حسن عين الحياة/ المنعطف24
عندما نعود إلى أرشيف المنتخب الوطني لكرة القدم، والتوقف عند مشاركاته في كأس العالم، تستوقفنا دائما، نسخة “ميكسيكو 86″، التي ما يزال المغاربة والعرب والأفارقة، يتذكرونها بفخر، وبنشوة الحنين إلى الماضي، باعتبارها المحطة “المونديالية” الأولى التي كسروا فيها، من خلال المنتخب المغربي، حاجز دور المجموعات.. لقد أعطى هذا الإنجاز التاريخي للمغرب وقتها سِبقا سيظل محفوظا في سجل المونديال كأول منتخب عربي وإفريقي يصعد إلى الدور الثاني في كأس العالم، بعد تعادله مع كل من بولندا وإنجلترا، وفوزه الساحق على البرتغال بـ(3-1). لكن لا يمكن أن نستحضر هذا الإنجاز المبهر، دون التوقف لمرة ثانية، عند أسود الأطلس بقيادة العميد بادو الزاكي، وأيضا عند مدرب عملاق، حير منذ اقتحامه عالم التدريب في البرازيل خلال سبعينيات القرن الماضي، كبار الكرويين في العالم، بالنظر إلى إنجازاته التي تدخل في باب المستحيلات، خاصة وأنه لم يكن يتوفر على “ديبلوم” تدريب، ولا حتى على سيرة ذاتية في جيبه، ليصبح واحدا من أبرز المدربين في العالم، المنقوشة أسماءهم في السجل الذهبي لمونديال ميكسيكو 86.. إنه المدرب البرازيلي المهدي فاريا الذي حقق مع المنتخب المغربي وقتها، أعظم إنجاز كروي في تاريخ مشاركاته في كأس العالم، وقبله بعام، قيادته نادي الجيش الملكي للفوز، كأول فريق مغربي، بأول لقب قاري، وهو لقب كأس إفريقيا للأندية البطلة.. ولعل هذه “الفتوحات” الكروية، هي التي جعلت الملك الراحل الحسن الثاني يهتم به ويقربه منه، ولا يرفض له طلبا، بل ويستدعيه لمرافقته كل أسبوع، أثناء ممارسته لرياضة الغولف.
لقد أحب فاريا المغرب حتى النخاع، وبادله المغاربة الحب نفسه، واحتفظوا له بوضع اعتباري في المجتمع، وبصورة أثيرية في الوجدان.. فالرجل تشبَّع بتقاليد المملكة، وتشبث بأدق جزئياتها.. عشق الشاي وارتدى “الجلابة”، وتزوج بمغربية تنتمي إلى منطقة سوس، أنجبت له بنتا وولدا، فأضحى واحدا من أبناء المغرب، بالقدر الذي أوصى قبل وفاته بأن يُدفن في المملكة.. إنه الشعور بالانتماء، في بعده الروحي، إلى أرض احتضنته مع أبنائها، منذ وطأتها قدماه عام 1983، قادما إليها من البرازيل.
وسيتذكر المغاربة آخر ظهور لهذا المدرب الداهية، أثناء حضوره إلى ملعب طنجة الكبير، أياما قليلة قبل وفاته في 8 أكتوبر 2013، حين تم تكريمه قبل انطلاق المباراة الاستعراضية بين قدماء المنتخب المغربي وقدماء فريق ريال مدريد الإسباني.. وقتها، بدا سعيدا وهو يتسلم شهادة تكريمية من العميد الأسبق للنادي الملكي فيرناندو هيرو.. لكن بعدها بأيام، سيرحل فاريا الذي حول اسمه من خوصي إلى المهدي، مباشرة بعد اعتناقه للإسلام.. سيرحل إلى الأبد، مخلفا وراءه إنجازات خالدة، ستظل موشومة في السجل الكروي للمملكة.
وهنا يتذكر المهتمين بسيرة هذا المدرب، كيف بعث الملك محمد السادس ببرقية تعزية إلى أسرة المرحوم فاريا، ومواساتهم في مصابهم الأليم، حيث قال “وإننا لنستحضر، بكل تقدير، الخصال الإنسانية الرفيعة التي كان يتحلى بها الراحل العزيز، والحب الكبير الذي كان يكنه للمغرب الذي فضله وطنا ومستقرا له، وكذا ما أبان عنه طيلة مسيرته الرياضية المتألقة من عزيمة قوية، ومستوى رياضي عال مطبوع بروح المسؤولية، والغيرة الصادقة على الراية والقميص الوطنيين، مما مكنه من الإسهام في الرفع من مستوى ممارسة كرة القدم المغربية، ومن تحقيق نتائج متميزة وطنيا ودوليا، ستظل راسخة في أذهان عشاق كرة القدم، وفي مقدمتها الحضور المتميز للمنتخب المغربي في نهائيات كأس العالم بمكسيكو 86 ، والإنجاز التاريخي رفقة فريق الجيش الملكي، الذي كان أول نادي مغربي يحرز معه، رحمه الله، أول لقب قاري ممثل في كأس إفريقيا للأندية البطلة سنة 1985”. لقد كان المهدي فاريا محبوبا من قبل القصر، ولهذا الحب وزنه عند الجالس على العرش..
