خالد الادريسي/ عضو مجلس هيئة المحامين بالرباط
غطى حدث التعديل الحكومي الذي تم الإعلان عنه، الأربعاء 23 أكتوبر 2024، عن باقي الأحداث السياسية الوطنية باعتبار أهميته داخل مناخ سياسي يبعث عن الكثير من القلق الارتياب والتشكك والأزمات، ولكنه في نفس الوقت شكل حدثا بعث بالكثير من الإشارات المباشرة وغير المباشرة التي ترتبط بالجسم المهني للمحاماة أفرادا ومؤسسات، من خلال احتفاظه داخل تشكيلته الحكومية بزميلنا وزير العدل الذي يعتبره جميع المحامين السبب الرئيسي وراء جميع الأزمات التي تعاني منها مهنة المحاماة في الأربع سنوات الأخيرة.
وتأكد بالملموس على أن المعارك المهنية التي يخوضها المحامين ليست معارك مع وزير العدل او مع حكومة لم تعد تحتفظ لنفسها بادنى شرعية شعبية، إلى معركة مع دولة تحاول إعادة ترتيب موازين القوى وفق منظور لا يحترم معايير الديموقراطية ودولة الحق والقانون.
فبعد تدجينها للمجال السياسي من خلال إضعاف الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومؤسسة البرلمان، وبعد إضعافها للمجال الحقوقي والجمعوي، تحاول هذه الدولة ما أمكن القضاء على باقي القوى الممانعة التي تعتبر مهنة المحاماة أهم تمظهراتها وحصنها الأخير في اتجاه خلق نوع من التحكم الذي يكرس غلبة الجانب الأمني عن الجانب الحقوقي.
لقد طالب المحامين في جميع ندواتهم ومؤتمراتهم ووقفاتهم وشعاراتهم بضرورة عزل وزير العدل من مهامه على رأس وزارة العدل باعتباره سبب جميع المشاكل والأزمات التي يعاني منها قطاع العدالة والتي تأكدت من خلال الإضراب الذي قام به العديد من المنتمين إلى هذا القطاع بدءا بالمحاماة ومرورا بكتابة الضبط والمفوضين القضائيين.
كما طالبت شخصيا بإقالته في مقال سبق أن نشرته منذ عامين بعنوان “في الحاجة إلى إقالة وزير العدل”، وذلك من أجل ترسيخ أجواء أكثر أمنا واستقرارا داخل مجال العدالة عامة وجسم المحاماة خاصة. ولكن للأسف يتبين على أن هذا المطلب الذي أضحى أساسيا وجوهريا بالنسبة للمحامين، والذي كان يبدو قريب التحقق بعد تنحيته من رئاسة حزب الأصالة والمعاصرة أحد الأحزاب المشكلة للحكومة، أنه أصبح بعيدا جدا بعد هذا التعديل الحكومي الذي رسخ من خلاله وزير العدل مكانته داخل التشكيلة الحكومية .
إن التأمل في هذا المستجد السياسي والتمعن في ظروفه وسياقه في خضم كل الأحداث التي طبعت علاقة وزير العدل بالمهن القضائية والقانونية وخاصة مهنة المحاماة، والتي تميزت بالقليل من الاستقرار والكثير من التوثر، تجعلنا نكون مجموعة من الخلاصات والاستنتاجات المرتبطة بموقعنا كمهنة محاماة داخل الدولة والمجتمع بشكل عام وأيضاً داخل منظومة العدالة بشكل خاص، ولعل أهم استنتاج نخرج به هو أن السيد وزير العدل منح شرعية جديدة من أجل تدبير اختصاصات وزارته، ستجعله لا سيما في الشق المتعلق بالتشريع يبلور القوانين بطريقة تعسفية وتحكمية تكرس توجهاته السابقة التي شكلت تراجعات واضحة عن المبادئ الدستورية والحقوقية الثابتة والراسخة في مجال العدالة.
