عباس فراق هذا الإسم السينمائي و المسرحي و الادبي الذي راكم سنوات من العطاء في مختلف مجالات الإبداع. يفتح قلبه و دفتر يومياته و ذاكرته لقراء المنعطف من خلال كتابه “زمن السعوب” الذي هو وجه آخر لسيرة ذاتية تقاطع فيها العام و الخاص، حتى إختلطت لحظاته، فحياة المبدع ليست ملكا له بل هي ملك للأخرين الشركاء في الحياة التي من أجلها أبدع و أعطى عصارة جهده الفكري. إذا تشرع جريدة المنعطف في نشر الجزء الأول من السيرة الذاتية للمناضل والكاتب والسينمائي عباس فراق ابراهيم والتي ركز في جزئها الاول على مرحلة “خربة زمران” كمحطة أولى في سيرته الشاملة ” زمن الشعوب ” ويتناول الكتاب من خلال مسار حياة المؤلف التحولات التي عرفها المجتمع المغربي خلال خمسينيات القرن الماضي وأهم المحطات التي شكلتها الأحداث الاجتماعية والسياسية التي شغلت الرأي العام واحتلت الذاكرة الجماعية للشعب المغربي. الحلقة الثانية: سكان خربة زمران كان يسكن الغرفة المجاورة لنا صاحبنا عباس وأختاه الضريرتان حليمة وعائشة اللتان تحترفان فن العيطة وتشتغلان في الأعراس والأفراح.وقد تعلمتا الغناء الشعبي والعزف على آلة الكمنجة و الدربوكة في مؤسسة خيرية للأيتام. كان الناس وبالخصوص أعيان المدينة يفضلون تنشيط أفراحهم ومناسباتهم العائلية بهذا الجوق النسائي الضرير عوض جوق ذكوري.فلم يكن اختلاط الجنسين في هذه المناسبات وغيرها من الأفراح مرغوبا فيه . أما عباس فقد كانت مهمته مساعدة أختيه واقتيادهما نحو مواقع الاحتفالات والعودة بهما عند نهايتها إلى الخربة. كانت حليمة تضع يدها اليمنى على كتف عباس ماسكة آلة الكمنجة باليد اليسرى كما تضع عائشة بدورها يدا على كتف أختها وكيس الدربوكة بيدها الأخرى. فكان الأطفال وهم يلعبون بباب الدرب لما يرونهم قادمين يصيحون تهكما: ـ ها ألتران جاي !… وعندما يغيب عباس لسبب ما , كنت أنتهز الفرصة لأطل على أختيه الضريرتين وأتفرج عليهما وهما تدخنان السجائر وتعتنيان بآلاتيهما الموسيقية… أما الغرفة المجاورة لغرفة عباس وأختيه فكان يسكنها الفقير علي مؤذن مسجد الحي مع زوجته خدوج الشيضمية .وهما ثنائي متناقض شكلا ومضمونا.فالسي علي المؤذن كان في مظهره متدينا تكاد السبحة لا تفارق يديه. كان قصير القامة بدين الجسم كثيف اللحية بينما كانت زوجته خدوج نحيلة و طويلة القامة ومدمنة على تدخين سجائر من نوع فافوريت بدون علمه. ولما يحين موعد عودة الفقير علي المؤذن من المسجد كانت خدوج تسرع إلى مضغ أوراق النعناع لإزالة رائحة التبغ من فمها. كان سكان الخربة لا يتدخلون مباشرة في شؤون بعضهم البعض الا إذا تعلق الأمر بضرورة حل بعض الخصومات العائلية التي تنشب وتطفو على السطح أحيانا وذلك لما كانت تسببه من إحراج وإزعاج لباقي الجيران و خاصة لما يتعلق الأمر بالعنف بين الأزواج …فأن يشبع أحد الجيران زوجته لكما ورفسا فهذه حالة تقع مرارا وتدخل ضمن سلطة الرجل المطلقة والمحمودة اجتماعيا أنذاك… وبجوار هذا الثنائي العجيب والمتناقض كانت غرفة فاطنة الكرصونة وابنها مصطفى الذي كان يكبرني سنا. كانت في ريعان شبابها, و تشتغل كخادمة لدى عائلة فرنسية بالحي الأوربي.