حسن عين الحياة/ المنعطف24.
عندما تقف أمام لوحات الفنانة العالمية الشعيبية طلال، يشدك شيء ما، تشعر بأنه ينبض فيك.. يتفاعل بكيميائه الخاصة في دواخلك.. وربما يحملك إلى عوالم طفولية مفعمة بالحنين.. وقد يحلق بك إلى ما قبل لحظة تشَكُّل الجمال، أو إلى ما وراء الغموض المثير للفضول وللدهشة في آن.. ولعل هذا “الشيء ما” هو ما جعل لوحات هذه المرأة الدكالية، إلى الآن، مفعمة بالحياة.. تنمو بعفوية، ككل الأحياء في الطبيعة، وتتجدد بالقدر الذي يجعلها مفتوحة على التأويل ومنفتحة على تعدد القراءات.. إنه السِحر القادم من “العروبية”، بحمولتها الخصيبة وبتعدد الثقافات المنصهرة في عاداتها الممتدة إلى عقود من الزمن.
فالشعيبية التي رأت النور عام 1929 بجماعة اثنين شتوكة القريبة من مدينة أزمور، يؤرخ ميلادها لمغرب كان يفتقر وقتها لنقص في الوثيقة الإدارية، إذ وُلدت وهي محرومة من اليوم والشهر، قبل أن تعيش في دورة الحياة متواليات أخرى من الحرمان. لكن بعيدا عن الألم، كانت الشعيبية الطفلة، وهي سادس أخوتها، تعيش عالمها الخاص في تلك القرية المشبعة بهواء البحر.. كانت مختلفة تماما عن أقرانها، وتتعايش مع أدق التفاصيل في الطبيعة البدوية.. إنها “بنت الطبيعة”.. تتأمل الفراشات وتتفاعل مع الطيور، وتعشق التراب ورائحته الندية، وتتماهى مع الألوان، من اخضرار العشب إلى تلك الحمرة المدهشة لـ”بلعمان” والأصفر في أزهار “الكلكاز… والأزرق الفاتح في السماء، والآخر الداكن الذي يرتسم في الأفق عند الطرف القصي من البحر.
كانت تقضي ساعات وسط هذا العالم الذي يتفجر بالألوان، حتى ظن كثيرون من أبناء قبيلتها أنها “مهبولة”، وإن كانت في حقيقة الأمر “بوهيمية”، خاصة وأنها تتنقل بين هذه المظاهر وهي معصوبة الرأس بمنديل ملون، وتضع الأزهار فوق أذنيها، وهي مميزة بـ”السيالة” أسفل ذقنها.
لقد بدت الشعيبية وهي طفلة كما لو أنها تتحسس القادم بألوانه القاتمة، فكانت تسارع إلى التهام الألوان في محيطها البدوي، وتشرب الضوء مِلء بصرها، وتختزن بنهم الجوعى الموروث الثقافي لأهل دكالة، من حفلات الختان بطقوسها المبهرة، إلى الأعراس والعادات المرتبطة بزيارة الأضرحة المجاورة كـ”عايشة البحرية” و”مولاي بوشعيب” في أزمور، إلى العادات الأكثر صخبا المرتبطة بالمواسم، كموسم “مولاي عبد الله أمغار”. لقد عاشت زخما شديد الكثافة وهي بالكاد تدرك الأشياء من حولها.
ويحكي من عاشوا بالقرب منها، أنها كان وهي طفلة صغيرة تساعد والدتها في أشغال البيت، كما حُرمت من المدرسة، قبل أن تعيش حرمانا آخرا، قاسيا هذه المرة، وهو اليتم. حيث توفي والدها ومعيلها وسندها وحاميها، فانزوت إلى الصمت.
قضت الشعيبية بعد وفاة والدها أشهرا قليلة مع والدتها، قبل أن يأتي خالها الذي اقترح أن يأخذها معه إلى مدينة الدارالبيضاء لعلها تعوض عن شيئ من الحرمان. لذلك، جمعت الطفلة ذات السبع سنوات أغراضها، ورحلت إلى عالم إسمنتي جاف، دون أن تنسى تهريب ما اختزنته من الموروث الثقافي لأهالي دكالة، أو بالأحرى الزاد الذي قد تحتاجه حين تضيق المدينة برحابتها على صدرها المثقل بالهموم.