ومن الأكيد على مهنة المحاماة ستعيش ما تبقى من هذه الولاية الحكومية في حالة استنفار وتأهب تحسبا لما يمكن أن تتفتق به عبقرية هذا الابن العاق الذي يحاول تدمير ما تبقى من أركان البيت الذي تقطن به أسرته.
لقد سبق أن طالبت بضرورة تعديل وتطوير خطابنا الترافعي كمحامين تنظيرا وممارسة، من خلال الارتكاز على تدعيم روح المبادرة وتطوير القوة الاقتراحية كشق ثان إلى جانب النضال الميداني الذي نخوضه من داخل المحاكم وخارجه، حتى تكون المعركة أكثر اكتمالا وتحقيقا للأهداف النضالية المسطرة، ولكنني بعد هذا الحدث المتعلق بالتعديل الحكومي أجدني أفقد ثقتي في أي ترافع حضاري مبني على التفاوض والمبادرة والاقتراح.
أولا لأن وزير العدل والحكومة أغلقوا باب الحوار منذ مدة طويلة ويدبرون مختلف التشريعات المرتبطة بمجال العدالة بمنطق أحادي يرسخ توجهات تحكمية بعيدا عن منطق العدل والحقوق والحريات، وأيضا ً لأن التفاوض مع السيد وزير العدل كما أظهرت التجارب السابقة لا يتميز في غالب الأحيان بطابع الجدية والمسؤولية، لأنه غالبا ما كان يؤكد داخل هذه الاجتماعات على أنه لا يمكنه التجاوب مع مطالب المحامين بخصوص التعديلات التي يقترحونها باعتبار أن التقرير في مثل هذه الأمور يتجاوزه ويتعلق بتعليمات صادرة عن جهات عليا، أو أنه كان يتوافق على إدراج تعديلات معينة، ثم يتنصل منها ولا يأخذها بعين الاعتبار كما حدث في مشروع قانون المسطرة المدنية المعروض حاليا على الغرفة الثانية في البرلمان.
أظن أن مهنة المحاماة تنتظرها سنوات عجاف مادام أن زميلنا وزير العدل مازال في مكانه، ومازال يمتلك ناصية التشريع ويستطيع تطويعه بالشكل الذي يريد أو بالشكل الذي يريدون، وإذا كانت هناك تشريعات صدرت وكانت مجحفة في حق مهنة الدفاع ومست الأركان التي تقوم عليها ولاسيما الاستقلالية والحصانة والاحتكار، من قبيل قانون غسل الأموال الذي ضرب في العمق مبدأ السر المهني واستقلالية مهنة المحاماة، وقانون الحماية الاجتماعية الذي يضرب استقلالية وحصانة المحاماة والمنتسبين إليها، وماتزال محاولاتهم حثيثة لجعلنا خاضعين له، وأيضاً على مستوى التعديلات المتواثرة التي تهم قوانين المالية والتي توسع من التزامات المحامين المالية بشكل يضر بأمنهم الاقتصادي والاجتماعي والمهني.
وإذا كانت هناك أيضا تشريعات أخرى ستصدر قريبا كمشروع قانون المسطرة الجنائية الذي تضمن تضمن مقتضيات تمس بمبادئ المحاكمة العادلة والحق في الدفاع وتقزيم دور المحامي داخل المنظومة الإجرائية الزجرية ومنح سلطات كبيرة لجهاز النيابة العامة ستسمح لها بالتغول والسيطرة على باقي الفاعلين في منظومة العدالة.
فإنه يمكن القول أن هذه المستجدات التشريعية التي سبق ذكرها وإن كانت معارك مهمة باعتبارها تتعلق بالترافع من اجل ترسيخ الحقوق والحريات، إلا أنها معارك ترتبط بمقتضيات تشريعية تتعلق بمهنة المحاماة بشكل غير مباشر، وأنها وأن كانت تؤثر سلبيا على بعض جوانب الممارسة المهنية إلى انها لا تهدد وجود مهنة المحاماة.
