عرفنا المبدع عبد الله المناني كسيناريست و شاعر و قاص، فمن كان منا لم يسافر عبر إبداعاته السينمائية ،سافر في بحوره الشعرية، و من لم يتذوق حلاوة قصصه فاته الكثير ، و من سألته عمّن يكون يكون جوابه ” و هل يخفى القمر” و يكون صادقا، قمر في سماء الإبداع الأمازيغي أعطى الكثير للسينما و الشعر و الأدب الأمازيغي المكتوب. اليوم يضيف مولودا جديدا لدواوينه الشعرية، هذه الباقة اليافعة تحمل عنوان (وجه بشظاياي) yat tudmt s izlallayn inu. من إصدارات مطبعة سونتر أمبريمي أيت ملول- أكادير سنة 2014.
و قد صدر للشاعر ثلاث مجموعات شعرية قبل هذا الديوان تحمل العناوين الآتية :
– ساول س ءيغد 2003
– ءوراو ن ءومطا 2008
– تيمقا ن فاد 2010
و أحب أن أذكر بأن ديوان ” تيمقا ن فاد ” يعتبر تجربة مميزة و فريدة جمعت بين عملاقين في الشعر الأمازيغي الحديث، نتحدث هنا عن الكاتبين و الشاعرين الغنيين عن التعريف “محمد ءوسوس و عبد الله المناني”.
هذا الديوان الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم من أربعة عشر قصيدة مكتوبة بالحرف اللاتيني و تيفيناغ و جل القصائد و أغلبها عن المرأة أو لها، ما بين إهداء و وصف و موت و حياة. و نرى أن جل قصائد هذا الديوان تتميز بالإيجاز و الإختزال و تخلو من الإسهاب و التطويل الذي يعتبر العدو الأول للقصيدة و حجرة عثرة في طريق قراءة أي عمل شعري دون الشعور بالملل أو الكلل.
يبدأ الديوان بقصيدة طويلة بعنوانamaDal nm “عالمك” في هذه القصيدة يحكي لنا الشاعر عن تصوره لعالم المرأة هذه المرأة التي يمكن أن تكون وطنا، لغة، هوية، تاريخا ،حبيبة أو رفيقة ، و بمجرد أن تبدأ في قراءة أولى الأبيات تحملك نسائم الكلمات لعالم جميل وغريب عالم مبلل بأحلام أكثر غرابة و روعة،عالم خلق فقط لها –للمرأة- فنرى الموتى يقومون من مرقدهم ليرقصوا غيرة و حبا لها، فيدفن الشاعر نفسه حيا ليدخل عالم الرقصات رفقتهم.فجأة يتحول هذا العالم لحديقة غناء و يولد هو من جديد فيطلب منها أن تكون قلبه و أن تقرأ بعين الفؤاد ملامحه و عيونه، لتدرك مكانها في وجدانه و روحه. إبداع في التصور و بلاغة في التعبير جل نظيرها .
تتوالى القصائد ما بين تساؤلات و استفسارات الشاعر، تارة مع نفسه و تارة مع حلم أو خيال، و كلها تصب في نهر المرأة و بحورها، فلها فقط يكتب و لها فقط يبدع و لها يمرر الوديان و الينابيع في الصحاري و القفار، لتصب جميعها في بحر عيونها الغوالي .
D ixf inu( مع نفسي)- ID nm ( ليلك)- Mra km ufiv ( لو أني أعثر عليك )- Rad ttiriv ( سأحب)- Riv km ( أريدك) – tinfar nm ( شفتيك)- كلها عناوين لقصائد تصدح حبا و حنانا، تتقطر عسلا و شهدا تذوب لحنا و سحرا . سُحرنا بكلماتها و ذُبنا في جمال عباراتها و أصبحنا للقصيدة نُدماء و رفاق، ننهل من كؤوس عيونها و نسكر من لهيب أشواقها ، و كيف لا و الشاعر عبد الله المناني قد أحسن المعنى و أجاد الوصف و أبلغ في الرؤية و التعبير.