وبعد أن قضت 6 أعوام بين أسرة خالها، تم تزويج الشعيبية وهي مجرد طفلة تبلغ من العمر 13 سنة برجل يكبرها بسنوات يتحدر من مدينة ورزازات.. ورأت العائلة، بحسب الذين اهتموا بمسار الشعيبية أن هذا الزواج ملعقة من ذهب، لكن بالنسبة لهذه الطفلة الشتوكية القاصر، كان الزواج المبكر اغتصابا لطفولتها، خاصة وأنها أنجبت طفلا في عامها الأول من الزواج، قبل أن تصبح أرملة في العام الموالي بعد وفاة الزوج الذي كان يشتغل في إحدى المطاحن، في حادثة، وذلك بعد سنتين من زواجه. وهنا تقول الشعيبية “مات راجلي وأنا عندي 15 عاما.. بقيت مني لله”. وهنا يكمن التناقض الصارخ.. طفلة يتيمة، تصبح فجأة أرملة وأما لطفل يتيم.
لقد واجهت الشعيبية التي استقرت بحي “غوتيي” في الدارالبيضاء واقع الهشاشة والحرمان المادي.. لم يكن لها أي معيل، مما دفعها إلى الاشتغال في البيوت كخادمة عند الأجانب، من الفرنسيين وغيرهم الذين استقروا في كازابلانكا، كما مارست حرفا عدة من أجل تربية ابنها الحسين طلال الذي سيصبح فيما بعد فنانا تشكيليا بارزا، خاصة بعد دراسته للفن التشكيلي في باريس بمساعدة الفنان أحمد الشرقاوي الذي كان له الفضل الأول في بروز الشعيبية كفنانة تشكيلية يُحسب لها ألف حساب.
ذات ليلة سترى الشعيبية، وفق ما عبرت عنه في عدد من حواراتها، حلما غريبا.. رأت أن زائرا في المنام مدها بالأصباغ والفرشاة، وحتها على الرسم، وعندما استيقظت، قصدت سوقا واشترت بعض الأصباغ وريشة وشرعت في الرسم.. كانت ترسم في أي شيء تجده أمامها، بعفوية المبتدئين، وبعيدا عن أية مدرسة تشكيلية من شأنها أن تصنفها كمعشوقة لمذهب من مذاهب التشكيليين العظماء. فمدرستها الأولى والأخيرة هي عفويتها ومخزونها الخام من ذاكرتها أيام الطفولة.
“مللي جا سيدنا الله يرحمو (تقصد رجوع الملك الراحل محمد الخامس من المنفى في نونبر 1955).. ذيك الساعة بديتك نرسم.. والرسم كان في لعقل ديالي، وفي أفكاري، وخا ماقريتوش”، تقول الشعيبية.
وخلال إحدى ليالي منتصف ستينيات القرن الماضي، كان بيت الشعيبية، يستقبل زائرين من عيار ثقيل في عالم التشكيل، وهما رائد الفن التجريدي المغربي أحمد الشرقاوي، وبيير كودير محافظ متحف الفنون المعاصرة في باريس.. وكان اللقاء مناسبة لزيارة ابنها طلال الذي استغل الفرصة لإطلاعهما على أعمال والدته.. أفرشت الشعيبية بعد انتهاء الزائرين من وجبة “الطاجين”، ثوبا على الأرض، ووضعت عليه لوحاتها العفوية.. وما إن شاهدا أعمالها حتى انبهرا لموهبتها، فكان ذلك أول مرة تفتح فيه الشعيبية خزانتها الإبداعية لغير ابنها، وبالتالي كان هذا أول دخول لها إلى لعالم الشهرة.