عند النبش في حياة هذا المدرب الأعجوبة، تصادفك أشياء غريبة.. أولها أنه ولد في أكتوبر وتوفي في الشهر نفسه، حيث رأى النور أول مرة في 26 أكتوبر 1933، ورحل في 8 أكتوبر 2013، كما صادفت سنة ولادته وسنة وفاته، أنهما ينتهيان بالرقم 3، كما قدم للمغرب أول مرة عام 1983 الذي ينتهي بدوره بالرقم نفسه.
فهو من أبناء مدينة “ريو دي جانيرو” في البرازيل، وأحد لاعبي فريق ” فلومينينس” الأعرق في بلاد الصامبا، كما سيدشن مع هذا الفريق مساره كمدرب، لكن للشبان في كل الفئات. وهنا تكمن الغرابة مرة أخرى، فخلال تدريبه لشبان “فلومينينس”، حقق ما عجز عنه كبار المدربين في البرازيل، من خلال انتصاراته المتواصلة في أغلب المباريات.
وعن هذه الغرابة، يحكي إدريس الكتاني بصفته السفير والمستشار الاقتصادي بالبرازيل في أوائل الثمانينات، أنه كان وراء جلب خوصي فاريا إلى المغرب، بعدما كلفه الملك الراحل الحسن الثاني عن طريق عبد اللطيف السملالي وزير الشباب والرياضة آنذاك، بالبحث عن مدرب برازيلي لتدريب فريق الجيش الملكي.. كان الكتاني الذي تحدث عن هذه القصة في بوح صحافي مع جريدة “أخبار اليوم”، قد وجد وقتها مدربين اثنين، ولما بعث بأسمائهما وسِيَّرهما للسملالي، أخبره هذا الأخير بأنه ينبغي تقديم 3 أسماء للملك.. وبعد عناء في البحث عثر على ملف كان بحوزته خاص بفاريا، لكن صاحبه لا يتوفر على أية شهادة أو دبلوم في عالم التدريب، فضلا عن افتقاره لسيرة مهنية، وبالتالي، كان ضم هذا الاسم إلى اسمي المدربين الآخرين، مجرد إجراء شكلي، مع فارق أن فاريا الذي لا يتوفر على ديبلومات للتدريب، كان يحمل أوصافا عند البرازيليين، ضمنها “المدرب الذي لا يهزم”.. وبالتالي، عندما وُضعت الأسماء الثلاثة أمام الملك الحسن الثاني، لم يعر أي اهتمام للمدربين البرازيليين الآخرين، وإن كانا يتوفران على مسار مهني جيد، ليختار فاريا، وهذه واحدة تنضاف إلى متواليات الغرائب في مسار الرجل.
لقد حقق المهدي فاريا، قبل حلوله بالمغرب، عدد من الإنجازات، باعتباره متخصصا في فهم عقلية الشبان والهواة، ولعل ذلك هو ما جعله يفوز مع كل فئات الصغار واليافعين والشباب لفريق “فلومينينس” بمعظم البطولات المحلية طيلة سنوات السبعينات.
فضلا عن ذلك، حلق إلى دولة قطر عام 1979، فأشرف على تدريب فريقه الوطني لأقل من 20 سنة، وشارك معه في كأس العالم للناشئين، فهزم كبريات المنتخبات العالمية كإنجلترا والبرازيل، محققا ما وصف وقتها بـ”المعجزة”، حيث أوصل فريقه إلى المباراة النهائية التي جرت عام 1981 في سيدني الأسترالية، ليخسر نهائي كأس العالم أمام ألمانيا الغربية، وهي نتيجة لم يكن يتوقعها أحد.