كنسائم صيف باردة ننتقل بين قصور أشعاره، نتيه في حدائق لطفه، نقطف وروده و أزهاره، نستمع لشكواه و أنينه، نعيش احساساته بكل ما تحمل من صدق و رهافة حس و وفاء، و ندرك كيف أرهقته هذه الأحاسيس و آلمته، حتى بات يرفض شاعريته و يكرهها و كيف يحبها و هي معذبته و جلادته، فبات يصبو أن يكون خالي الشعور والإحساس كجبل متبلد قاس . كل هذه الأحاسيس ليست من سراب لكنها نابعة من جراحات الأقربين إليه أصدقاء و أحبة ، و ما أصعبها من جروح لا تلتئم و لا تشفى مهما طال بها الزمان أو قصر.
حظه في الحب قليل و أمله في الرب كبير، يقع شاعرنا في متاهاتمن الشوق الممزوج بالألم حتى ظن نفسه في حرب ضروس مع الليل و الريح و الهواء ، فيظن نفسه دونكيشوت في حربه الضروس مع طواحين الهواء. فيحارب مُكِرا مُفِرا سلاحه فقط إحساس و قلم . لله يشكو ضعفه و قلة حيلته، و كل تمنياته لو أنه فقط يستطيع عنها الفراق فربما ينسى و في النسيان الدواء.
في رحلة مغامرات خيالية يحاول الشاعر عبد الله المناني العثور عن ذلك الوطن، عن تلك المرأة الحبيبة و الونيسة ،الغالية و النفيسة، فيجِدُّّ في البحث لنعثر نحن القراء على قصيدة بليغة قلما تجود بها قريحة أديب أو شاعر، بسيول متدفقة، و بعبارات منمقة ، بمسك الورود تفوح ، و يخيل إلينا أننا في حقل منسم بعبق زهور برية ، نعيش كنحل متنقلين بين زهور أبياتها، مأخوذين بسحر نسماتها و جميل ألوانها. دنيا جديدة رائعة. من هذا العالم ارتأيت أن أشاطركم هذه الأبيات الجميلة الفواحة :
rad gav udm nm
d tisit ad gis ttsurnt
tiwwurga n iD
iv iTTaS f tdiklt inu
سأجعل من محياك مرآة
تستريح فيها أحلام الليل
إن غفا فوق كفي
سيل من الرؤى و الأحلام، كأمطار صيف باردة تزخنا بها قصيدة تلو الأخرى، يلهبنا نسيمها، تذوبنازخاتها، قطرات حنونة و رشاشات من بَرَدٍ منضود كعقد لؤلؤي نفيس بين يدي صانع بارع. فيهوي علينا صانع هذه الأبيات شاعرنا عبد الله المناني بلطف أبياته و جودةعباراته، تارة يصف حبه و تارة يصف أهواله و مخاطره، فبين سحب ترعى في دمائه و عيون كالرحى تدور مسرعة ليخرج هو من بين أحجارها سالما معافى بلطافة حبات القمح الطري، ليصير عجينا بين يديها تشكله كما تحب و تهوى . هو لم و لن يعرف التعب يوما طريقا إليه سيظل يجدُّ في بحث أزلي عن مفاتيح كفيها رغبة منه في اصطياد ما ضاع منهما من أوقات جمعتهما معا، ليدرك أخيرا سقوط أعلام حبهما فيصبح هو سرابا ، و هي تظل تلمحه بأسى شديد فجر كل صباح جديد هناك في حاجبي الشفق البعيد.
و تتوالى القصائد تصدح بنيران العشق الأزلي، بصيحات آلام الفراق و أهوال المعاناة و الآلام و يظل شاعرنا صابرا ينوح و يتمنى الوصال، حتّىوصل به التمني أن أراد لامرأته أن تصير صغيرة بحجم الكلمة يكتبها كأغنية و يقرأها كابتسامة . و يظل في تمنياته هاته في عواصف من خيال و حقيقة . فجأة تتحقق أمانيه كلها ، و هاهي امرأته صغيرة كلحظة جميلة كعروس متسربلة بألوان قوس قزح لتحملها مرايا قلبه للبعيد.