ولذلك فالتحدي الأكبر الذي يواجهنا في المستقبل القريب يتعلق بأمرين أساسيين، الأول هو أن المعركة القادمة تتعلق بمسودات مشاريع قوانين تتعلق بمهنة المحاماة بشكل مباشر وتهدد كينونتها ووجودها وتمس بحصانتها واستقلاليتها، وهذه المسودات هي المتعلقة بمسودة مشروع قانون مهنة المحاماة والنص التنظيمي الذي سينظم المجلس الوطني للهيئات ومسودة مشروع قانون معهد المهن القضائية والقانونية وكتابة الضبط، والثاني هو أن وزير العدل بعد التعديل الحكومي وبعد اكتسابه لهذه الشرعية الجديدة، فإنه من الأكيد أنه سيكون أكثر جرأة في السعي لمواصلة مخططه التخريبي من أجل تدمير مهنة المحاماة وتحويرها بالشكل الذي يفقدها قوتها ومبادئها ورمزيتها.
من أجل ذلك، فإن على المحامين وعلى رأسهم المؤسسات المهنية التي تدبر الشأن العام المهني وخاصة رئيس ومكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أن يعيدوا تقييم معاركم السابقة في ضوء هذا التعديل الحكومي الذي يحمل دلالات كبيرة وتحديات متعددة، ولعل أول تقييم يمكن ادراكه في هذا الاطار هو أن معاركنا ليست معارك شخصية مع زميلنا وزير العدل ولكنها معارك مع دولة تحاول ترسيخ منظور خاص للتدبير السياسي يغلب فيه الجانب الأمني على الجانب الحقوقي، وانه مادام ان المحاماة هي أحد الأضلاع الأساسية في الجانب الحقوقي، فإن هذا التأثير السلبي سيصيبها مثلما أصاب الفاعلين السياسيين والحقوقيين الآخرين.
وبالتالي ففي ظل هذه الظروف والسياقات يصعب أن يكون تحقيق هذه المطالب مبنيا على التفاوض، لأنه لن تمنح الدولة “وليس الحكومة ” المحاماة والمحامين إلا بالقدر الذي ترتضيه لهم وليس الذي يرتضونه هم، ولذلك فأنا أطالب مكتب الجمعية ورئيسها باعتماد آليات نضالية في إطار مسار نضالي غير مسبوق، لا يقتصر على الاحتجاجات أو التوقفات والشعارات، ولكن أن يسير في اتجاه أكثر تأثير من خلال ابداع أشكال نضالية جديدة أكثر جرأة وشجاعة، ويعتبر اجتماع مكتب الجمعية يوم 26 أكتوبر 2024 فرصة تاريخية لاتخاذ موقف حاسم وجريء يشكل بداية لمعركة كبرى تتحقق فيها جميع أهداف المحامين ويعود لهم اعتبارهم ورمزيتهم.
وإذا كان هذا الحمل ثقيلا على مكتب الجمعية فما عليها إلا الاستعانة بمجلس الجمعية الذي يضم في تشكيلته جميع السادة والسيدات الأعضاء في جميع مجالس الهيئات السبعة عشر، عن طريق الدعوة الى انعقاد جمعية عمومية استثنائية تتمخض عنها قرارات جريئة وشجاعة لمواجهة التحديات المستقبلية التي سيطرحها هذا التعديل الحكومي على مهنة المحاماة والمنتسبين اليها.
ومن جهة أخرى فإنني أدعو جميع الزميلات والزملاء إلى بذل الغالي والنفيس والالتفاف حول المؤسسات المهنية والتعبئة الشاملة من اجل إنجاح جميع المبادرات والقرارات والنضالات التي يمكن أن تقرر في اطار تدبير هذه المعركة الكبرى، التي لا تتعلق فقط بالدفاع عن الحقوق والحريات وترسيخ الديموقراطية ودولة الحق والقانون، ولكنها معركة وجودية بالأساس بالنسبة لمهنة المحاماة نكون فيها أو لا نكون.
وما لا ينتزع بالنضال ينتزع بالمزيد من النضال.