وخلال السنة نفسها، أي عام 1965، نظمت الشعيبية أول معرض لها بالمعهد الثقافي الألماني “غوتة” بمدينة الرباط. ومن تَمَّ انطلقت إلى عالم المجد من خلال عدد من المعارض التي نظمتها بأرقى دور العرض في فرنسا وإيطاليا وسويسرا واليابان والهند وأستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة…
لذلك، إن من يتأمل واحدة من لوحات هذه الفنانة العصامية، قد تتراءى له صورة الشعيبية بسحنتها القمحية ووشمها أسفل الذقن وابتسامتها البدوية المُسَوَّرة بالحياء.. ومن يمعن النظر أكثر، قد تتفتح له الخطوط العفوية في اللوحة، بألوانها القوية، وقد تتحرك الشخوص، فتبدو له هذه الفنانة التي حيرت العقول، تنبثق من بينهم وهي تجر خلفها ماضي من ألم وآخر أمل.. وبينهما قد يبدو التناقض صارخا، إلى الحد الذي لا يمكن أن يتصور أحد، بما في ذلك من كانوا يدورون في فلك الشعيبية، أن خادمة البيوت التي وأد الزواج المبكر طفولتها، ستصبح يوما ما فنانة عالمية، اخترقت لوحاتها القصور والمتاحف، وأضحت مدخلا أساسيا للفن التشكيلي المعاصر.
إن لوحات الشعيبية وفق عدد من النقاد، كانت أشبه بلحن لنشيد طفولي.. وعن ذلك، قالت في إحدى حواراتها “مللي كنرسم، كنحس بحال الطاير للي غادي فالسما، وبحال الغرس إلى حطيتيه فالأرض.. واش ينوض واش ما ينوضش..؟ لكن في كل لمسة من الشعيبية للفرشاة، كان تزرع بذرة هنا، فتتجلى لوحة في كامل البهاء بأرقى المتاحف ودور العرض العالمية.
وخلال مسارها الغني، تم توشيح الشعيبية، سنة 2003 بالميدالية الذهبية للجمعية الأكاديمية الفرنسية للتربية. كما أدرج قاموس “لاروس الفن بالعالم” اسمها بصفحاته، وخلال عام 1977، دخلت القاموس المرجعي”بيزينيت”، كما بيعت لوحاتها التي كانت تعرض إلى جانب لوحات عمالقة الفن التشكيلي، أمثال بابلو بيكاسو الذي كان يكن لها احتراما خاصا، بآلاف الدولارات، قبل أن تصبح مدرسة قائمة الذات، لها أتباع ومردين في العالم بأسره، باعتبارها وفق وصف كبار الرسامين والنقاد في العالم، “أيقونة للفن العفوي”، أو رائدة لـ”الفن الخام” وإن كان كثيرون لا يحبذون وصف أعمالها بكونها تندرج ضمن “الفن الساذج”.
وعن عمر ناهز 75 سنة توفيت الفنانة الشعيبية في 3 أبريل 2004 بإحدى مصحات الدارالبيضاء، وكان أن بعث الملك محمد السادس ببرقية تعزية ومواساة إلى ابنها الفنان الحسين طلال الذي وفاته المنية في فبراير الماضي، ورد فيها: “فقد المشهد الثقافي الوطني عامة والفن التشكيلي بصفة خاصة رسامة مبدعة، وفنانة رائدة، تميزت بعصاميتها وعبقريتها الخالصة، التي مكنتها من تخليد اسمها في سجل الفنانين التشكيليين المرموقين داخل الأروقة والمعارض والأوساط الوطنية والعالمية”.
كما قالت فيها الكاتبة وعالم الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي وهي تنعيها لقد تسربتِ إلى عالم محروس بصرامة، عالم الفن التشكيلي الحديث الوافد من جهة أخرى بقماشة عمودية وفرشاة ولون اصطناعي… من مدينة بعيدة اسمها باريس. تسربتِ بصمت، كما لا تقدر على ذلك سوى النساء العربيات، إلى مواقع السلطات: سلطة الإبداع، سلطة التعبير، سلطة بيع العمل بثمنه الاعتباري، وسلطة ترصيع اللوحة بقيمتها الحقيقية. وهي قيمة صارت أصالتها تقدر اليوم بأقوى العملات الصعبة عبر المتاحف وقاعات العرض… وأنت تقومي بكل هذا مرتدية لباسك التقليدي ومجوهراتك نكاية بالموضات الزائلة، ومزخرفة يديك بالحناء، ومَكرُ شعرك باد تحت وشاحك الذي لا علاقة له بالشارات المعروفة، وهي مجرد تدلل وضحك وسخرية من الدار البيضاء”.