كانت تدعي أن زوجها توفي في حادثة سير… وهو الأمر الذي كانت تشكك فيه باقي نساء الخربة … فقد كانت تروج بينهن مزاعم مفادها أنه لم يسبق لفاطنة أن تزوجت ولم يثبت أن كان لها زوج في يوم من الأيام… كنت أحب هذه الجارة التي كانت تعطيني من بقايا حلوى مشغليها , فهي التي أهدتني ذات يوم أول حذاء يستحق هذا النعت عرفته أقدامي.وسبب هذا الكرم أنه كان أصغر من مقياس ابنها مصطفى…وكم كانت فرحتي كبيرة بهذه الهدية ,فرحة الطفل المحروم لما تتاح له فرصة الحصول على أمنية طالما حلم بها,لدرجة أنني رفضت إزالة الحذاء وقت النوم لولا تدخل والدي الذي بعد التهديد كاد أن يستعمل معي وسيلة إقناع موجعة لإجباري على إزالته قبل الصعود على لحاف الحلفاء الوحيد الذي كنا ننام عليه نحن الثلاثة… والحقيقة أنني كنت أخشى أن يرجع الحذاء إلى صاحبته لسبب ما وأستيقظ في صباح يوم الغد بدونه … كنت محبوبا لدى سكان الخربة, أتجول بين غرفهم بكل حرية. ونظرا لصغر سني فغالبا ما كانت الجارات لا تأبه لحضوري وخاصة عندما يتبادلن أطراف الحديث حول بعض الأمور الحساسة. ومرة وقد ذهبت والدتي إلى حمام الحي وتركتني في رعاية خدوج الشيضمية سمعت هذه الأخيرة تتحدث مع فاطنة الكارصونة حول حياتهن الجنسية. كانت خدوج تتمتع بتدخين سجارتها وهي تنصت بتمعن إلى جارتها التي كانت تشكو من قلة توفر فرص إرضاء رغباتها الجنسية.مما كان يسبب لها إحراجا كبيرا … التفتت خدوج الشيضمية نحوي قائلة: ـ هانتي ها واحد الرويجل قدي معاه الغراض كاع ماغادي يعرفك أش كاد يري! ملأتا الغرفة ضحكا خاصة بعد أن أسرت خدوج لفاطنة بأن المؤذن علي لا يمارس معها الجنس الا ليلة الخميس ليبكر صباح الجمعة بالذهاب إلى حمام الحي ليغتسل استعدادا لصلاة الجمعة… ثم أخذتني فاطنة من يدي لتدخلني إلى غرفتها وتعطيني قطعة حلوى, لتسدل ستار الباب و تستلقي على ظهرها ويداها ممدودتان نحوي قائلة: ـ أجي نلعب أنا وياك قبل ما يجي ولدي مصطفى من الحضار… أما الطابق العلوي اليمني فكانت به غرفتان حيث استقرت بالأولى عائلة رحمانية تتكون من خمسة أفراد: ,الأم وبنتها وولداها وزوجة أكبرهم .كان الابنان يشتغلان في أوراش البناء بينما كانت مهمة الأم وبنتها زيادة عن الأشغال اليومية حراسة زوجة ابنها رقية التي كانت آية في الجمال. فقد كانت هذه الأخيرة غالبا ما تفر من البيت جراء القهر الذي يمارس عليها لتختفي في مبغى عرصة موسى الشهير…وكم من مرة كان الجيران يتفرجون على مشهد عودتها وهي معتقلة من طرف زوجها وأفراد عائلته. فكانوا يتناوبون على ضربها والانتقام منها لهروبها من بيت الزوجية.ومرة وبينما كان الزوج يجرها من شعرها رأيت الأم تعضها في ظهرها انتقاما لشرف ابنها الذي ضاع في مبغى عرصة موسى الذي أنشئ لتلبية حاجيات جنود المستعمرات الذين استقدمتهم الحماية لقمع الحركة الوطنية…