والإنسانية للمملكة، لا مجرد إدارة للنزاع.
إنه منعطف واسع بكل المقاييس، فمن التدبير إلى التغيير، ومن وهم الاستفتاء إلى حكمة الحكم الذاتي، ومن التردد إلى القيادة، ومن التبعية إلى صناعة القرار الدولي. لقد أثبت المغرب أن السيادة لا تُستعاد بالخطابات، بل تُبنى بالثبات، وأن المدرسة الدبلوماسية التي أرساها جلالة الملك محمد السادس حولت ملف الصحراء من ورقة نزاع إلى منصة إشعاع وشرعية.
وهكذا، لم يعد العالم يسأل هل الصحراء مغربية؟ بل كيف استطاع المغرب أن يجعل العالم يقتنع بأنها كذلك؟…
ذلك هو المنعطف الواسع الذي صنعه ملك، ورعاه شعب، وصدق عليه التاريخ…