إن هذا الرصيد، وقدرة فاريا على قراءة عقول الناشئين والهواة، فضلا عن “بوهيميته” التي كان معروفا بها، هي التي كانت وراء اختياره من قبل الملك الراحل الحسن الثاني لتدريب فريق الجيش الملكي، والذي حقق معه أول لقب قاري للمغرب سنة 1985، قبل أن يسند إليه الملك بعدها تدريب المنتخب الوطني لكرة القدم، الذي كان يستعد لخوض المباريات الإقصائية المؤهلة لمونديال “ميكسيكو 86”.. ولأن الرجل داهية بكل المقاييس، فقد نفث من سحره على العناصر الوطنية، التي لم يكن أشد المتفائلين يرشحهم للتوغل في الإقصائيات، ففاجئوا كل المنتخبات التي واجهوها بعزيمة قل نظيرها، حيث فاز المنتخب المغربي على نظيريه السيراليوني بـ(1-0) في الذهاب، وبـ(4-0) في اللإياب، كما تعادل مع المالاوي في الذهاب وفاز في الإياب، وتعادل مع مصر في الذهاب وفاز في الإياب بهدفين نظيفين، والنتيجة بنفسها في مباراتيه ضد المنتخب الليبي.. ليجد نفسه في المونديال للمرة الثانية، ويحقق في المكسيك إنجازا تاريخيا ما يزال المغاربة والعرب والأفارقة عموما يتذكرونه بنوستالجيا خاصة.
لقد كان إنجاز المرور للدور الثاني في “ميكسيكو 86” عاملا أساسيا في التقارب الذي ميز علاقة الملك الراحل الحسن الثاني بالمهدي فاريا، إذ رغم اهتمام الملك وقتها بمدربي المنتخب الوطني، وربطه علاقات قوية معهم، إلا أن “عميد المدربين” الراحل “المهدي فاريا”، كان له حظ وافر من اهتمام الحسن الثاني، بلغت إلى حد تطور العلاقة إلى صداقة متينة بينهما.. ففي إحدى اعترافاته لـ”المساء”، كشف فاريا أنه كان يقابل الملك الحسن الثاني في مناسبات متعددة. “كانت للملك الراحل عادة أن يطلبني عندما يلعب الغولف في مسالك دار السلام بالرباط. كنت أرافقه صباحا على طول الملعب، ورغم أنني لم أكن أحب تلك الرياضة لأن كرة القدم بالنسبة إلي ملكة الرياضة، فإنني كنت أستمتع كثيرا بالتجول بين أحضان الطبيعة”، يقول فاريا، ليضيف عن مدى قربه الشديد من ملك كان يعشق كرة القدم، “كنا نتحدث عن كرة القدم ومواضيع أخرى مثل البرازيل ولم يكلمني باللغة الفرنسية بل بلغتي الأم البرتغالية مما سهل التواصل بيننا كثيرا. ذات يوم، اتصل بي من دار السلام لأقابله وكان الجو ممطرا وباردا. لم أكن أرتدي ملابس كافية وبدأت أرتعد من البرد. انتبه الملك إلى الأمر وخلع سترة صوفية كان يرتديها ووضعها على كتفي بحضور وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري الذي كان يعشق ممارسة الغولف”.
وعندما تمكن فريق الجيش الملكي الذي كان الملك الحسن الثاني يشرف عليه شخصيا من الفوز بأول لقب قاري له في تاريخه الكروي، انتقل عناصر الفريق العسكري إلى باريس برغبة من الملك لاستقبالهم هناك، حيث كان يقضي عطلته بإقامته بعاصمة الأنوار. وبحسب ما كشف عنه فاريا نفسه، عندما استقبل الملك أعضاء الفريق، فتح لهم علبة شوكولاطة، وقدمها لهم شخصيا، الواحد تلو الآخر. وفي الوقت الذي كان فاريا يتذوق “الشوكولاطة الملكية”، طلب منه الملك الالتحاق به، وما إن وصل إلى مكتبه، حتى سأله الحسن الثاني على انفراد عن رغبة يريد تحقيقها، آنذاك، فكر فاريا في تحقيق حلم كان يراوده دائما.. منزلا جميلا بالبرازيل يطل على البحر (المحيط الأطلسي).. ولأنه أمام ملك كريم وسخي، لم يتردد في الإفصاح للحسن الثاني عن حلمه.. آنذاك، نهض الملك من مقعده واتجه نحو خزنة بمكتبه، وأخذ ظرفا تم شرع في ملئه برزم مالية، وبعد أن أقفله سلمه إلى فاريا مهنئا إياها بمنزله الجديد.. لقد كان الراحل فاريا يردد هذه القصة دائما لأصدقائه والمقربين، إذ ظل يتذكرها إلى غاية وفاته في خريف 2013.