ليلى خزيمة
على ضفة واد أونيلا، أحد الممرات الرئيسية للقوافل التي كانت تسافر لنقل البضائع والملح الصحراويين، وفوق هضبة مرتفعة تبعد عن مدينة ورزازات بما يقارب 30 كيلومترا،تطلعلى المسافر مجموعة من البنايات الطينية المغربية العتيقة التي يحيط بها سور عالي.قرية محصنة، تشكل رمزا للثقافة الأمازيغية والعمارة الطينية جنوب شرق المغرب، والتي أبت إلا أن تعيش في انسجام تام مع بيئتها الطبيعية.هي قصبةآيت بنحدو.يعود تاريخ بناءها حسب عديد من المصادر، إلى القرن السابع عشر. غير أن هنالك روايات تفيد بأنها شيدتلأول مرة في القرن الحادي عشر في عهد الدولة المرابطية، وتشهد على ذلك “المطامر” التي تعود للقرن الحادي عشر. وكان يدعى أول حاكم تملكها وسكنهاأمغار بنحدو، وعلى اسمه سميت القصبة التاريخية. كما كان المعمر الفرنسي يطلق على القصبة في عهد الحماية اسم جبل سان ميشيل.
وعلى الرغم من اختلاف الروايات المتناثرة حول أصل وتاريخ بناءها، فقد أسهمت قصبة آيتبنحدو تاريخيا في إرساء جسور التجارة في الصحراء. فكانت عبارة عن مركز تجاري يربط بلاد السودان بمراكش عبر وادي درعة وقرية تيزي نتلوات الأمازيغية الواقعة في جبال الأطلس الكبير.
الطبوغرافيا الاستراتيجية
تقع قصبة آيت بنحدو بالتحديد في قرية “إغرم”بجماعة “آيت زينب”.تم تشييدها فوق هضبة مرتفعة تطل علىوادي أونيلا حيث يجري نهر صغير يعرف ب”الواد المالح” لارتفاع نسبة الملح فيه مما يجعله غير صالح للشرب، ومحفوفة بحقل تملأه أشجار اللوز والنخيل،وهي بهذا تشبه القلعة التاريخية التي يتحصن داخلها الحاكم ورعيته. القصبة عبارة عن موقع استراتيجي وأمني على حد سواء. فهذا التموقعيضمن لها نوعا من الأمن في مواجهة أية محاولات للاقتحام، وييسر مراقبة التحركات خارج المكان، كما أنه موقع اقتصادي بامتياز لقربه من الوادي ومن تم الاستفادة من مياهه في أشغال الزراعة.وتتميز القصبة بأسوارها وجدرانها الدفاعية المعززة بأبراج مزينة برموز أمازيغية.
تبلغ مساحتها الاجمالية حوالي 1300 متر مربع. وتعتبر قصبة آيت بنحدو المغربية التحفة المعمارية الفنية المصنوعة من الطين التي مازالت تحتفظ بملامحها إلى يومنا هذا رغم كل التحديات التي واجهتها من عوامل التعرية القاسية التي مرت عليها عبر الأزمنة المختلفة.وهيمثال يعكس طبيعة التجمعات البشرية التقليدية، ويبرز مراحل هامة من تطور المغرب، وتفاعل الإنسان المغربي مع البيئة والتراث من حوله.
تجمع مدمج ومغلق ومرتفع، تتكون أماكنه العامة من مسجد، وساحة عامة، ومناطق لدرس الحبوب خارج الأسوار، وحصن ومخزن حبوب في أعلى القرية، ونزل، ومقبرتين واحدة إسلامية والثانية يهودية وضريح سيدي علي أوعامر.
الطين، أساس الابداع
الطين هو عنصر هندستها الأساسي، والذي تتشكل منه سلسلة من المباني المتراصة والمترابطة تتخللها أزقة صغيرة وضيقة. معمار تتماشى طبيعته مع الظروف الاجتماعية والبيئية للمنطقة، ويأخذ بعين الاعتبار العوامل الأساسية من طوبوغرافيا وحركة الشمس والرياح وطريقة توزيع المباني المطلة كالشرفات، والأزقة الضيقة والطرقات المتعرجة التي تتخذ شكل المنحدرات أو المدرجات. الشيء الذي يوفر للساكنة حماية جميع ممتلكاتهم، كما يمنحهم تهوية وإضاءة طبيعية، إلى جانب تجنيبهم تجمع مياه الأمطار داخله باعتماد هندسة تسهل مرورها وتوجيهها نحو المناطق الزراعية. كما يتميز الطراز المعماري بقصبة آيت بنحدو باستعمال الطين والخشب كأساس للبناء والتشييد، ليكون الطين جدارا والخشب سقفا. أما داخل البنايات، فهو عبارة عن منازل بفناء داخلي.لا تقتصر الهندسة المعمارية بقصبة آيت بنحدو على الوظيفة الأولية لها في تقنيات البناء فحسب، بل تتعداها إلى اللمسة الجمالية.فعلى سبيل المثال، تتشكل الواجهات من مزيج محكم من التراب الأحمر والرمل والقش، الذي يعطي لونه طابعا مميزا للقصة ويضفي مظهرا ساحرا على المكان. كما أن هناك العديد من الأشكال الهندسية والزخرفية التي تعتبر جزء لا يتجزأ من التراث المعماري للمنطقة. زخارف تزين الأبواب والجدران والأبراج والأغراض اليومية، وتوحد جميع المساحات من أماكن عامة وخاصة ومقدسة.