Riv km
Ad timZit ar d km tamu tizi
أريدك أن تصيري صغيرةبحجم لحظة
إن تأملنا هذا البيت ندرك ما يرمي إليه الشاعر فهذه اللحظة هي كل ما يتبقى في الذاكرة هي ما نعيشه نتنفسه نحيا به، فكم من لحظات تمر على الإنسان بمرها و حلوها، لكن لا يبقى من ذكراها إلا تلك اللحظة المميزة التي أحسسنا دفئ أنفاسها و عطر آمالها، هي فقط ما يربطنا بماضينا الجميل بإبتسامة من ذهب.
urriv d (عدت)،tawrirt a taslit ( تاوريرت يا عروس)،tissumga ( العبودية)، maf km Zlin ( لم عزلوك )،nttni ( هم)، في هذه القصائد الخمسيتحدث الشاعر عن همومه كإنسان أمازيغي قح، يتحدث عن الأمازيغية لغة و هوية و تاريخ. فيصف نفسه في قصيدة العبودية كعبد لأحلامها التي ما ينفك يستفيق منها حتى يحمل إليه ليلها كل صفاتها و ملامحها من جديد، لتوقظ فيه تلك الجمرات الراقدة في الرماد، فتصحو معلنة اشراق قصيدة جديدة بعبق من أمل و تأمل.
القصيدة الأخيرة في هذا الديوان تحمل عنوان yat tudmt s izlallayn inu (وجه بشظاياي) و هي نفس القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها. قرأتها مرارا لأتذوقها و أحسها و أذوب في شظاياها ، ووجدت أن ما تحمله هذه القصيدة من أحاسيس يعادل أو يفوق كل قصائد هذه المجموعة الشعرية. و لأن الشعراء معروفون برهافة الروح والإحساس فنرى كلما امتزج الألم لديهم بالحب إلا و أعطانا إبداعا في التصور و التعبير، و هذا ما وجدناه في هذه القصيدة إحساس بديع و راقٍ شارك فيه الشاعر شخصا عزيزا على قلبه آلامه و عذاباته ، هذه العذابات التي خاطبها الشاعر بلهجة قاسية و حدثها طويلا و حثها على أن تبحث لها عن طريق آخر و جسد آخر، ألم تجد في كل هذه الدنيا الواسعة بابا تطرقه و روحا تسكنه غير ذاك الجسد الصغير و مرايا تلك الأنفاس البريئة. و كثيرا ما يَحدث للشاعر في تلك اللحظات المؤلمة أن يرى كل ما حوله يتحول في زمن قياسي لوحوش ضخمة مرعبة، فتتحول الألعاب و الدمى و الحصى و غيرهم لأشكال غريبة و مخيفة، و تعدو متمنيات الشاعر مسرعة ليتمنى أمنية أخيرة ألا و هي أن تصير النجوم صَبرا فيقطفها بلسما لجروح أنفاسه، و هو لم و لن يتوانى لحظة عن جمع مياه الأمطار كل الأمطار ليغير بها مجرى صيرورته و قدره . و لن يخجل من أن يستجدي الأقدار كل الأقدار و كل الآلهة و الأرباب من معجزة تجعله في مكان العزيز عليه و يصبح من يعزه في مكانه بجسده و روحه و نفسه. فلم تعد لديه القدرة ولا الإستطاعة لتحمل المزيد. آنذاك فقط سيرى نفسه محملا فوق أكتاف الموت و يسار به الهوينى لمصير مظلم دون ملامح أو صفات. فنرى شاعرنا و قد صار طائرا هائما بلا أفق و لا مأوى، فأي مكان يأويه و أي جناح يضمه و يشفيه ، غير ذاك العالم الذي يخيطه العزيز عليه بإبرة من سراب و خيط من ضباب و ثوب من عتاب. فجأة في جزء من لحظة يحتويه و يحيطه بكل الحب و العطف و الحنان ، في تلك اللحظات فقط سيزال عنه كل مكروه يخيفه و يتوجسه، فقط بتلك اللمسات الطيبة الشبيهة بلمسات أكف أم حنون .
– زهرة ديكر