من النطرة الأولى، تبدو كل البيوت متشابهة إلا واحدا يكون متميزا عن البقية وهو “دار أمغار”. هذا الأخير، هو المنزل الذي يأوي عائلة شيوخ القبيلة. فبه عدة طوابق بفضاءات عديدة تتوزع عبر غرف متصلة فيما بينها، يتوسطها فناء داخلي كبقية المنازل، إلا أن لكل جزء من القصبة خاصيته التي تنم عن روح وشخصية قاطنيه. ففي الثقافة الأمازيغية، يعتبر فن البناء خبرة استثنائية تُتَوارث عن الأجداد، وتُتَرْجِم قيم المجتمع الذي تعطى فيه الأولوية للمساواة والأهمية للجماعة. لذلك، بنايات قصبة آيتبنحدو البسيطة لم تزدها القرون إلا عراقة. فكلما تقدم بها العمر زادت جمالا وإثارة.
ملهمة عدسات الكاميرا.
لا يمكن أن يُذكر فيلم لورنس العرب دونما الحديث المطول عن قصبةآيتبنحدو. فهذه الأخيرة كانت الفضاء الساحر الذي ألهم صناع الفيلم سنة 1962. قصبة آيت بنحدو كانت القطعة التي مكنت المخرج ديفيد لين من ترجمة رؤيته الإبداعية على أرض الواقع، ومكنت أبطال الفيلم بيتر أوتول وأليك غينيس وعمر الشريف وأنتوني كوين وغيرهم من تقمص الشخصيات وعيش الأحداث التي صاغ كتبتها السيناريست روبرت بولت ومايكل ويلسون والانغماس فيها.سنة1988، افتتن المخرج مارتن سكورسيزي بجمال المنطقة وجاهزيتها الطبيعية، فاختارالقصبة لتصوير أحداث فيلمه الاغراء الأخير للسيد المسيح. وفي سنة 1999، احتضنت قصبة آيت بنحدو أحداث فيلم المومياء لمخرجه أليكس كورتزان، كما كانت مسرحا لفيلم المصارع (غلادياتور) للمخرج ريدلي سكوت. سنة 2004، تم بالقصبة إنتاجفيلمالمخرج أوليفر ستوناسكندر الأكبر. حتى صناع الفانتازيا الخيالية لعبة العروشلم تفتهم فرصة الاستمتاع بخبايا المعمار والطبيعة في قصبةآيتبنحدو.فقد كانت الأرض المختارة التي صوروا بها سنة 2011 تحفتهم الدرامية التي حققت نسبة متابعة عالية جدا.كما أسرت قصبة آيت بنحدو وفضاءاتها الخارجية لب صناع فيلم عقدة أوديبسنة 1967وفيلمالرجل الذي سيصبح ملكا سنة 1975 وفيلمشاي في الصحراء وفيلم جوهرة النيل سنة 1985 وفيلم أمير بلاد فارس وفيلم عملية البحر الأحمر، وفيلم الرسالة سنة 1976 للمخرج مصطفى العقادوفيلم ابن الله لمخرجه كريستوفر سبينسر سنة 2014 غيرها من الأعمال السينمائية والدرامية الكبيرة. وكلها أعمالي وإنتاجات ضخمة استوجبت فضاء يليق بها ويزيدها سحرا. فتفاصيل القصبة المعمارية والطبيعية ملتصقة فيها بالتاريخ، فضلا عن الشمس التي لا تغيب عنها طوال 320 يوما، الشيء الذي جعل من هذه القصبة استوديو سينمائي طبيعي يجذب كبار صناع الفن السابع بالعالم.
من العالمية إلى العالمية
بعيدا عن تضارب الآراء حول تاريخ بناء قصبة آيت بنحدو بين من يؤكد أن بناءها بالشكل الحالي كان في القرن السابع عشر وبين من يقول إن بناءها لأول مرة كان في القرن الحادي عشر، يؤكد الأستاذ الباحث في تاريخ الجنوب الشرقي السيد عيسى السعيدي، أن أسوار القصبة وأبراجها الصامدة والتصميم العمراني تشير إلى أن بناءها يعود إلى عهد الدولة المرابطية، لأن التصميم المعتمد من قبل المرابطين يشبه تصميم قصبة آيت بنحدو إلى حد كبير. هذا التصميم وهذه الطبيعة الاستثنائية جعلوا من قصبة آيتبنحدو واحدة من أبرز الوجهات السياحية المتميزة بإقليم ورزازات والجنوب الشرقي عموما. كما أن القصبة تستقبل بشكل مستمر أفواجا من الطلبة الباحثين من بعض الجامعات الأوروبية للاطلاع على تاريخها وتاريخ المنطقة. فهي منالأماكن التي امتزج فيها جمال الطبيعة بتاريخ عريق يعود إلى أكثر من 10 قرون.فقد بنيت بالكامل من المواد العضوية المحلية، مع طلاء غني من الطين الأحمر.لذلك تم إدراجها في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم الثقافية “يونيسكو” سنة 1987، باعتبارها نموذجا لصرح معماري مغربي أصيل. ليأتي بعدها تصنيف آخر يضع قصبة آيت بنحدو في موقع متميز عالميا، ويتعلق الأمر بأكثر القرى جمالا في العالم.تصنيف تم إصداره من طرف موقع“تايم آوْت”المتخصص في أخبار السياحة والأسفار عبر العالم، لتحتل القصبة الرتبة الثانية عشر وتكون بذلك من بين أفضل 20 قرية عالميا.واعتمد الموقع في تصنيفه على خبراء درسوا خصائص ومزايا هذه القرى واستطلعوا آراء الجمهور عبر منصة إنستغرام. فقد جاء على لسان الموقع: «تحظى هذه القرى المصنفة بشعبية كبيرة لدى السياح، ويفضل زيارتها قبل أو بعد الذروة… فرغم وجود حشود من السياح في وقت الذروة، تبقى هذه القرى مميزة وتستحق أكثر من البطائق البريدية». كما تحدثتإحدى الموسوعات العالمية عن القصبة باعتبارها نموذجا «أصيلا للعمارة المحلية بمناطق الجنوب الشرقي، كما أنها شاهد حي على الحياة الاجتماعية والخصوصيات الثقافية للساكنة».
وحسب البوابة الإيطالية “سيفياحيا”، فإن قصبة آيت بنحدو، المعترف بها من قبل اليونسكو كموقع للتراث العالمي: «بعيدا عن صخب المدن وضجيجها، يوجد مكان ذو جمال ساحر. هذه هي قصبة آيت بنحدو، التي ترتفع كالسراب من الصحراء، منتصبة بشكل مهيب على سفح التل في أعلى وادي جبال الأطلس… ليست مجرد هوليوود المغرب، بل إنها وجهة لا يمكن تفويتها، وبمجرد زيارتها، تظل محفورة في القلب إلى الأبد». وأضافت البوابة أن: «هذا المكان الساحر يوفر أجواء فريدة من نوعها حيث تجتمع بساتين النخيل الخضراء مع السماء الزرقاء المشمسة التي تخففها ألوان الصحراء الشاحبة…فأصوار القصبة المحصنة، توفر إطلالات بانورامية على الجبال والصحراء». مؤكدة على أن: «الحلم يلتقي بالحقيقة في المغرب، هذا البلد الرائع، المليء بالسحر والألوان والأصوات والعطور الساحرة».
حافظت قصبة آيتبنحدو على أصالتها المعمارية من حيث الأشكال والمواد. فمنشآتها الترابية تتكيف بشكل مثالي مع الظروف المناخية وتتناغم مع البيئة الطبيعية والاجتماعية. وزخارفالمساكن الكبيرة، الموجودة في الجزء السفلي من القصبة، لا تزال في حالة جيدة.
كما أن معظم المنازل في قصبة آيت بنحدو أصبحت معارض فنية أو متاجر حرفية. ويبذل مركز صيانة وترميم وتأهيل القصور والقصبات في الأطلس جهودا كبيرة لإعادة تأهيل القصبة والإبقاء على رونقها الأصيل. كما تعمل بعض الجمعيات المحلية على إغناء هذا الموقع الأثري.وتندرج تدابير الحماية أساسا في إطار مختلف القوانين المتعلقة بتصنيف المعالم والمواقع التاريخية، ولا سيما القانون 22-80 المتعلق بالتراث المغربي الصادر سنة 1981 والمغير والمتمم سنة 2006. ليتسع بعدها مفهوم التراث ويشمل حاليا المناطق الحضرية والمواقع الطبيعية والمناظر الثقافية، وكذلك الجوانب غير المادية مثل الدراية والتقاليد.
فكما جاء في بوابة “سيفياجيا”، قصبة آيتبنحدو هي: «واحة من السلام والهدوء، استحوذت على خيال نجوم هوليود بجمالها الخالد وأصالتها».